Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عملاء أم وطنيون في المناطق الأوكرانية المحررة؟

كيف ينبغي أن تعامل سلطات كييف سكان البلدان التي تستعيدها من يد الروس؟

نازحون من مدينة بوكروفسك إلى مناطق أكثر أماناً بأوكرانيا في أغسطس 2022  (رويترز)

في 11 سبتمبر (أيلول) الماضي كان يفترض وفق برنامج معد سلفاً أن يحيي نجم البوب الشوفيني الروسي أوليغ غازمانوف حفلاً موسيقياً تحت عنوان "روسيا هنا للأبد!" وذلك في مدينة إيزيوم الأوكرانية الواقعة في منطقة خاركيف في شمال شرقي البلاد، وهي مدينة تعرضت لقصف عنيف واحتلها الروس في مطلع مارس (آذار) الماضي. ولكن قبل وقت قليل من اعتلاء غازمانوف المسرح، باشر الجيش الأوكراني هجوماً مضاداً ساحقاً لاستعادة خاركيف، فحرر إيزيوم وطرد القوات الروسية ذات التجهيزات العسكرية الهزيلة من مساحة 6 آلاف كيلومتر مربع.

لكن هذا الحفل لم يكن الشيء الوحيد الذي انتهى وأحبط بفعل الهجوم الأوكراني، إذ بعد الهزيمة الشائنة التي تلقاها جيش موسكو، أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استفتاء صورياً في المناطق الأوكرانية التي ما زال يحتلها، تحديداً في أجزاء من دونيتسك وخيرسون ولوغانسك وزابوريجيا. وأظهرت النتائج المزعومة أن غالبية كبيرة من الناس في تلك المناطق يؤيدون الانفصال عن أوكرانيا، وبعد أيام أعلن بوتين ضم المناطق التي أجري فيها الاستفتاء إلى روسيا رسمياً. لكن فيما كان يعلن هذا الأمر تابع الجيش الأوكراني تقدمه الناجح نحو الشرق، مسيطراً على مدن وبلدات عدة أعلنها بوتين للتو أراضي روسية. وتستعد القوات الأوكرانية راهناً لاستعادة بعض المناطق التي سيطر عليها الروس منذ بداية الحرب.

إنها أخبار ممتازة بالنسبة إلى أوكرانيا والحلفاء الغربيين. لكنها تطرح أيضاً مشكلة أمام كييف، إذ في شهر أكتوبر (تشرين الأول)، أعلن زيلينسكي أنه لا ينبغي على سكان المناطق المحتلة الأوفياء لأوكرانيا أن يخافوا من أي شيء. وذكر في هذا الإطار، "مقاربتنا كانت دائماً واضحة وعادلة وستبقى كذلك: إن لم يقم المرء بخدمة المحتلين ولم يخن أوكرانيا، فإن ما من سبب لاعتباره عميلاً". غير أن مسألة تحديد من هو العميل على نحو دقيق ربما تكون أكثر تعقيداً من طريقة المقاربة التي تحدث عنها زيلينسكي. فثمة طيف كامل يشمل الذنب والمسؤولية، يبدأ من الخيانة المباشرة ليصل إلى التعاون السلبي [التلقائي وغير المقصود مع العدو]. وسيحتاج زيلينسكي إلى النظر في ما هو مناسب من أشكال الموازنة بين التدابير العقابية والتدابير الهادفة إلى إعادة استيعاب السكان ودمجهم في مناطق مثل دونباس، حيث بقي عدد لافت من العاملين في الخدمة المدنية العامة بوظائفهم خلال الاحتلال. وتلك هي المناطق عينها التي بذلت الحكومة الأوكرانية فيها أقصى الجهود لاستيعابها ودمجها على نحو كلي منذ الاجتياح الروسي الأول عام 2014، بحيث حققت بذلك الأمر بعض النجاحات اللافتة. لذا فإن مقاربة مسألة العميل والعمالة بطريقة دقيقة ومدروسة ستكون بالغة الأهمية ضمن هذا السياق المستمر.

هاجس بوتين

في المراحل الأولى من الحرب احتلت روسيا مناطق قريبة من كييف وأجزاء أخرى من شمال أوكرانيا مثل تشيرنيهيف وسومي، حيث أظهر السكان هناك تجاه الغزاة عدائية هائلة. ومنذ انسحابها من تلك المناطق في شهر مارس، تركز روسيا على احتلال الجنوب الشرقي، المنطقة التي أظهرت فيها "قوة روسيا الناعمة" تاريخياً فاعلية أفضل مقارنة ببقية المناطق. ويشير بوتين إلى المنطقة المذكورة، المتميزة بمساحات شاسعة من السهوب وبالخط الساحلي الذي انتزعه القياصرة من السلاطين العثمانيين في القرن الـ18، باسم "نوفوروسيا"، أو "روسيا الجديدة". وعلى رغم حقيقة أن الإثنية الأوكرانية شكلت على الدوام أكثرية السكان هناك، إلا أن بوتين مهووس بفكرة أنها إقليم روسي سليب.

مسألة تحديد من هو العميل على نحو دقيق قد تكون أكثر تعقيداً من طريقة المقاربة التي أعلنها زيلينسكي

والحق فإن موضوع الهوية القومية في مناطق الجنوب الشرقي هو موضوع شديد التعقيد، ودرس كان ينبغي من بوتين تعلمه عام 2014، آخر مرة اجتاحت فيها روسيا جارتها الغربية. فقد أملت روسيا في ذلك الحين أن تضفي على توغلها في الأراضي الأوكرانية صورة انتفاضة محلية تشهدها "نوفوروسيا" التي تمتد من خاركيف في الشمال إلى أوديسا في الجنوب. لكن الكرملين لم يجد مجموعات كبيرة من السكان مؤيدة للحكم الروسي إلا في المنطقة الشرقية المعروفة بـدونباس التي تتضمن دونيتسك ولوغانسك. كما أن جيش بوتين لم يتمكن، حتى هناك، من السيطرة إلا على نصف الأراضي. وجاءت الأعوام الثمانية التالية لتعمق الانقسامات في تلك المناطق. كما أسهمت البروباغندا الروسية وصدمات الحرب الباقية في نفوس السكان بتوليد مواقف معادية جداً تجاه أوكرانيا في "جمهوريتي الشعب" بدونيتسك ولوغانسك. مقابل ذلك، وعلى المنوال ذاته، ارتفع منسوب مواقف موالية لأوكرانيا في جنوب شرقي أوكرانيا، وجزئياً نتيجة استثمارات كييف في البنى التحتية والخدمات الحكومية.

بيد أن استخبارات بوتين فشلت فشلاً ذريعاً في الوقوف عند تلك الديناميات كلها. فبدا الرئيس الروسي مقتنعاً بأن سكان مناطق الجنوب الشرقي سيرحبون بجيشه الغازي. لكن على العكس، واجه الروس تظاهرات صاخبة معادية للاحتلال في مختلف أنحاء المنطقة، خصوصاً في المدن الساحلية مثل بيرديانسك وخيرسون وميليتوبول.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأحبطت ردات الفعل تلك الغزاة الروس في الحقيقة، إذ بحسب المستشار البارز في معهد كينان  Kennan Institute التابع لمركز ويلسون ميخايلو ميناكوف حاولت الحكومة الروسية مواجهة هذه المقاومة عبر اعتماد مقاربة سبق أن لجأت إليها ضد السكان المتمردين في الشيشان، الإقليم القوقازي الروسي الذي حاول الانفصال في حقبة التسعينيات والعقد الأول من هذا القرن. واستخدمت القوات الروسية قنابل الغاز والرصاص الحي ضد المتظاهرين، واعتقلت الناشطين الموالين لأوكرانيا وقدامى الجيش وعائلاتهم. بعض هؤلاء جرى احتجازه لأجل غير مسمى، وبعضهم الآخر قتل ودفن في المقابر الجماعية مثل تلك التي يجري الآن اكتشافها في المدن المحررة مثل إيزيوم. وخلال فترة العنف المكثف تلك، تركت روسيا معابر فرار مفتوحة كي تدفع بقية السكان المؤيدين لأوكرانيا إلى "المغادرة الطوعية" من المناطق المحتلة. فكان النزوح هائلاً، وفقدت بعض المناطق المحتلة نصف سكانها. في المقابل جرت مكافأة السكان المحليين الأكثر تأييداً للروس بتنظيم احتفالات بالأعياد والمناسبات العامة الروسية. ووصلت شحنة من الرموز والشعارات التي تستعيد أمجاد الماضي المزعومة ["أمجاد" الحقبة السوفياتية]. وسعت موسكو إلى إقناع السكان المتبقين أن ما يحصل يمثل حياتهم الاعتيادية الجديدة. وعبرت اللوحات الإعلانية التي حملت لافتة "روسيا هنا إلى الأبد"، عن هذا الأمر بصراحة ومن دون مواربة.

الانحياز إلى طرف  

من أظهر استعداداً لاستقبال الجنود الغزاة من السكان المحليين في الأيام الأولى للاحتلال كانوا في الغالب من المتقاعدين الذين يشعرون بالحنين لحقبة الاتحاد السوفياتي. لكن ما إن راحت وطأة الحياة الطبيعية الزائفة تزداد ثقلاً، حتى بدأت تتزايد أعداد الأشخاص المناصرين للروس في شوارع وساحات بلدات أولئك السكان، ليلوحوا بالأعلام الصغيرة في احتفالات اليوم الوطني الروسي ويلصقون رمز Z (الذي يشير إلى تأييد الاحتلال الروسي) على سيارتهم. في كوبيانسك، بمنطقة خاركيف، تجمع فريق من المراهقين لانتزاع شعار الرمح المثلث الأوكراني (تريزوب) عن المركز الثقافي المحلي بواسطة المطارق، ثم أجروا مقابلات مع فريق قناة تلفزيونية روسية كان موجوداً في المكان متحدثين عن ازدرائهم لأوكرانيا.

ذلك يدل على أن أنماط الذين رحبوا بالاحتلال الروسي تتنوع في المناطق الجنوبية الشرقية المحتلة على نحو يعكس عموماً الفوارق والانقسامات التي ظهرت بين الناس منذ عام 2014. ففي خيرسون يندر التأييد العلني لروسيا، ربما بسبب الهجمات التي قامت بها المقاومة الأوكرانية وأزهقت أرواح متعاملين كثر. أما في منطقة خاركيف، فقد أشارت التقارير في الفترة المبكرة إلى أن خريطة الانحياز (لروسيا أو أوكرانيا) كانت متعادلة إلى حد ما، على رغم أن تلك التقارير جاءت بعد نزوح كثيف للسكان المؤيدين لأوكرانيا. وفي لوغانسك ودونيتسك يتمتع المؤيدون لروسيا الآن بقوة عددية ويسيطرون على المساحات العامة بعد أن رحل الوطنيون، أو قتلوا أو اعتقلوا. وثمة أنماط شائعة محددة من تلك التعبيرات تظهر هناك: ففي المدن والمناطق التي كانت منضمة على نحو جيد إلى الاقتصاد الوطني، تتميز المشاعر المؤيدة لأوكرانيا بالقوة. في المقابل يزداد التعاطف مع روسيا في القرى النائية والبلدات البائسة المحيطة بمناجم الفحم، حيث تندر الآمال الاقتصادية.

 

 

وكان المواطنون المحليون الذين أيدوا روسيا غادروا إقليم خاركيف ودونباس مع بدء الهجوم العسكري الأوكراني المضاد، ودخلوا من المعابر الحدودية إلى روسيا. وشملت هذه الهجرة الخارجية (إلى روسيا) نخبة من الخونة (أو المتعاملين) البيروقراطيين الذين يقودون سيارات مستوردة فارهة، كما شملت أيضاً أناساً بسيارات متهالكة من الحقبة السوفياتية، مما يشير إلى أن مناصري روسيا من الأوساط الأفقر يغادرون بدورهم. وشرح عدد من هؤلاء لصحافيين غربيين ما يشعرون به، فقالوا إنهم يخشون الاضطهاد، وقلقون على أمثالهم ممن تعاملوا مع الروس في منطقة خيرسون الذين قد يجدون أنفسهم فجأة متروكين في حال تقدم الجيش الأوكراني.

الموت للجلادين

هذه ليست مخاوف واهية، إذ أن أوكرانيين كثراً يطالبون بمعاقبة الذين تعاملوا مع الروس، وهم يشيرون إلى أن أوكرانيا تساهلت نسبياً مع الذين نظموا الاستفتاء الروسي الأول وغير الشرعي عام 2014 لتسويغ احتلال روسيا لنصف منطقة دونباس، وأنه عام 2022 ظهر كثيرون من أولئك الأشخاص عينهم كعملاء للروس مرة أخرى. وفي شهر مارس صادق البرلمان (الأوكراني) على قانون يجرم التعامل مع دولة معتدية، والوحيدون الذين استثنوا من هذا القانون هم الأطباء والعاملون في خدمات الطوارئ والمرافق. أما غيرهم من العاملين في الخدمات العامة، فيمكن محاكمتهم وفق القانون المذكور، وهذا على نحو لافت يشمل المعلمين والعاملين في قطاع الخدمات الاجتماعية.

على أن التحدي هنا يكمن في التحقق من مقاصد وأغراض أفراد كهؤلاء. قلة نسبياً من المسؤولين المنتخبين اختاروا التعامل مع الروس، لكن مع مرور الوقت عاد موظفون بيروقراطيون محليون عدة إلى وظائفهم (تحت الاحتلال الروسي). بعضهم قام بذلك ضمن موقف معلن، شاتماً الدولة الأوكرانية، لكن آخرين فعلوا ذلك مكرهين. ومن دون الالتفات إلى مسألة قبولهم بالأمر، نشرت الوسائل الإعلامية الروسية والانفصالية صوراً ومقاطع فيديو تظهر هؤلاء العاملين في القطاع الرسمي تحت العلم الروسي، وخلال ساعات تظهر صورهم في قنوات "تيليغرام" المؤيدة لأوكرانيا التي تراقب المتعاملين والمتعاطفين (مع روسيا) وتنقل معلوماتهم الشخصية إلى جهاز الأمن الأوكراني. وقد قامت روسيا بهذه الطريقة بحرق الجسور خلف أولئك الذين قبلوا بالاحتلال واعتبروه واقعهم الجديد.

هذا الأمر ربما يوقع بعض الأفراد الذين لم يكن هدفهم أيديولوجياً، بل حاولوا الحفاظ على وظائفهم. ألموت روتشوانسكي هي ناشطة دولية في مجال بناء السلام عملت منذ عام 2014 مع ناشطات نساء في شرق أوكرانيا دعمن المدنيين في المناطق المحتلة. وأفاد أشخاص كثر من معارف روتشوانسكي بأن بعض المعلمين والعاملين في المجال الاجتماعي بقوا في وظائفهم خشية أن لا يبقى أحد كي يساعد ضحايا العنف المنزلي والاغتصاب، الجرائم التي تكثر في مناطق الحروب. وهم بكلام إحدى الناشطات يعتبرون أولئك العاملين الاجتماعيين "كجزء من فريقهم" وليسوا عملاء للعدو. كما أنهم ينصحون بعدم تجريم كل من بقي في المناطق المحتلة.

من هنا فإن هؤلاء النسوة الناشطات يدعون إلى معاقبة الإداريين المحليين الذين تعاونوا مع المحتلين الروس وأسهموا في تنظيم الاستفتاء الأخير، إذ إن الدعوات إلى المحاسبة لم تتعاظم إلا في أعقاب التقارير التي تحدثت عن غرف التعذيب والمقابر الجماعية التي عثر عليها بعد تحرير إيزيوم وغيرها من المدن. فالأوكرانيون لن يتسامحوا إزاء العودة إلى الوضع القائم.

في الوقت ذاته، فإن البحث عن العملاء سيكون أكثر حدة في المناطق التي تواجه انهياراً بالبنى التحتية والإسكان والطاقة، حيث النزوح الجماعي والصدمات النفسية المتأتية بفعل الحرب. لذا ينبغي أن تتم مهمات تحديد العملاء ومعاقبتهم التي تتولاها الحكومة بشفافية ومسؤولية، وإلا ستتحول تلك المهمات إلى مصدر آخر لصدمات السكان الذين كابدوا وطأة الحرب. على أوكرانيا أن تتلافى العقاب الشامل لجميع أصناف المتعاونين المزعومين، فتحفظ حق الطعن والاستئناف وتلحظ الظروف التخفيفية. عملية كهذه إن جرت إدارتها بطريقة عادلة، من شأنها تعزيز مبادئ المسؤولية والمحاسبة والإنصاف وحكم القانون في المناطق التي تحررت من الاحتلال العدمي الروسي.

براين ميلاكوفسكي مستشار متخصص في النمو الاقتصادي والمرونة في أوكرانيا. حتى يناير (كانون الثاني) 2022، كان يقيم في سيفيرودونتسك، أوكرانيا.

"فورين أفيرز" 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2022

المزيد من آراء