Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأرجنتيني روبرتو آرلت الرائد المجهول للواقعية السحرية

"المجانين السبعة" رواية التساؤل والقلق المضني والبحث عن منافذ هواء لفهم العالم

الروائي الأرجنتيني الرائد المجهول روبرتو آرلت (دار الرافدين)

"المجانين السبعة" هي الرواية الثانية للكاتب الأرجنتيني روبرتو آرلت، بعد أولى هي "اللعبة المجنونة"، وقبل ثالثة هي "قاذفات اللهب". وقد صدرت أخيراً باللغة العربية عن دار الرافدين في بغداد، بتعريب محمد صبري، بعد نيف و90 عاماً من صدورها باللغة الإسبانية. وإذا كانت العلاقة بين الروايتين الأولى والثانية لا تتعدى الشهادة على العالم المرجعي نفسه من منظورين روائيين مختلفين، فإن العلاقة بين "المجانين السبعة" و"قاذفات اللهب" هي علاقة عضوية تكاملية، بحيث ذهب بعض النقاد إلى أنهما جزآن لرواية واحدة. على أن الكاتب، في رواياته الثلاث وما تلاها من قصص قصيرة ومسرحيات، يصور المجتمع الأرجنتيني في عشرينيات القرن الـ20، وما يتردى فيه من أعطاب بنيوية ومشكلات وجودية، أرخت بثقلها على أفراده، فراحوا يتلمسون بارقة أمل في عالم مثقل بالحروب والنزاعات.

 وآرلت روائي وقاص وكاتب مسرحي وصحافي ومخترع أرجنتيني. ولد في بوينس آيرس في 26 أبريل (نيسان) 1900 لأب ألماني وأم إيطالية، وتوفي فيها في 26 يوليو (تموز) 1942. طرد من المدرسة في الثامنة من العمر، وتقلب في مهن مختلفة، قبل أن يحط رحاله في إحدى الصحف. والمفارق أنه، على تعدد اهتماماته، لم يحظ باهتمام الدارسين والنقاد في حياته، وأن ما حظي به من اهتمام حصل بعد موته، فبعد مرور أكثر من 80 عاماً على وفاته، "لم يعد هناك شك في أهمية أعماله الروائية، وكونه رائداً مجدداً ليس في بلده الأرجنتين فحسب، بل في عموم أميركا اللاتينية"، على حد تعبير عبدالهادي سعدون في مقدمة الرواية (ص 7).

 يعزو سعدون عدم التفات النقاد إلى أعماله في حينه إلى "خصوصية أعمال آرلت وتمايزها العميق عن أنماط الرواية آنذاك"، من جهة، وإلى شخصيته الخلافية الصدامية، من جهة ثانية. على أنه ما إن هل عقد الخمسينيات، حتى صدر الكتاب النقدي الأول عن أعماله للناقد راؤول لارا، حتى إذا ما أزف عقد الستينيات، يعكف أهم النقاد والدارسين على تلك الأعمال، يشبعونها نقداً ودرساً، ويضعون صاحبها في الموقع الذي يستحق.

  شخصيات مهمشة

 في "المجانين السبعة"، يرصد آرلت حياة مجموعة من "المجانين"، بالمعنى المجازي للكلمة، بحيث يرادف الجنون "الاختلاف والتساؤل والقلق المضني بالبحث عن منافذ هواء جديدة لفهم العالم"، على حد تعبير مقدم الرواية الدكتور عبدالهادي سعدون. وبهذا المعنى، نحن إزاء مجموعة من الشخصيات المهمشة، ذات الوظائف المختلفة، من قبيل المنجم والموظف والمختلس والقواد ومنقب الذهب والصيدلي والرائد المتقاعد وغيرهم. وهذه الشخصيات مصابة بدرجات متفاوتة من الجنون، بالمعنى المشار إليه أعلاه. تغرق في البؤس، تشعر باللامعنى وعبثية الحياة، تجمع بينها المصادفات الروائية، وتلتقي على سيناريو غرائبي لاستعادة المعنى المفقود، يقوم على استثمار بيوت الدعارة واستغلال الصناعة واحتلال الأرض وترويع الضعفاء وحشد الأقوياء وتوظيف الدين واجتراح المعجزات وخداع العمال وبيع الأوهام وتدمير الحياة. وغني عن التعبير أننا إزاء سيناريو غرائبي مجنون، لكن الرواية تنتهي قبل وضع هذا السيناريو المتخيل موضع التطبيق، وتبقي الأحداث مفتوحة على السعي بهذا الاتجاه، ويتم ترحيل الأحداث إلى الرواية اللاحقة "قاذفات اللهب" المذكورة أعلاه.

 في الوقائع، تشكل واقعة اختلاس المخترع الفاشل أردوسين المال من شركة السكر التي يعمل فيها، بدافع البؤس والحاجة، نقطة انطلاق في مجرى الأحداث، يترتب عليها تداعيات محددة. ففي مواجهة التهديد بسجنه ما لم يعد المبلغ المختلس، يستخدم آليات دفاع مختلفة، تنتابه أحلام اليقظة يفرغ بها رغبات مقموعة ويتخفف من ثقل الواقع، من جهة، ويتخيل رؤى كابوسية معينة تزيد الأمر تعقيداً، من جهة ثانية، ويلجأ إلى بعض معارفه لطلب المال عله ينجو من المصير المتربص به من جهة ثالثة، وفي سياق هذه الآلية الأخيرة، يطلب المساعدة من الصيدلي إرجويتا، الغريب الأطوار والمتهم بالجنون، خلال لقائه به في المقهى، فيمتنع عن مساعدته. ويفكر في طلبها من غريغوري بارسوت، ابن عم زوجته البشع والسمج والبذيء، على رغم الكراهية التي يكنها أحدهما للآخر. وتقوده خطاه إلى المنجم المقيم وسط مزرعة مشجرة، وهناك يلتقي بالقواد روفيان ميلانكوليك الذي ينظم له شيكاً بالمبلغ.

  نقاط تحول

 غير أن هذه الزيارة تشكل نقطة تحول في مسار أردوسين، الشخصية المحورية في الرواية، فيقع تحت إغراء المنجم، وينضم إلى مشروعه لبناء مجتمع سري، يستمد قوته من بيوت الدعارة المزمع إنشاؤها، ومن الصناعة ومن التنقيب عن الذهب. ويستند إلى الأكاذيب الميتافيزيقية يبرر بها فلسفته وأطروحته الفكرية. ويأتي تكليفه برئاسة الصناعة ليعيد إليه الثقة بالنفس بعد فترة من التيه والضياع، فيؤلف مع القواد ومنقب الذهب والضابط وغيرهم فريق العمل المنوط به تحقيق ذلك المشروع.    

  إلى ذلك، يشكل انفصال إلسا، زوجة أردوسين عنه وذهابها مع القبطان، احتجاجاً على البؤس الذي تتردى فيه، نقطة تحول أخرى يكون لها ما بعدها، فيقوم قريبها غريغوري ارسوت، بدافع من حبه الأحادي لها والغيرة عليها وكرهه زوجها، بتعنيف الأخير وصفعه والتباهي بأنه هو من وشى به لدى شركة السكر، ما يجعل أردوسين الزوج المصدوم يفكر بقتله حتى إذا ما أفضى بذلك إلى المنجم، قائد الحركة الانقلابية العتيدة، يتدبر الأخير أمر تنفيذ الفكرة ووضع اليد على أموال الضحية، بداعي حاجة المشروع إليها. وهكذا، يتم استخدام أساليب غير مشروعة لتحقيق التغيير المزعوم.  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

  انطلاقاً من هذه الوقائع، يتمظهر الاختلاف، بالمعنى النفسي للكلمة، في مجموعة من الأعطاب النفسية تعانيها شخصيات الرواية، فالموظف المختلس أردوسين يفتقر إلى تقدير الذات بفعل رواسب تربوية قديمة، ويدمن الإهانة التي تلقى دروسها الأولى في البيت والمدرسة، ويمارس الاختلاس، ويشعر بالعجز عن المبادرة، ويتبادل الكراهية مع الآخر، ويجعل من نفسه أداة بيد الأقوى. والصيدلي إرجيوتا مقامر غريب الأطوار، متهم بالجنون، يزعم التواصل مع يسوع الذي يكشف له عن سر الروليت. والمتمول غريغوري بارسوت يشعر بغيرة مرضية، ويكره منافسه في الحب، ويشي به، ويفكر في اغتياله، ويرغب في إذلال الحبيبة التي لا تبالي به، ويفرغ هذه المكبوتات بالكلام البذيء والتصرف الوحشي. والقواد هافنر ينطوي على حقد دفين على النساء، ويصدر عن ذكورية متطرفة، ويبيح لنفسه استغلال المرأة ومصادرة أموالها، ويبرر ذلك بذرائع واهية. والمنجم ينطوي على حقد دفين على الواقع القائم، ويرغب في تدميره، ويسعى إلى التغيير بأساليب ملتوية لا يتورع فيها عن ارتكاب القتل والسلب والكذب. وهكذا، نكون إزاء مجموعة من الشخصيات المختلفة، المصابة بأعطاب نفسية يتمظهر من خلالها الجنون المختلف.  

   أعطاب جسدية

  على أن اختلاف الشخصيات المرصودة لا يقتصر على الأعطاب النفسية المصابة بها، بل يتعدى ذلك إلى الجسدية، فيقوم الكاتب برسم صورة مشوهة لكل منهم بأسلوب كاريكاتوري ساخر، يكثر فيه من تشبيههم بحيوانات معينة، فيحقق الملاءمة بين شكل الشخصية ومضمونها، فالمخترع الفاشل أردوسين "هو الرجل المحتال، ذو الحذاء الممزق وربطة العنق البالية والبدلة الملطخة الذي يكسب رزقه من الشارع" (ص 52). والصيدلي إرجويتا ذو "عيون منتفخة زجاجية، وأنف كثيف معقوف، وخدود مترهلة، وشفة سفلية متدلية تقريباً أعطته مظهر معتوه" (ص 34). وغريغوري بارسوت "حليق الرأس، عظيم الأنف كمنقار طائر جارح، ذي عيون خضراء وأذنين طويلتين كأذني الذئب" (ص 42). والمنجم ذو شكل ضخم و"أنف منحرف بشكل ملحوظ إلى اليسار، مع وجود الحاجز المكسور في المنتصف" (ص 55). والقواد روفيان ميلانكوليك ذو وجه شبه مستدير، وغمزة ساخرة مؤثرة من مؤخر عينيه، وحركة رفع حاجب أكثر من الآخر عندما يتكلم... (ص 56)، على سبيل المثال لا الحصر.

  بالتعالق مع الوقائع المذكورة أعلاه، ومن خلال الشخصيات المختلفة، تطرح الرواية أسئلة التغيير والفقر والقاع الاجتماعي والمرأة والحياة والموت وسواها من المشكلات الوجودية والقضايا الأخلاقية التي عاناها المجتمع الأرجنتيني في عشرينيات القرن الـ20، بفعل تداعيات الحرب العالمية الأولى التي كانت قد وضعت أوزارها للتو. وهي تفعل ذلك بالحفر في داخل الشخصيات الروائية، فتبوح كل منها بما يعتمل في صدرها، بصيغة حوارية، من حيث الشكل، لكنها مونولوغ أحادي، من حيث المضمون، وتبدو الشخصية تتحدث مع نفسها أكثر مما تتوجه إلى الآخر المخاطب المستمع. وبذلك، نكون إزاء رواية داخلية صعبة، تبدو القراءة فيها نوعاً من الحراثة في الأرض الوعر، تجعل القارئ / الحارث يتوغل في داخل الشخصية أكثر مما يواكب حركتها الخارجية، ما يجعل القراءة من الصعوبة بمكان. ولعل هذا ما يفسر إعراض القراء والنقاد عن روبرتو آرلت في حياته، حتى إذا ما مات وأدرك نقاد آخرون اختلافه الروائي عن الآخرين وعرفوا قيمته الروائية، قاموا بإعادة الاعتبار إليه. روبرتو آرلت ظلمه معاصروه، وأنصفه أبناؤهم والأحفاد، فاستحق لقب جد الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة