Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العطار "أنطق" الطير في رحلة طويلة للوصول إلى الحقيقة

ما زال يشغل الباحثين والمترجمين وأهل المسرح وأسراره تزداد التباسا

لوحة لرسام فارسي مجهول من جو "منطق الطير" (متحف توبكاي بالاس)

هناك تزايد ملحوظ في الآونة الأخيرة بنقل كتب فريد الدين العطار النيسابوري إلى العربية، وقد اقتبست من أعماله عروض أعمال مسرحية عالمية وعربية عدة، كان من أبرزها العرض الملحمي الذي أنجزه المخرج البريطاني الرائد بيتر بروك في الثمانينيات، وأحدثها عرض "منطق الطير" للمخرج التونسي نوفل عزارة الذي شارك في العديد من المهرجانات المسرحية الدولية، ومنها مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورة العام 2021. وصدرت في العام ذاته ترجمة علي عباس زليخة لـ "منطق الطير" عن دار التكوين، نقلاً عن الفارسية. وسبق لزليخة أن ترجم للدار نفسها كتاب العطار "الأسرار" عام 2020. وأصدرت دار "آفاق" القاهرية من قبل مجموعة من كتب العطار بترجمة منال اليمني عبد العزيز مثل "الرباعيات المختارة للعطار" 2018، و"مدارج العاشقين" 2017، و"تذكرة الأولياء" 2015، و"خسرو نامة". كما ترجمت له ملكة على التركي كتابه "إلهي نامة". وصدر له عن المركز القومي للترجمة في القاهرة في جزءين كتابه "مصيبت نامة"، أي "كتاب الألم" 2005 بترجمة محمد محمد يونس. أما أكثر كتبه ترجمة فهما كتاباه "تذكرة الأولياء" و"منطق الطير"، وقد صدرا أيضاً في ترجمات عربية أخرى في دمشق وبيروت المغرب العربي.

ترجمة متأخرة

تعد ترجمات العطار إلى العربية متأخرة مقارنة بترجماته إلى اللغات الأخرى، بحيث يحظى بمكانة رفيعة لدى المهتمين بالتصوف الإسلامي، وقد ترجمت كتبه إلى اللغات الحية المعاصرة، ومن أشهر هذه الكتب وأعلاها منزلة وحازت النصيب الأكبر في الترجمات كتابه "منطق الطير" الذي ترجم منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين إلى التركية القديمة والحديثة والإنجليزية والفرنسية والهندية والألمانية والإيطالية والروسية والسويدية وغيرها من اللغات. ويشير أحمد ناجي القيسي في دراسته التي نال بها درجة الدكتوراه من قسم اللغات الشرقية في جامعة القاهرة 1965، إلى أن أول ترجمة جزئية غربية لكتاب "منطق الطير" كانت إلى الفرنسية بقلم هومر في كتابه "تاريخ الأدب الفارسي" 1818، وأول ترجمة كاملة الى الفرنسية كانت لكارسن دي تاسي 1863.

أما عن ترجمات ذلك الكتاب إلى اللغة العربية، فأولها كان لجزء منه حين نشر إبراهيم أمين الشواربي عام 1954 ترجمة لكتاب الإنجليزي براون "تاريخ الفرس الأدبي" عام 1906 وهي ترجمة عن ترجمة، بحيث إن المستشرق براون أخذ ترجمته عن الإيطالية من كتاب "قصة الأدب الفارسي"، ووضع فيه نماذج من "منطق الطير". أما أول ترجمة عربية كاملة للكتاب، فكانت لبديع محمد جمعة الذي نال بها درجة الماجستير في الستينيات، وطبعت هذه الترجمة طبعات عدة أولها عام 1975. كما أن القيسي ترجم نحو نصف هذا الكتاب في أطروحته، أي ما يقارب 2000 بيت من أصل 4500 بيت، مكتفياً بترجمة مقدمة الكتاب كما هي، وما يخص هيكل قصة الكتاب العامة، متجاوزاً ما نثر من تضاعيف تلك القصة من حكايات جاءت لتوضيح رأي أو شرح فكرة. كما أنه ترجم قصة "شيخ صنعان" وهي أطول وربما أجمل قصص منطق الطير.

أسلوب الترجمة

أما الترجمة الثانية الكاملة لـ"منطق الطير" فصدرت عن دار التكوين، لعلي عباس زليحة نقلاً عن الفارسية كما ذكرنا من قبل وتختلف عن ترجمة بديع جمعة في أنها جاءت من الفارسية مباشرة، لا الفرنسية. بيد أن ترجمة جمعة كانت أكثر سلاسة ووضوحاً من الترجمة الحديثة لهذا الكتاب المهم. وقدم بديع لترجمته بدراسة. بينما جاءت ترجمة زليخة مباشرة للنص من دون أي إضافات. ويختلف أسلوب ترجمة زليخة عن بديع بحيث إن الأول جنح إلى اللغة الشعرية والتكثيف اللفظي ونقل روح النص الأصلي إلى العربية، بينما كانت ترجمة بديع تهدف إلى ترجمة المعنى وإيصاله إلى المتلقي بأسهل الطرق من دون زخرفة لفظية زائدة. كما أنه يذكر مصدر المخطوط الذي اعتمد عليه في الترجمة، وهو ما يفعله أيضاً القيسي في ترجمته لأجزاء من "منطق الطير"؛ لكن زليخة لا يشير إلى أي من هذه التفاصيل ولا من أي مصدر أخذها، مكتفياً فقط بذكر أنها كانت نقلاً عن الفارسية. فيبدأ ترجمته: "تبارك مبدع الروح الطاهر، واهب الإيمان والروح للتراب، جاعل بنيان عرشه على الماء، جاعل عمر الترابيين على الهواء، مالك السماء تحت يده، ...".

ويبدأ جمعة المقدمة نفسها بالترجمة الآتية: "حمد لله الطهور خالق الروح، واهب حفنة التراب الإيمان والروح، هو الذي شيد عرشه فوق الماء، ونثر أعمار الخلق في مهب الريح، هو من رفع السماء إلى أعلى عليين، وأنزل الأرض إلى أسفل السافلين، وأعطى إحداهما الحركة الدائبة، وجعل الثانية على الدوام هادئة". ويترجمها القيسي عن الفارسية: "الحمد لله خالق الروح الطاهر، ذلك الذي منح التراب الروح والإيمان، ووضع هو العرش على الماء، ووضع عمر ذوي الأرض على الريح، رفع السماء إلى العلاء، وخفض الأرض غاية الخفض...". وتتميز ترجمتا بديع والقيسي بالشروح والهوامش والحواشي المفسرة للمتن، بينما خلت من ذلك الترجمة الجديدة الصادرة عن دار التكوين.

اختلاف المخطوطات

يورد القيسي في دراسته التي كتبها في الستينيات 41 طبعة مختلفة لـ"منطق الطير" ويرصد العشرات من مخطوطاتها في مكتبات العالم. ويختلف في كل مخطوطة من المخطوطات، عدد أبيات "منطق الطير". ففي نسخة باريس (عام 1897) بلغ عدد أبياتها 4647، وترجمة إسطنبول (1962) كانت 4931 بيتاً، وفي نسخة أصفهان (1319هـ) 4703، ونسخة أصفهان (1334هـ) 4717. ومرجع هذا الاختلاف للأبيات في النسخ المختلفة من مطبوعات أو مخطوطات "منطق الطير"، كما يوضح جمعة في ترجمته، هو أن بعض النسخ تورد حكايات لا توجد في النسخ الأخرى. ويرد القيسي الاختلاف في عدد الأبيات بين النسخ، إلى كثرة تداول الكتاب منذ ألف عام، حتى اليوم.

فقد كان كتاباً أثيراً عند الصوفية، يتدارسونه في التكايا، وينسخون منه نسخاً لأنفسهم، فيزيد فيه وينقص منه، الشعراء من المتصوفة وذوي السليقة الأدبية، ويغيرون بعض كلماته أو بعض أبياته تبعاً لأذواقهم. فقلما تتطابق نسخة مع أخرى تطابقاً كاملاً، وتوجد في كثير من النسخ حكايات وعبارات لا وجود لها في النسخ التي هي أقدم منها. ولعل تلك السمة موجودة بكثرة في الإبداع العربي، فالحكايات التي تختلف من نسخة إلى أخرى تنجم عن العقلية الشرقية في الإبداع، التي تميل إلى ترك مساحات للإضافة والحذف، من دون أن يؤثر ذلك في المتن الحكائي الأصلي. فالعمود الذي تتكئ عليه الحكايات ثابت، لكن التفاصيل قابلة للتغير، ويظهر ذلك على سبيل المثال في "ألف ليلة وليلة" باختلاف طباعتها وفي السير الشعبية، وفي كتب مثل "العقد الفريد" لابن عبد ربه. ولعل كثيراً من الإبداع العربي توجد فيه هذه الظاهرة.

الإمام الغزالي

أما المصادر التي استمد منها العطار مادة "منطق الطير"، فأولها القرآن الكريم، فمنه أخذ اسم منظومته، والهيكل العام لها من حديث الطيور، ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ [النمل، آية 16]. كما أن تشبيه الأرواح بالطيور هو أمر موجود في الفكر الصوفي، ويرد كذلك في الأحاديث النبوية الشريفة أن أروح الشهداء طيور خضر. وكان الأمر موجوداً في الحضارات القديمة، عند المصريين القدماء وفي الحضارات العراقية القديمة وفي الديانات القديمة مثل الزردشتية.

استفاد العطار في "منطق الطير" من الكتب التي أنطقت الحيوانات والطيور مثل كتاب "كليلة ودمنة". ويرى المستشرق الإيطالي إيتالو بيزي أن الأسطورة التي هي موضوع "منطق الطير" ليست من بنات أفكار فريد الدين العطار، وإنما كانت من القصص ذات الطابع الشعبي، وكانت معروفة ومألوفة وتناولها ابن سينا في "رسالة الطير"، وهي رسالة رمزية فلسفية، وقد ترجمها السهروردي إلى الفارسية. ورأى البعض أن العطار أيضاً استفاد من "رسالة الغفران" للمعري، إلا أن السالكين في "منطق الطير" هم الطيور، أما السالك في "رسالة الغفران" فهو من البشر، ابن القارح.

ويعتقد دارسو "منطق الطير" أن المصدر الأصلي الذي أخذ منه العطار حكايته هو "رسالة الطير" لحجة الإسلام محمد الغزالي، بحيث تعد الرسالة هذه، هي صلب الحكاية. لكن العطار أضاف عليه الكثير من خياله، ولم يكن مجرد ناقل. فكتاب العطار يفوقها في الحجم بأضعاف مضاعفة، وهو أكثر غنى منها ومملوء بالتفاصيل، نظراً لقصر "رسالة الطير" وطول كتاب العطار. ولعل تأثر العطار بالغزالي يدعمه الكثير من الحجج، فيشير بديع جمعة إلى أن العطار اتبع الغزالي في المذهب الشافعي، وأول من أعلن الحرب على الفلاسفة كان الغزالي، واتبعه العطار في ذلك. وتظهر المواقف في الكثير من عباراته داخل "منطق الطير"، مثل قوله "وكيف تعرف عالم الروحانيين من بين حكمة اليونانيين؟!"، وقوله "لن تكون رجلاً في حكمة الدين إن لم تفارق هذه الحكمة". وأخذ عن الغزالي الفكرة الأساسية لهذا الكتاب، وكذلك أطول قصصه المعروفة بـ"الشيخ صنعان"، بخاصة أن الغزالي قام بالتدريس فترة في نيسابور بلد العطار، وترك فيها آثاراً عظيمة له، فكان لها أثرها بعد ذلك في تفكير العطار.

مقامات الطيور

 ومن الأمور اللافتة أن فريد الدين العطار في نهاية الكتاب يشير إلى اسم آخر لهذا الكتاب هو "مقامات الطيور"، وهو ما يرجحه القيسي في دراسته بأن العنوان الأصلي للكتاب هو "مقامات الطيور"، وأن "منطق الطير" من صنع أو اختراع النساخين والكتاب، وقد اكتسب الشهرة بهذا الاسم وعرف به من دون الاسم الأصلي الذي وضعه له مؤلفه. فالكتاب يتناول فكرة العروج والسفر إلى العالم الآخر بحثاً عن ملك الطيور "السيمروغ"، بشكل رمزي، عبر رحلة الطيور في الأودية السبعة. ويقسم طريق الوصول إليه إلى سبع أودية وهي وادي الطلب ووادي العشق ووادي المعرفة ووادي الاستغناء ووادي التوحيد ووادي الحيرة، وأخيراً وادي الفقر والفناء. واستفاد العطار في ذلك من بعض أفكار سنائي في كتابه "سير العباد إلى المعاد".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وختاماً، لا شك في أن منظومة "منطق الطير" بإجماع الدارسين، من أعظم ما أبدع في الأدب الفارسي عامة وفي التصوف خاصة، وبها عرف مؤلفها، وتظهر ما تبحر مؤلفها في العلوم المختلفة، وثقافته الواسعة. وقد كتبها في أرجح الآراء عام 583 هـ. أما مؤلفها فهو أحد أعلام التصوف الفارسي الثلاثة وهم على الترتيب سائي الغزنوي، وفريد الدين العطار، وجلال الدين الرومي. وتتضارب الأخبار في تحديد موعد مولده ووفاته فبعضهم يرى أن عمره أكثر من قرن، والبعض الآخر يرى أنه مات بعد السبعين. ويرجح أنه ولد في الفترة 545هـ- 550هـ وتوفي بين 627- 637هـ. بعد أن ترك 9 كتب، مؤكدة النسب إليه، وعشرات الكتب المشكوك في انتحالها بعد وفاته. وكتبه كلها كتبت شعراً ما عدا كتابه "تذكرة الأولياء" الذي يترجم فيه لسير أعلام التصوف وأحوالهم. أما كتبه الأخرى الشعرية فهي: إلهي نامة، خسرو نامة، مدارج العاشقين، مختار نامة، أسرار نامة أي كتاب الأسرار، يند نامة أي النصيحة، الديوان، مصيبت نامة أي كتاب الألم، ومنطق الطير. وعرفت هذه الكتب طريقها إلى العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وزاد الاهتمام بها في بداية القرن الحالي وما زالت محط أعين الباحثين والمترجمين العرب.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة