Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الفن الينبعاوي" واجهة ينبع العابرة للحدود

شكل مشتركاً غنائياً بين دول البحر الأحمر مثبتاً صلابته في اختراق الثقافات

الفنان الشعبي السعودي محمد ياسين يعزف على القانون في أغنية ينبعاوية (اندبندنت عربية - عبدالله الفالح) 

يغني العاملون على مر التاريخ لمواردهم حتى يستحثوا فيها أن تعطيهم، ومثلهم الصيادون الذين ابتكروا أغان يرمونها مع الشباك المثقلة بالرجاء، باحثة لشراكها المتحفزة عن رزق من الأعماق، فيغالب البحارة انتظارهم الطويل ورجاء أن لا يعودوا خائبين بغناء ما بات يعرف بـ "الينبعاوي" نسبة لمدينة ينبع السعودية.

ينفد ماء "التنكة" فيحولها البحار إلى "سمسمية" شد ألحانها من أوتار الصيد ليغني طرباً، في حين يرجع الصيادون الصوت رفقة التصفيق الإيقاعي المنتظم، وكأنهم يستحثون السمكة العنيدة سرعة الولوج إلى الشبكة.

"حنا طلبنا الله يابو الجود سامحنا

واغفر ذنوبي يا عظيم الشان

يا قاضي الحاجات تقضي حاجة المظلوم

والخير مقبل بخت منهو ياخذ المقسوم"

 هذا الفن وإن كان في اسمه انتسب وانحاز إلى حيث ظهر، إلا أنه استطاع الانتقال عبر البحارة في البحر الأحمر إلى كل مراكب الصيد وصولاً للدول المشاطئة للبحر حتى بات شهيراً هناك كما في ينبع بذات الاسم.

الزمن والعواصف

بفرادة طربية شجية تحمل السهوب والدروب الألحان فتقذفها مع الأمواج على امتداد السواحل الغربية للبحر الأحمر ليطير نسيمها المسافر إلى أبواب العشاق وتطوي عذابات الفقد واغتراب مشقة البعد الممتد، بدءاً من ينبع السعودية التي اكتسبت منها لونها الحجازي العذب واسمه المشتق من اسمها وهويتها المتجذرة، مروراً من عقبة الأردن وسيناء مصر وحديدة اليمن.

من هنا جاء الفن الينبعاوي أو الغناء الساحلي الشعبي الذي عرفه أهالي محافظة ينبع في منطقة المدينة المنورة، وارتبط بأغاني البحر والبحارة التي تبدأ عادة بالدعاء وتستحث همة البحارة على الصبر والانتظار.

ومثلما ظلت المدينة مهوى أفئدة المريدين وعابري السبيل خلال تنقلاتهم للزيارة الدينية أو التجارية وغيرها، كان من الطبيعي أن تنتقل منها فنونها كهدية وجدانية تسافر في حناجر الحادي والملاح ليرددوها بانتشاء طربي يغالب وعثاء السفر، لتشكل لاحقاً مشتركاً غنائياً أثبتت أشرعته صلابتها المتجذرة أمام رياح البعد والتنائي ولسان حالها يقول،

"مد الشراع العالي يا با.. عونك يارحمن

الزمان.. الزمان.. عفوك يا رحمن"

موال

تبدأ الأغنية الينبعاوية كما هو ملاحظ بموال يجسد حال البحارة مع السفر والبعد ومشقة الصيد الصعبة وأعماق البحر بلون تطورت نكهته ولكنته الشعبية وإيقاعه المميز في صورة زمنية متلاحقة حافظت على شكله الفني العام كما يؤكد الباحثون.

تتشكل آلاته الموسيقية المصاحبة للغناء من السمسمية والتخت العربي وأبرزها آلة القانون التي تستخدم أحياناً بديلاً عن السمسمية كما هو الحال بالجلسات التي تشتهر بها الحواضر السعودية والمصرية وبالأخص في مدينتي ينبع وجدة.

تتخلل الأغنية تصفيقات المشاركين التي تبدأ وتقف بطريقة موحدة تمنحه أجراساً إيقاعية موسيقية، ويتبادل المشاركون أداء الرقصات بشكل ثنائي وثلاثي أو أكثر مع تحريك الأيادي والتصفيق على نحو إيقاعي موحد ومنتظم.

هذا العبور الثقافي يحضر في كثير من أغانيها مثل أن يقول أحدهم

"إن قدّر الله، إن قدَّر الله ... العافية والسلامة ... حبيبي سافر عدن

يا عيني ... طول عسى خير

بس الحبيب ... يعود لنا بالسلامة ... ونزور صنعا اليمن يا عيني ... طول عسى خير"

أو 

"بالسلامة، بالسلامة ندخل البحرين… أمان أمان

والله الحبيب لما هجرني زاد قلبي شوق

والخير مقبل بخت منهُ ياخذ المقسوم"

وباختلاف جغرافية وفنون مناطق الدول المطلة على البحر الأحمر، إلا أن مؤدوه يشدون به وكأنه بزغ من منبع واحد، إضافة إلى التشابه الكبير في الألحان والكلمات كما هو الحال في

"يا ليلة الأنس ما تعودي لنا

كلن حبيبه بجنبه إلا أنا" 

السمسمية وتر الفن السواحلي

وتشكل آلة السمسمية العامل المشترك لمدن ساحل البحر الأحمر مع اختلاف تسمياتها وتباين أشكالها برنتها الوترية المميزة.

يعود أصل آلة السمسمية إلى آلة الكنارة الفرعونية ولها سبعة أوتار مصنوعة من أمعاء الحيوان تشتد على طرفي علبة من الخشب الصاج يشد عليها جلدة وتزين بالخرز والنقوش ثم كان التطور إلى آلة السمسمية التقليدية الحالية مما يرجح أنها آلة مصرية خالصة.

منبعه

تعددت الروايات حول منبع هذا اللون فبعضهم يراه مصرياً مستدلين بتنقل البحارة والحجيج استناداً إلى أصل الآلة، غير أن معظم الباحثين يرونه ينبعاوياً سال في البحر وطغت نكهته الحجازية حتى كبر واعشوشبت جذورها لتمتد جنوباً وصولاً لحديدة اليمن التي يسمى فيها بالسواحلي، وشمالاً إلى الأردن حيث تسمى السمسمية العقباوية نسبة إلى منطقة العقبة، وصولاً إلى ضفاف مصر التي يسمى فيها بفن السواحلي أو فن السمسمية.

ويقول أحد أبرز فناني هذا وهو اللون محمد ياسين إن ينبع هي مصدر الغناء الينبعاوي الفريد والزاخر الذي يمتد عمره لمئات السنين، كونها لا تزال مهد الفن التي اتخذ هذا اللون الغنائي تسميته منها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأضاف، "لهذا لا غرابة أن انتقل هذا الغناء بسرعة إلى مناطق البحر الأحمر من الحديدة وصولاً إلى حضرموت باليمن جنوباً، مروراً بعقبة الأردن شمالاً حتى الوصول إلى مصر".

وعن التاريخ الزمني لظهوره يرى ياسين ألا تاريخ معين تم التوصل له "ولكنه قديم جداً يمتد لمئات السنين".

وكفنان برع في هذا الغناء يفيد أنه ورث أداءه أباً عن جد، إذ "كان الوالد يخبرنا أنهم ورثوه من الأجيال التي قبلهم".

التطور

وفيما يشبه السرد التاريخي يؤكد الفنان السعودي أن الألوان الغنائية في ينبع تطورت مع الزمن واستخلصت اللون الينبعاوي الأصيل ذائع الشهرة والصيت لجمال كلماته وعذوبة ألحانه وآلاته التي تقع السمسمية في طليعتها قبل أن تتطور الموسيقى وتدخل عليه آلات أخرى مثل الكمان والقانون والعود لاحقاً.

بالحديث عن الشكل الفني للأغنية الينبعاوية يقول إنها تختلف وفقاً لألوان وأشكال هذا النوع.

ويوضح، "تبدأ عادة بموال من مقام البيات يشاركه فيه فنان آخر بالرد عليه فيما يشبه المحاورة أو المناجاة لا يلبث أن يعلو، إلى أن تبدأ الإيقاعات ثم تعزف الآلات الوترية نغمة خاصة بينبع وصولاً إلى الغناء الذي يجري على هيئة تفاعلية تشاركية بين الفنان والكورال ثم الغناء بشكل فردي أو بشكل جماعي ولهذا نجد من تفرعاته الرديح والعجل، إذ كل فن له نغمته وخصوصيته وإيقاعه ومقامه وحتى المناسبات التي يؤدى فيها".

من السهل إلى الساحل

وبعكس ما كان سائداً يكشف ياسين أن هذا الغناء بدأ في المدن والأرياف حتى سال وغذى بعذوبته البحر فسافر مع الصيادين والتجار والبحارة ليرافقهم في سفرهم الطويل المضني.

ومع تطور فن الساحل إن جاز الوصف، فالفرق بين البحري والينبعاوي وفقاً للفنان ياسين أن غناء السمسمية هو جزء من فن الينبعاوي الأصلي في حين قد يغيب عن الفنون البحرية الأخرى.

النبع والجذور

في تأصيل بحثي عن الينابيع التي سقت هذا الفن، يتحدث الباحث في الغناء والتراث أحمد الواصل الذي قال إن هذا الفن نشأ من ينبع التي كانت إحدى محطات طريق البخور (معبر تجاري دولي بادئ من سواحل ظفار، سلطنة عمان على بحر العرب حتى سواحل البحر المتوسط، وينقسم إلى طريقين متفرعين أحدهما يمر بنجد إلى العراق وفارس والآخر يمر بالبتراء المملكة الهاشمية الأردنية إلى فلسطين على البحر المتوسط).

 

وأضاف أن عمر ينبع يعود إلى 3 آلاف سنة، وقد مرت بها الحضارة الثمودية والحضارة النبطية واللحيانية والكندية ولموقعها ميناء بحري لغرب الجزيرة العربية، فإنها انقسمت إلى ينبع النخل (الوادي وساكنوه البادية)، وينبع البحر (وساكنوه جماعات وفئات).

للواصل رؤية تأصيلية إزاء النشأة والتكوين التي قام عليها هذا الغناء، ويذهب إلى القول إنه لا توجد فنون عدة سواء لأهل ينبع النخل مثل الرديح والخبيتي وفنون أخرى تختص بالجماعات والفئات.

أما درج على تسميته الفن الينبعاوي فيرى أنه "لا توجد تسمية للبحري سوى في الخليج واسمه الفن الفجري، وهو فن عمال البحر منهم صيادون، ويعتمد على فرقة بسيطة من آلة وترية سمسمية مصنوعة من مواد بمتناول اليد وآلات إيقاع".

الكنارة والصنج

في تفصيل يخلص إلى الوصول لمنشأ السمسمية فيرى أنها آلة تعود لعائلة الآلات الوترية (الكنارة والصنج) التي انتشرت منذ 6 آلاف سنة في الخليج العربي، من ثقافة دلمون مجايلة الحضارة السومرية في العراق، وتشترك السمسمية بالأصل المشترك إلى (الكناروم الدلمونية) المخترعة منذ الألف الثاني قبل الميلاد، فلم تعرف حضارة وادي النيل الآلات الوترية والسلم إلا عقب دخول الهكسوس بين أعوام 1650 و1550 قبل الميلاد، وهذا ما أثبته الباحث الموسيقي المصري محمود أحمد الحفني في كتابه "موسيقى قدماء المصريين" (1936).

كما يخلص إلى أن الكنارة عرفت في حضارات الجزيرة العربية شمالها الغربي بين القرن السادس والسابع قبل الميلاد في ددان أو العلا في المملكة اللحيانية (شمال غرب الجزيرة العربية) وجنوبها الغربي في القرن الرابع قبل الميلاد في مملكة كندة الأولى.

انتشار شمال البحر

تطرقاً لذلك الانتشار الذي تنامى فيقول الواصل "لا يستغرب أن تتوارث حتى الآن، كما لا يستنكر أن تنتقل إلى شعوب بحر العرب والبحر الأحمر في القارة الأفريقية، فعندما انتقل شعوب شرق أفريقيا عبر تجارة الرقيق إلى الخليج استخدموا الطنبورة وهي أخت السمسمية".

ولهذا عرفت السمسمية "في مدن القناة وهي بورسعيد والإسماعيلية والسويس، من عمال جنوب مصر وهي النوبة والسودان الذين انتقلوا في القرن الـ 19 الميلادي إلى أعمال حفر القناة 1859".

خط السير

وتتبعاً لخط سير النشأة يشير الباحث الواصل إلى أن عمال البحر الذين عملوا في سواحل الخليج العربي الغربية تنقلوا بحكم التجارة، وبقيت تجارة البحر (تجارة اللؤلؤ) عند كبريات العائلات في الخليج العربي، وذلك منذ سنوات قيام الإمارات الخليجية الوسطى مثل الإمارة العصفورية القرنين الـ 13 والـ 14 الميلادي، والإمارة الجبرية في القرنين الـ 15 والـ 16 الميلادي.

غناء مهني

في تفصيل فني يفيد أن الصيادين يحتفظون في ينبع البحر بأغاني مختلفة سواء من مكة أو المدينة أو من مصر أو اليمن، ويعاد غناؤها على آلة السمسمية وآلة الإيقاع، ويتخصصون في بعض الأغاني ويفضلون إيقاعاً خفيفاً وراقصاً ميزانه رباعي، وهو مشترك مع العمال كافة سواء في الجبال أو البحار أو السهوب.

وما يميز الفن الينبعاوي، وفقاً للواصل، "أنه غناء مهني وأفضل أن أسميه أغاني السمسمية، لكونها مشتركة بين مدينتي ينبع وجدة بحسب محاضرة قدمتها وعنوانها ’جذور على ماء النغم: ترحال الفنون في أغاني البحر الأحمر‘ إلى مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية الـ 24، ونشر البحث في كتاب ’ما بعد الأغنية: دراسة في مشروعية الغناء العربي‘" (2021).

واقتطع الباحث الواصل منها الجزء التالي، "ولعلنا ندرك أن أرشيف الأغاني المتداول عند فرقة الخريشي (ينبع) وفرقتي أبو سراج وأبو هلال (جدة) تتطابق مع فرقة أولاد الأرض (السويس) وأولاد البحر (بورسعيد) ومرسي بركة (الإسماعيلية) وأبو ساري حربي حسين (الغردقة) ومدثر سباق (رأس غارب)، وهذا ما يدفع إلى إعادة درس الفنون الأدائية لمجتمعات شمال البحر الأحمر في الدول المشتركة (السعودية والأردن ومصر) من حيث القاسم المشترك في تلك الأغاني المخصصة لآلة السمسمية".

وإذا عدنا لنتائج البحوث الميدانية فهي تخلص إلى أن "السمسمية رفيق ملازم لرجال البحر في ينبع وما جاورها من أصحاب السكونات والسنابيك الكبيرة التي تقطع البحر جيئة وذهاباً في رحلات الغوص والصيد، فكان البحارة بعد الفراغ من عملهم يجلسون على ظهر السفينة يتوسطهم عازف السمسمية والعازفون على المراويس ليرددوا ألحاناً شجية تحاكي في ترجيعها موج البحر الهادر، ويشارك الباقون في الغناء والتصفيق بإيقاع واحد، كما يرافق أنغام السمسمية أحياناً رقص يعرف بالينبعاوي، كما تؤدى على السمسمية ألحان أخرى تسمى اللحن اليماني (الجنوبي)".

ويعرف أن الأغاني تتنوع على إيقاعات عدة، منها المقسوم نموذجه "عمي يا جمال" المتداخلة مع قد حلبي، والشرقين "اش علامك يا لأسمرانية" و "بتغني لمين ولمين"، والخبيتي " لا لا يا الخيزرانة" و"يا ولد يا حربي".

بصمات اللون

وفي استدلال على جذوره يؤكد الواصل أن محتوى بعض أغاني هذا اللون تدل على منشئها الينبعاوي، كأن يعرف بأن "يا الخيزرانة" كتبها ولحنها الشاعر السعودي حسن صيرفي (1918 - 2008) أبو الأغنية الحجازية الشعبية، وأعطاها للمغني عبدالعزيز شحاتة (توفي 2010) منتصف الخمسينيات، ولم تشتهر إلا عبر صوت طلال مداح وعمر كدرس ثم ابتسام لطفي وفرق السمسمية في جدة وينبع، بينما نجد أغنية "يا ولد يا حربي" تصرح بالفرد من قبيلة حرب وشدا بها أحد أبنائها عابد البلادي، وفي الضفة الأخرى نجد أغنية "بتغني لمين ولمين" التي أداها مرسي بركة وتوحي بأنها من أغاني الزيارة لضريح الشيخ إبراهيم الدسوقي".

ويتابع، "من الأمور الملاحظة تبدل الإيقاعات على ذات الموازين، فنسخة مداح على الخبيتي بينما نسخة لطفي على الشرقين ونسخة محمد رشدي التي أعدها بليغ حمدي على المقسوم، و’الأسمرانية‘ تحولت من الشرقين إلى السواحلي في نسخة ليلى عبدالعزيز".

ولا بد من أن تنتقل أغاني السمسمية بحكم تشارك العمال ولو لفترات زمنية، ثم عودتهم لأهاليهم، وأقصد من كانوا ليسوا من ينبع أو جدة، كأن يكون أحد من اليمن فيعود ويستعيد معه تلك الذاكرة الثقافية. 

مقاومة الاندثار

عرف عن عدد من الفرق تخصصها في هذا اللون وأبرزته فرق حملت على عاتقها هذا اللون، ويحفظ التاريخ للمتتبع عبر الأرشيف التلفزيوني الذي تحتفظ به المنصات الرقمية اليوم تفرد عدد من الفرق الشعبية التي تخصصت في هذا الفن وعرفت به وطورته، مثل فرقة أبو سراج وأبو هلال في السعودية وفرقة المصطبة بمصر وغيرها.

 

كما يرى بعض النقاد أن ثمة لمسة تركها عدد من الفنانين أمثال فريد الأطرش وأم كلثوم وسهام رفقي بعد أن أدوا أغان ينبعاوية شهيرة عدة مع الحفاظ على جوهر اللحن، ولكن بإضافات موسيقية.

غناء الفرح والترح

يطرح أن السمسمية ولدت من بطن "الطنبورة" وهي الآلة المعروفة في منطقة النوبة المصرية التابعة لمحافظة أسوان خلال الفترة التي رافقت شق قناة السويس كتطريب يردده العمال، لتتناقلها الأجيال لاحقاً فناً غنائياً مميزاً لأهالي منطقة القناة.

ومثلما ظلت "الطنبورة" وسيلة للترفيه والانشراح في أوقات الأفراح، كانت حاضرة وفية في الأتراح، كما جرى الحال خلال فترتي العدوان الثلاثي عام 1956 ونكسة يونيو (حزيران) عام 1967، فضلاً عن حضورها البارز والثابت في المناسبات الاجتماعية المختلفة.

"غني يا سمسمية

لرصاص البندقية

ولكل إيد قوية

حاضنة زنودها المدافع"  

يقول مدير مركز المصطبة للفنون الشعبية في مصر الفنان زكريا إبراهيم إن فن السمسمية موجود بامتداد البحر الأحمر على الجانبين منذ فترة طويلة، والتفاعل الثقافي بين الصيادين والتجار في بعض المراكب كان كبيراً سواء كان من ينبع أو الغردقه أو القطير في مصر أو السويس أو الحديدة وحضرموت، وبقي حاضراً في الخليج بقوة.

غياب التتبع التاريخي

وعن خط سير نشأة الغناء السواحلي في مصر يرى إبراهيم صعوبة في تتبع ذلك حتى الاهتداء إلى النشأة الأولى،

والسبب في رأيه "لعدم وجود كتابات ودراسات عن هذه الفترة، كون هذا الأمر يحتاج إلى بحث ميداني وليس فقط كلاماً مجرداً منقولاً".

وأضاف، "يمكن القول إن فنانين تعلموا السمسمية قديماً بفضل كاسيتات الأشرطة التي كانت تأتي إليهم من ينبع".

وتابع، "يوجد فنانون شعبيون علمونا الغناء الينبعاوي، ومن أبرزهم الفنان عبده الدشناوي وهو الفنان الذي بسببه عشقت الغناء الينبعاوي عندما كان يؤديه في السويس، ولهذا حفظها الناس وبقوا يرددونها، وأنا غنيتها بنفسي في حفلات فرقة الطنبورة، مثل ’شفت الحبيب من السويس‘ وغيرها كثير".

تشاركية النشأة

وعن المزيج العربي المشترك لدول البحر الأحمر الذي يتغذى من  المنبع الأصل في ينبع يقول، "أعتقد أن تتبع عملية تكوين هذا اللون تكاد تكون تشاركية بين مختلف مناطق البحر الأحمر، وحتى أتحدث عن بؤرة معينة للنشأة فأعتقد أنها لن تكون علمية، بمعنى أن كل منطقة يبقى لها مخزونها الغنائي الخاص بها، ونتيجة التشابه في عادات وفنون أهالي هذه المناطق العربية هو تطور هذا اللون من خلال التناقل والتلاقح المتبادل، أي نغمة من هنا وكلمة من هناك ولحن من هناك وآخر من هنا، وهكذا حتى تطور، ولهذا فاسم الينبعاوي ربما جاء نتيجة التبادل الغنائي الحاصل نسبة إلى ينبع"، إلا أنه استدرك قائلاً "بلغنا أن الصيادين يأتون إلى السويس لغرض التجارة وكانوا يجلبون معهم عازف سمسمية ليغني لهم، كون هذه الرحلات كانت تأخذ مدة طويلة في عرض البحر تمتد بالتنقل بين سواحله مدة تصل إلى ستة شهور".

 

ويؤكد الفنان زكريا أن هذه الآلة موجودة فعلاً في المقبرة الفرعونية رقم (13) التي تعود لنحو 4 آلاف سنة، ولكن كنشأة لا أستطيع أن أجزم بذلك من دون دليل علمي مبني على البحث الميداني، خصوصاً والسمسمية توجد أيضاً في العراق حيث اشتهرت خلال فترة الحضارة السومرية".

سواحلي يمني

وكما هو الحال بباقي المناطق المجاورة، يؤدي هذا الفن في عدد من المناطق اليمنية مثل محافظة الحديدة على وجه الخصوص، ويلاحظ التشابه الكبير عن مثيله في ينبع مثل الإيقاعات والرقصات المصاحبة.

ويقول الموسيقار جابر علي أحمد إن تسمية هذا اللون في اليمن بـ "الموال الساحلي" ارتبط بنشاط البحارة في الحديدة.

وعن أسباب التسمية التي عرفت به يقول إن "التنسيب في أصل الكلمة يعود لمدينة ينبع التي كان لها دور مميز في تنشيط هذا الفن، ولهذا برزت علاقتها بنقله بين البحارة في المناطق والمدن التي تطل على سواحل البحر الأحمر، وكان يوظف لاستراحة البحارة بمثابة استراحة المحارب خلال أوقات الفراغ ليرددوا فيها هذا الموال".

وبالنسبة إلى اليمن فتعتبر "الحديدة وبيت الفقيه وزبيد من أهم المناطق التي انتعش فيها هذا الفن، لكن لا توجد أماكن خاصة به مثل ينبع التي توجد بها ساحات مجريات العملية الغنائية، عدا أن السمسمية آلة مشتركة بين المناطق المطلة على البحر الأحمر اليمن وينبع والأردن ومصر".

وبالحديث عن شكله الفني فإنه يبدأ، وفقاً لجابر، "بمجس وهو عبارة عن أغنية تمهد للموال، وكان يتقيد بتقاليد الموال حرفياً من حيث البحر المستخدم والقوافي، ولكن اللغة عامية ويلاحظ من خلال البنية التشريحية بهذا الموال أنه متأثر إلى حد كبير بالفن المصري من حيث تكوين المجس أو الموال، وهذا يؤكد مدى التأثر المتبادل الذي جسده بحارة البحر الأحمر خلال تنقلاتهم بين المناطق المطلة على سواحله".

ويخلص إلى أن هذا اللون يعكس حالاً من التقارب الروحي بين أبناء البحر الأحمر وبخاصة المناطق العربية منه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة