Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

على شفير الكارثة: ماذا يمكننا أن نتعلمه من أزمة الصواريخ الكوبية؟

بعد مرور ستين عاماً على واحدة من أخطر أزمات الحرب الباردة، بماذا تفيدنا المناورات السياسية التي تخللتها

الأزمة الكوبية لم تسفر عن خاسر بل فازت فيها العقلانية، على حد تعبير مؤرخ للحرب الباردة (غيتي)

بعد بضعة أيام من بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، وتحديداً في 27 فبراير (شباط) أعلن فلاديمير بوتين وضع قوة الردع النووية لبلاده في حالة تأهب قصوى. وقال إن ذلك جاء على سبيل الاستجابة لـ"العدوان غير المقبول" من جانب حلف شمال الأطلسي (ناتو)، موضحاً أن الدول الغربية قد تعاني "عواقب غير مسبوقة على الإطلاق". وكرر تهديده حينما قام بتعبئة الجنود الاحتياطيين في 21 سبتمبر (أيلول). إن سياسة شفير الهاوية التي يتبعها بوتين تتم على مستوى لا مثيل له منذ الحرب الباردة. ويحذر الخبراء الاستراتيجيون السياسيون والعسكريون من أن العالم بات معرضاً إلى الإبادة النووية أكثر منه في أي وقت مضى منذ عام 1962.

وفي مثل هذا الشهر قبل ستين عاماً مضت، بدأت سلسلة الأحداث المسماة بـ"أزمة الصواريخ الكوبية"، التي تواجهت خلالها القوتان العظميان في العالم عبر مضيق فلوريدا، ولو استعدنا عبارة مستهلكة لتوصيف الوضع، سنقول إن العالم حبس أنفاسه. ومع أن بوتين قال أيضاً إن الفوز في حرب نووية غير ممكن، فإن قرع طبول الحرب يتواصل من خلال تهديدات مموهة، وغير مموهة كثيراً. ومن المفترض أن يكون دافع بوتين هو جعل "الناتو" يفكر مرتين حول مستوى تورطه في الحرب الأوكرانية.

بيد أن دوافع نيكيتا خروتشوف، الزعيم السوفياتي، في عام 1962 كانت أشد غموضاً. فلماذا قرر الاتحاد السوفياتي نصب صواريخ على جزيرة قريبة جداً من البر الرئيس للولايات المتحدة؟ لا بد أن خروتشوف، وهو سياسي ذكي، قد أدرك أن الرد الأميركي سيكون ضخماً ويتسم بالغضب، الأمر الذي دفعه في البداية إلى بذل جهود كبيرة من أجل إخفاء نشر الصواريخ. وإن من المهم بالقدر نفسه، نظراً إلى الوضع القائم في أوروبا الشرقية حينذاك [التساؤل] كيف استطاعت كل من القوتين العظميين التملص من المواجهة الحاصلة من دون خسارة ماء الوجه؟

وأخيراً، كان ينظر دوماً إلى تجنب الصراع حول كوبا على أنه انتصار للرئيس الأميركي جون أف كينيدي، لكن اليوم مع امتلاكنا الأفضلية في النظر إلى الأمر بعد ستين عاماً من وقوعه، هل كان ذلك صحيحاً فعلاً؟ وهل يتوقف هذا الحكم على من كتب السرد [التاريخي المتعلق بالأزمة]؟

في الرابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) من ذلك العام، كان ريتشارد هيسير، وهو رائد في سلاح الجو الأميركي، يعبر فوق جزيرة كوبا على ارتفاع شاهق بطائرة استطلاع من طراز "يو2". وكانت كوبا قد أصبحت في ذلك الوقت دولة اشتراكية تقف إلى جانب الاتحاد السوفياتي وتعتمد على مساعدات تلك القوة العظمى العسكرية والاقتصادية في أعقاب إطاحة فيديل كاسترو الديكتاتور الجنرال فولغينسيو باتيستا المدعوم من قبل الولايات المتحدة في عام 1959، لكن خلافاً لمعظم الدول التابعة للاتحاد السوفياتي، كانت هذه الدولة على مسافة 90 ميلاً بحرياً (167 كيلومتراً) فحسب من ساحل الولايات المتحدة. هكذا قرعت الحرب الباردة باب الولايات المتحدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ونظراً إلى قلق الولايات المتحدة من أن الاتحاد السوفياتي كان يرسل معدات عسكرية إلى كوبا، كانت الطائرات الأميركية تحلق فوق الجزيرة منذ الصيف. وعندما تم تحميض الصور التي التقطتها طائرة "يو2" التي قادها الرائد هيسير، كان من الواضح أن الاتحاد السوفياتي لم يكن يزود الكوبيين بالمدافع والسفن والطائرات فقط، بل كان السوفيات يقومون أيضاً بإنشاء مرافق لتجميع الصواريخ النووية وإطلاقها. وهذا يعني أنه حالما تصبح الصواريخ في وضعية التشغيل، فإن محور الحرب الباردة سيشهد تحولاً كبيراً على المستويين السياسي والعسكري. ودعا كينيدي على الفور إلى اجتماع لجنة تنفيذية لمجلس الأمن القومي (Excomm).

ولقد احتار الخبراء الاستراتيجيون والمؤرخون في تفسير المنطق لهذه الخطوة. لا بد أن خروتشوف قد أدرك أن الولايات المتحدة سترد على محاولة كهذه لزعزعة نظام الحرب الباردة. وفي فترة ما، وبمجرد أن أصبحت الصواريخ في وضعية التشغيل، سيتعين على الاتحاد السوفياتي الكشف عن وجودها هناك، باعتبار أنه ليس لها غرض آخر سوى التهديد باستخدامها. وكان الأساس الكامل لعقيدة "التدمير المتبادل المؤكد" هو أن الجانبين كانا يعرفان قدرة الطرف الآخر.

هناك عديد من النظريات. هل كان خروتشوف يتحدى كينيدي لإثبات قدرته على تنفيذ تهديداته؟ هبطت في عام 1961 مجموعة من الكوبيين المعارضين لثورة كاسترو الذين يعيشون في المنفى، بدعم سري من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، في خليج الخنازير على الساحل الجنوبي لكوبا مصممين على إطاحة كاسترو. ولقيت تلك المحاولة الفشل، مما أدى إلى تعزيز موقف كاسترو وإحراج إدارة كينيدي بشكل علني.

لطالما شعر خروتشوف بعدم الارتياح بسبب وجود أسلحة نووية أميركية في أوروبا الغربية وأجبره قيام واشنطن في عام 1961 بنشر صواريخ في تركيا، التي يفصلها البحر الأسود عن شبه جزيرة القرم، على التصرف أخيراً. وكان قد أعلن أن نشر الأسلحة على ذلك النحو كان "استفزازاً لا يطاق".

وتقول القصة إن خروتشوف كان يسير على الشاطئ في مدينة فارنا البلغارية، حين قرر أن ينصب هو الآخر صواريخ في باحة العدو الخلفية. ونسبت إليه عبارة شهيرة هي "دعونا نلقي بقنفذ في بنطال العم سام". وبهدف اختيار ساحة متكافئة، قرر خروتشوف إرسال صواريخ سوفياتية إلى كوبا. وتشير الأدلة التي يحفل بها الأرشيف التاريخي بأن خروتشوف قد راهن على أن يرد كينيدي بطريقة غير حاسمة. ولمح مستشاروه أن الرئيس الأميركي كان جباناً، كما أنه "ذكي للغاية بالتالي ضعيف للغاية"، بحسب ما جاء في أحد التقييمات. ورأى خروتشوف أن كينيدي "سيثير بعض الجلبة، وبعدها يحدث بعض الضجيج، ومن ثم يوافق". هكذا شعر السوفيات بمزيد من التشجيع، وتوقعوا أن يقبل الرئيس الأميركي الأسلحة على أنها أمر واقع.

لكن ربما كانت هناك دوافع أخرى لدى خروتشوف؟ في ذلك الوقت خمن كينيدي واللجنة التنفيذية لمجلس الأمن القومي أن الزعيم السوفياتي كان يحاول التوصل إلى حل لصراع الحرب الباردة في ألمانيا. وكانت برلين حينذاك مقسمة بين قوى الحلفاء الأربع الظافرة في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وأدى هذا إلى ترك برلين الغربية، الخاضعة لسيطرة الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، في عمق أراضي ألمانيا الشرقية المدعومة من الاتحاد السوفياتي. واعتبر السوفيات ذلك بمثابة التهديد لهيمنتهم في أوروبا الشرقية.

 

ثبت أن حصار برلين الغربية في أواخر أربعينيات القرن الماضي كان غير ناجح، الأمر الذي جعل خروتشوف ينظر في خيارات أخرى. وكان قد أمر سلفاً ببناء جدار برلين لكي يعزل الجزء الغربي من المدينة. وربما كانت استراتيجيته تتمثل في استعمال الصواريخ في كوبا كورقة للمساومة على نقل الاتحاد السوفياتي تلك الصواريخ إذا غادر الحلفاء الغربيون برلين. يرى فيليب زيليكو الدبلوماسي الأميركي السابق ومؤرخ الحرب الباردة أن تلك "كانت حجة لها مقومات". ويضيف أن "برلين الغربية كانت ذات أهمية استراتيجية أكبر بكثير من كوبا بالنسبة إلى خروتشوف ولذا فهو كان سيرى المقايضة [بينها وبين كوبا] على أنها انتصار". واستبعدت هذه الحجة في أعقاب الأزمة لأن وضعية برلين الغربية بقيت على حالها من دون تغيير، إلى أن جرى إحياؤها في عام 1999 على يدي زيليكو في كتابه المعنون "جوهر القرار: شرح أزمة الصواريخ الكوبية" الذي ألفه بالاشتراك مع غراهام ويلسون. وجادلا فيه بأن تركيز الاتحاد السوفياتي كان منصباً على فنائه الخلفي هو، أي كانت برلين بالنسبة إليه أكثر أهمية من هافانا، وكان من الممكن التضحية بكاسترو أكثر من ألمانيا الشرقية.

وكان خروتشوف أيضاً على دراية بوجود "فجوة [في القدرة] الصاروخية". ففي عام 1962، كان لدى الاتحاد السوفياتي عدد قليل جداً من الصواريخ القادرة على الوصول إلى الولايات المتحدة (باستثناء آلاسكا). في غضون ذلك، كانت الولايات المتحدة تملك نحو 200 سلاح بعيد المدى. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل كانت الصواريخ السوفياتية أقل دقة وأقل جدارة بالثقة. وكان نصب الصواريخ في كوبا يعني تأمين فرصة أكبر لضربة ناجحة.

ويقول كارل وارنر، مؤرخ الحرب الباردة وأمين الجناح الخاص بها في متحف الحرب الإمبراطوري، "هناك بعض الحقيقة في هذه النظريات كلها. ويتعلق فن الحكم بإقامة توازن بين هذه الأولويات المتنافسة التي تكون في بعض الأحيان متناقضة. فهل تكون المغامرة آمنة؟ لقد أظهر خليج الخنازير أن كوبا كانت في حاجة إلى الدفاع عنها، لكنه أظهر أيضاً نقاط ضعف كينيدي الواضحة. وحين التقى خروتشوف كينيدي للمرة الأولى، اعتقد أن الأخير كان هشاً إلى درجة تجعل التغلب عليه سهلاً. وفي هذه الأثناء، ظن كينيدي أنه سيكون من الصعب التعامل مع خروتشوف". لقد تمت صياغة القرارات على أساس هذه الانطباعات الأولية. ويضيف وارنر "لذلك، اعتقد خروتشوف على الأغلب أن الأمر يستحق المغامرة بنصب الصواريخ هناك كورقة للمساومة".

إذن هل كان الأمر يتعلق على الإطلاق ببرلين، كما اعتقد الأميركيون؟ يرد وارنر بأنه كانت هناك صلة "جزئية، بيد أنه سيكون من الخطأ رؤية أي من هذه النظريات على أنها المحفز الوحيد".

وأياً كانت دوافع خروتشوف، فإن أفعاله عن عمد أو من دون قصد مضت بالكوكب أقرب إلى الإبادة النووية مما كان عليه في أي وقت مضى. وتم اختبار الدبلوماسية الدولية إلى حدها الأقصى خلال أواخر أكتوبر 1962، وهي في هذه المرة انتصرت، ولكن كيف؟ هل تراجع الخصمان عن شفير الهاوية في خطوة أنانية (أو حتى متفانية) للحفاظ على الذات؟ أم أنه كانت هناك مسائل أخرى على علاقة بما يجري؟ أو هل كان الأمر عبارة عن لعبة شطرنج دبلوماسية لن تسفر على الإطلاق عن نتيجة سلبية، وكانت حصراً حول ما يستطيع أي طرف أن يقتنص من الآخر؟

تمثل رد كينيدي الأول على اكتشاف الصواريخ في إبلاغ الشعب الأميركي بالأمر في خطاب متلفز في 22 أكتوبر. وأوضح أن الولايات المتحدة ستلجأ إلى القوة العسكرية من أجل القضاء على التهديد كما أنه سينشر الأسطول الأميركي لفرض حصار على كوبا. ولن يسمح لشيء سوى الإمدادات الإنسانية بالمرور إليها. وأطلق كينيدي على ذلك اسم "حجر صحي" فيما وصفه خروتشوف بـ"القرصنة".

 

وكان هناك قدر كبير من النقاش حول ما إذا كان وجود الصواريخ في كوبا يشكل تهديداً حقيقياً للولايات المتحدة أكثر مما لو وضعت الصواريخ في مكان آخر، لكن تمثل التحدي السياسي بالنسبة إلى كينيدي واللجنة التنفيذية لمجلس الأمن القومي في كيفية تحقيق عملية نزع الصواريخ من كوبا من دون استخدام الجيش فعلياً وما سيرافق ذلك من احتمال اندلاع حرب نووية. كان كينيدي على دراية بأن خروتشوف كان مصيباً في شأن الصواريخ الأميركية في تركيا، ولم يكن يريد الظهور بمظهر المنافق. وبدوره، لم يرغب خروتشوف الماكر هو الآخر أن يظهر بذاك المظهر. وكل منهما يعلم أن أفعالهما في الأيام المقبلة ستنعكس على أخلاقيات الأيديولوجيتين المتناقضتين اللتين يتبناهما الزعيمان.

وإذ أبقي الأمر خافياً إلى حد بعيد على اللجنة التنفيذية لمجلس الأمن القومي، وبقية العالم كله تقريباً في الواقع، فإن الرئيس وأقرب المقربين منه، شقيقه روبرت كينيدي المدعي العام، فتحا قناة خلفية للمفاوضات مع موسكو عبر السفير السوفياتي [أناتولي] دوبرينين. وقد رتب دوبرينين اجتماعاً في البيت الأبيض في 18 أكتوبر - قبل خطاب الرئيس إلى الشعب الأميركي - بين كينيدي وأندريه غروميكو وزير الخارجية السوفياتي الذي كان في نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.

لم يكشف كينيدي في تلك المرحلة لغروميكو أو لدوبرينين عن أنه كان على علم بوجود الصواريخ، إلا أنه أوضح أن الولايات المتحدة لن تشكل تهديداً للنظام الكوبي. ومن جانبه، أصر غروميكو على أن المساعدة العسكرية السوفياتية لكوبا كانت دفاعية ولا تمثل تهديداً. مضى كل من كينيدي وغروميكو بعد الاجتماع وهو يشعر أن الطرف الآخر مستعد للتحدث. وكانت تلك نقطة تحول حاسمة. واستنتج كينيدي أن الصواريخ لن يجري إطلاقها ما لم توجه الولايات المتحدة ضربة أولاً. كان ذلك تقييماً مدروساً للاجتماع وكان على الأرجح صحيحاً. وكان هذا يعني أنه يمكن للرئيس أن يعارض عسكرييه الذين أرادوا شن هجوم على كوبا.

وقبل أن يوجه كلمته إلى الشعب الأميركي، كشف كينيدي لدوبرينين عن أنه كان على علم في شأن الصواريخ. وعلى ما يبدو، جلس دوبرينين في مكتبه في السفارة السوفياتية لمدة 15 دقيقة قبل أن يبلغ الكرملين بذلك. واستشاط خروتشوف غضباً. وقال "إذا هاجموا، سنرد"، بيد أن كلامه كان تبجحاً لا قيمة له أطلقه رداً على انكشاف أمره، أكثر من كونه تهديداً حقيقياً بشن حرب مباشرة. وفي هذه المرحلة، جاء دور مناشدات كينيدي لغروميكو كي تفعل فعلها، فقد أعرب وزير الخارجية السوفياتي لخروتشوف عن اعتقاده أن كينيدي لن يهاجم أولاً.

في الساعة 10.25 من صباح 24 أكتوبر، نقلت الاستخبارات الأميركية لكينيدي أن السفن السوفياتية قد توقفت كما يبدو على مسافة قصيرة من طوق الحصار البحري المضروب [حول كوبا]. وقال دين راسك وزير الخارجية "أعتقد أن الشخص الآخر قد تراجع [عن المواجهة] للتو". كان هناك شعور بالارتياح، إلا أن الصواريخ الموجودة سلفاً في كوبا كانت لا تزال بالطبع هناك، على رغم أن الاتحاد السوفياتي كان مستمراً في إنكار وجودها في مجلس الأمن الدولي في نيويورك. كان خروتشوف في حاجة إلى مخرج من الأزمة.

وكذلك كينيدي، الذي قدر مستشاروه أن غزو كوبا سيكبد الولايات المتحدة 18500 إصابة [بين قتيل وجريح]. لم يكن بمقدوره أن يوافق على ذلك ولا سيما مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي. وتطلب الأمر مزيداً من التدخل عبر القناة الخلفية. وجاءت المبادرة هذه المرة من الجانب السوفياتي. ففي 26 أكتوبر تمت دعوة جون سكالي، المراسل الدبلوماسي لتلفزيون "أي بي سي" ABC للقاء ألكسندر فومين، وهو عميل للاستخبارات السوفياتية KGB، كان يعمل في السفارة السوفياتية تحت اسم مستعار، على مائدة الغداء في مطعم أكسيدنتال المجاور لفندق ويلارد في واشنطن. على رغم أن تلك لم تكن عملية تواصل رسمية من جانب الكرملين، فإنها بدت كمحاولة لجس النبض. قال فومين إنه إذا وعدت الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا، فسيجري نقل الصواريخ. وأبلغ سكالي ذلك على الفور إلى راسك الذي نقله إلى الرئيس.

وفي وقت لاحق من ذلك المساء، وصلت رسالة من الكرملين تنص على الشيء نفسه مع إضافة الكلمات التالية "ينبغي علينا وعليكم ألا نشد طرف الحبل، الذي ربطنا به عقدة الحرب". ووصف روبرت كينيدي محتوى الرسالة بأنه "طويل وعاطفي"، واعتقدت الولايات المتحدة أن خروتشوف نفسه قد أملى الرسالة. وفي فجر اليوم التالي، اجتمع روبرت كينيدي مع دوبرينين، مرة أخرى. وذكر السفير السوفياتي هذه المرة صواريخ الولايات المتحدة في تركيا. وعندها أشار شقيق الرئيس، وبموافقته، أنه ربما كان من الممكن إبرام صفقة بهذا الشأن. كان كينيدي ماهراً، إلا أن خروتشوف لعب في اللحظة الأخيرة ورقة رابحة. فهو الآخر بات حالياً في وضع تراجع.

ويشير وارنر إلى أن "للوسطاء دوراً حيوياً". ويضيف "يحتاج الطرف الآخر إلى معرفة أن ما يصغي إليه يأتي من أعلى سلطة، وأن المعلومات حقيقية، ذلك أن ما كان يقال في القنوات الخلفية تباين مع ما كان يقال في العلن، وكانت هناك حاجة إلى وسيط نزيه، ودوبرينين يمكن الوثوق به، كما أن السرعة مهمة أيضاً، ومدى سرعة وصول المعلومات إلى أولئك الذين يحتاجون إليها؟ على سبيل المثال، حينما تلقى الأميركيون الرسالتين المتناقضتين فإن بينهم من اعتقد أن ذلك كان دليلاً على أن خروتشوف قد أطيح في انقلاب. لم يكن الأمر كذلك، كما أكد دوبرينين. ولهذا فإن القدرة على الوثوق [بالآخر] كانت ذات أهمية حيوية. كان دوبرينين جزءاً من ذلك، شأنه شأن روبرت كينيدي".

ويشير وارنر هنا إلى رسالة ثانية وصلت من الكرملين في 27 أكتوبر، أي بعد يوم من ورود الرسالة الأولى، وذكرت الرسالة هذه المرة أن الصواريخ التركية هي ثمن إزالة الصواريخ الكوبية. كان عديد من أعضاء اللجنة التنفيذية لمجلس الأمن القومي غاضبين. أما الأخوان كينيدي فكانا يعرفان أنهم [السوفيات] قد اقترحوا في الليلة السابقة خطة كهذه، إلا أنهما أبقيا الأمر سراً على أعضاء اللجنة. وقال الرئيس كينيدي للجنته إن "أي شخص عاقل لن يرى في هذا [المطلب السوفياتي] أمراً غير معقول". على عكس تقييم اللجنة التنفيذية، رأى الرئيس أن إزالة الصواريخ من تركيا كانت الثمن الذي يجدر دفعه من أجل تجنب حرب نووية.

 

وبعد ذلك حصل تطور رفع درجة التوتر، فقد تم إسقاط طائرة استطلاع أميركية فوق كوبا، مما أسفر عن مقتل قائدها الرائد رودولف أندرسون جونيور. كيف سيكون رد فعل الطرفين؟ كتب روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأميركي بأنه كان يعتقد أن 27 أكتوبر هو آخر يوم سبت سيراه على الإطلاق، لكن على رغم أن القاذفات الأميركية بقيت تحلق في الأجواء، فإن الطيران السوفياتي لم يرد بالمثل. وكانت سفن الأسطول السوفياتي هي الأخرى تغير مسارها. ولربما كانت هناك نافذة فرصة قد فتحت.

وفي وقت مبكر من ذلك المساء التقى مندوبون عن الطرفين سراً في مكتب المدعي العام في واشنطن دي سي، وذلك بموافقة كينيدي وخروتشوف، وأشيع مرة أخرى أن سكالي وفومين كانا بين هؤلاء المندوبين. كانت تلك دبلوماسية الحرب الباردة في أقصى حالاتها سرية، شيء شبيه بالأفلام. طالبت الولايات المتحدة بمعرفة سبب وصول الرسالتين من الكرملين. ورد السوفيات بأن ذلك كان مجرد خطأ في الاتصالات. ولم يعرف أي من الطرفين ما إذا كان الآخر يكذب. لا بد للقرارات بأن تتخذ على أساس الثقة مع الكثير من الآمال بالتوفيق، ولكن تمت في النهاية بلورة الشروط على رغم أن أعضاء اللجنة التنفيذية لمجلس الأمن القومي لم يكونوا طرفاً في الصفقة.

وفي الساعة الثامنة مساءً، أجابت الولايات المتحدة على رسالة الكرملين الأولى برد اشتمل على ضمانات بأن كوبا لن تتعرض للغزو إذا سحب الاتحاد السوفياتي صواريخه. لم يأت الرد على ذكر المقايضة حول تركيا، إذ لم تشأ الولايات المتحدة أن تظهر بمظهر الذي استسلم أمام الاستفزاز، لكن هل يقبل خروتشوف بذلك؟ وهل سيبدو الأمر علناً وكأنه قد تراجع؟ كان هناك فقط بعض الأمل، ولم تكن هناك توقعات.

وفي صباح اليوم التالي أعلن راديو موسكو أنه سيجري تفكيك الصواريخ الكوبية. ومن جانبها، أعلنت إذاعة صوت أميركا بأن الحصار سينتهي عندما تنتهي عملية نقل الصواريخ وحينها ستتراجع قوتها الغازية أيضاً عن حالة التأهب. وأعلن فيدل كاسترو أن خروتشوف كان "ابن عاهرة، ابن حرام، وشخصاً قذراً" لأنه جعله يبدو وكأنه ألعوبة في يد الكرملين. ولم يبلغ أحد تركيا بأي شيء حتى بدأت عملية إزالة الصواريخ في عام 1963 بذريعة انتهاء مدة خدمتها.

وفي العام نفسه، تم تركيب خط اتصالات ساخن بين البيت الأبيض والكرملين، فقد صارت المجازفة بإساءة التفسير أكبر مما يجب. ولا يزال الخط موجوداً ويجري اختباره يومياً.

يسجل التاريخ كما يبدو أن كينيدي كان هو الفائز، فقد تمت الاستجابة لمطالبه وهو "أنقذ العالم". لقد كان فعلاً سياسياً ماهراً، لكن تجاهل دور خروتشوف سيكون نوعاً من التقصير. كان المكتب السياسي للحزب الشيوعي أيضاً على علم بأن نزع الصواريخ من تركيا سيجري حتى ولو لم يعرف العالم على نطاق واسع بذلك. ومع أن الزعيم السوفياتي سيطاح من السلطة بعد عامين، لن يذكر أحد في معرض الدفاع عنه التنازلات التركية التي ساعد في فرضها على كينيدي. ويشير وارنر إلى أن [خروتشوف] "لزم الصمت، لأنه كان يعرف بفضل القراءة بين السطور بأن الصفقة كانت هشة". ويضيف "لو حول الأمر لاستعراض علني لعرضها للانهيار". وبالمثل أبلغ كينيدي سكالي بوجوب عدم ذكر تركيا في تقاريره التلفزيونية. فهو الآخر قد أدرك أيضاً أن تسريب أي كلمة قد يجعل الأمر يبدو وكأن الولايات المتحدة قد تراجعت الأمر الذي يفضي إلى إفساد الصفقة.

 

ويتابع وارنر "بشكل ما، فاز الطرفان. إن هذا النوع من المواجهة كان، كما يفيد التفكير بالأمر بعد كل هذه السنوات، ضرورياً لتطبيق التغييرات المطلوبة من أجل تجنب صراع مماثل... لم يكن طريقة لحل أزمة دولية. ينبغي أن يجري ذلك بشكل أفضل في المستقبل. لهذا كان من المريح من نواح عديدة أنها حصلت. لقد أخضع [هذا النوع من المواجهة] كلاً من الطرفين إلى الاختبار ولحسن الحظ أنه كان لكل منهما ممثلون معقولون ذوو رؤية. لقد كان فوزاً للعقلانية".

وسادت الأسطورة القائلة إن كينيدي لم يتنازل عن شيء، لكنه فعل ذلك. إلا أنه احتاج إلى السرية نظراً إلى معرفته بأن الأمر سيلحق الضرر بمكانته ويقود حلفاءه في "الناتو"، بمن فيهم تركيا، إلى التشكيك في التزامه. لقد مضى الرجلان معاً إلى شفير الهاوية، فحدقا فيها، ثم تراجعا عنها يداً بيد. لم يرغب أي منهما في الحرب.

ويلفت وارنر إلى أن "ذلك كان الأمر الحاسم. فكل من الرجلين كان عقلانياً وناضجاً".

ويضيف وارنر "أظهرت تلك الطبقة من الحكومة المدنية قيمتها خلال أزمة الصواريخ الكوبية. لن نعرف على الإطلاق كم اقتربنا من حرب نووية في عام 1962، لكن الإنصاف يقتضي القول إننا اقتربنا أكثر من أي وقت مضى".

وعليه، هل ثمة بصيص أمل حين يسود الاعتقاد بأننا اليوم قريبون من حرب نووية كما لم نكن منذ 1962؟ ولدى مايكل دوبس، وهو مؤلف كتاب بعنوان "دقيقة قبل منتصف الليل: كينيدي وخروتشوف وكاسترو على شفير حرب نووية"One Minute to Midnight: Kennedy،Khrushchev and Castro on the brink of nuclear war، الكلمات التالية عن تلك المواجهة الحاسمة خلال الحرب الباردة. يقول "تبقى الأزمة هي الدراسة الأفضل توثيقاً لصناعة القرار الرئاسي وقت الخطر القومي الأكبر. إنها تقدم لصناع السياسات رؤى فريدة. ولمنع لحظة كهذه من الحدوث مرة أخرى، وبوسعنا أن نفعل ذلك، نحن في حاجة إلى مواصلة دراسة أزمة الصواريخ الكوبية". ويضيف دوبس بشكل يدعو إلى قدر أكبر بقليل من القلق، بأنه لو كان قادة آخرون يمسكون بزمام الأمور في أكتوبر 1962 "كان يمكن للنتيجة أن تكون مختلفة للغاية".

إن الدروس المستخلصة من أزمة الصواريخ الكوبية كثيرة ومتنوعة. واتباع طريق المقاومة الأقل حين يتوفر، هو أحد هذه الدروس. فهل بوتين طالب مجتهد كفاية؟

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل