Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الهمجية" العصرية تتجلى في تخلي  الحداثة عن الحياة وقيَمهاِ

الفيلسوف الفرنسي ميشال هنري  يكشف أخطار العلمٌ والتقنية عندما يسودان

لوحة للرسام فرنسيس بيكون (متحف الرسام)

يبدأ الفيلسوف الفرنسي ميشال هنري (1922-2002) من حيث انتهت الفيلسوفة الألمانية الأميركية حنة آرندت (1906-1975)، في ختام كتابها "أزمة الثقافة" بإبدائها الشكّ في صوابية مسار البشرية نحو اكتساح الفضاء، وفي أنّ التقدّم العلميّ الذي أحرزته الشعوب المتحضرة، سوف يفضي الى "تدمير البعد الإنساني" المأمول منه.

في كتابه "الهمجية " ( أو البربرية) الصادر حديثا عن دار الساقي(2022)  في ترجمته العربية التي  انجزها  جلال بدلة، يسائل الفيلسوف هنري عن الرابط بين كلّ من الثقافة والهمجية والعلم والتقنية المعاصرة، وينظر في التعارض الجوهري بين الثقافة، باعتبارها "التنمية الذاتية للحياة" وبين الهمجية التي يعني بها الحدّ الأقصى الذي يبلغه العلم إذ يجعل الإنسان "ينفي بذاته ثقافة الحياة" أي كلّ ما يتيح تنمية الفرد إمكاناته وخلقياته ، بحسب فريدريك سايلر.

ضد العلم النقيض

إذاً، يقوم الكتاب على مرافعة مستفيضة ضدّ العلم المنظور اليه نقيضاً للثقافة المعتبرة تنمية ذاتية للحساسية أو حياة الكائن الداخلية، والتي قوامها المشاعر وإدراكه الحسّي، معطوفاً على كلّ ما يتوفّر له من محيطه الصغير والكبير، من قيَم ومعتقدات وأفكار وتصرّفات، وأشكال من الإجراءات التي تتيح له تمثيل العالم على صور معيّنة، شأن الفنون، أو تقدّم له تعليلات عن الواقع والحياة والموت والخلود، والمقدّس والمبتذل وغيرها، كما تؤدّيه الأديان. أو تمنحه تصوّراً عن الكيفية المثلى التي ينبغي له التعاطي بها مع الكائنات والبشر الآخرين، على نحو ما تفعله الأخلاق، وموازين القيَم، والجمال، والمتَع. وهذه جميعها تندرج في باب ثقافة الحياة، وتتجلّى في حساسية الكائن الفرد، على ما يراهما الفيلسوف ميشال هنري.

وفي المقابل، يقوم العلم، في نظر الفيلسوف هنري، على فكرة عن الحقيقة الكونية ثابتة وأحادية، يزعم القائلون بها أنها نتاج نظرة موضوعية لا لبس فيها. بيد أنّ الخطورة لا تكمن في توصيف العلم، على هذا النحو، ما دام محصوراً في درس الطبيعة، ومنشغلا في استخلاص قوانينها، وإنما في ميله المتطرّف الى استبعاد كلّ الأشكال التقليدية للثقافة، بما تعنيه من فنون، وخلُقيات، وأديان، بحجة أنها مشوبة بالذاتية، ولا تمتّ الى الموضوعية بأيّ صلة. وبالتالي، فإنّ هذا الاستبعاد، بحسب الفيلسوف هنري، من شأنه أن يجرّد ذاك العلم من أيّ تداخل إنسانيّ، بحيث تصحّ نسبته الى التقنية التي تبدو مساراتها عمياء، وتتنامى من ذاتها على نحو رهيب، من دون أن تكون صادرة عن بشر، ولا عن حياة إنسانية، ولربما يكون مثاله في ذلك ما بات أفلاماً تحكي عن تهديد الروبوتات للبشرية، مثل تيرميناتور، وأفلام وستورد، وغيرهما. ومن هذا القبيل أيضا، يمكن اعتبار التلفزيون مثالاً على حقيقة التقنية التي هي ممارسة الهمجية على صورتها التامة، إذ يحوّل الأخير كلّ حادثة الى خبرٍ جدير بالتناقل، والى واقعة غير متناسبة وعديمة المعنى، بحسب الفيلسوف.

 يرى الفيلسوف هنري الى العلم الموسوم بالحداثة والمعاصرة على أنه أحد أشكال الثقافة حيث تستبعد الحياة ذاتها، وترفض أن يكون لها أيّ قيمة خارج المعرفة المعتبرة علميةً ومجرّدة من أيّ تدخّل إنساني، أو غائية إنسانية. وإذ يعيد الفيلسوف ذلك التصوّر الى نشوء فكرة الحداثة القائمة على المعرفة الهندسية الرياضية (غاليلي) وتنامي الاكتشافات العلمية، بالتوازي مع تقلّص سلطان الثقافة من مضمار مجتمع المعرفة ذي الاتّجاه العلموي المهيمن -المؤمن بالعلم خلاصاً للبشرية، والبالغ ذروته نهاية القرن التاسع عشر- فإنّه يرفع من مكانة التقنيات الحديثة، والمجرّدة من الأبعاد الخلقية، لتغدو أيقونة هذه الحداثة بلا منازع، على الرغم من كونها منتمية الى العالم اللاإنساني.

القيم والثقافة

في الكتاب الذي يعدّ محاجّة كبرى، وبلغة فلسفية شديدة الخصوصية ونامية الى الفلسفة الظاهراتية الهوسرلية، يبيّن ميشال هنري كيف أنّ العلم الحديث، في كلّ اختصاصاته، سواء العلمية البحتة منها، أو الإنسانية، صار يستبعد أساسَ القيَم والثقافة من متون هذه العلوم، بدعوى التزام الموضوعية العلمية الصارمة والقابلة للقياس والتكميم والمعادلات الرياضية. وبهذه الحجّة جعل العلم الحديث هذا يستبعد مجموع القيَم والمثُل والإجراءات الفردية والجماعية الفنية والجمالية والدينية وغيرها، من ميزانه. فصار علماً محضاً، مجرّداً من الأهداف، ومفصولاً عن منطلقه البشري والإنساني الذي لطالما كان ماثلاُ في أصل أيّ مبحث علمي، أو معرفيّ على مرّ تاريخ الحضارات، بل منذ أن بدأ الإنسان مشواره الحضاري. وعندئذ يمكن الكلام - بلسان الفيلسوف-على الهمجية، أو البربرية، باعتبارها ختاماً لحالة الخراب المعنوي السابق وصفها، على حدّ تعبير المفكّر جوزيف دو ميتر، والتي تفرضها الحداثة، على كلّ نشاطٍ أو مظهر من مظاهر حضارتنا المعاصرة.

ولمّا كانت الثقافة، بمفهومها الشامل، مرآةً للحياة، يُتاح لكلّ كائن بشريّ بمقتضاها أن يعاينَ ذاته أو حياته فيها، وينتابه الإحساسُ بنفسه ووجوده من جرّاء ذلك التمرئي، فيدرك إذ ذاك أنّ فعل الحياة قد حصل عنده. وبالمقابل، فإنّ عدم حضور الثقافة في حياة الكائن، وانتفاء قدرته على التمرئي، يبطلان لديه الشعور بتمام الحياة لديه. ذلك أنّ الحياة، من منظور ميشال هنري، هي "الأساسُ الحقّ لكلّ خلقية، والمنبع المتواري والمنكشف لكلّ القيَم الإنسانية الخيّرة، سواء أكانت خلقية، أو دينية، أو جمالية...وهي هذا المطلق في الحبّ الذي يسمّيه الدين الإله". أما الشرّ فهو الموت الداخليّ والظاهراتيّ للكائن، فردا كان أم جماعة، وهو الحالة التي يعمل الأفراد بمقتضاها لانحلالهم الداخلي، العاطفي والروحي والاجتماعيّ.

مرض الحياة

لعل استبعاد الحياة أو نفيها من النشاط الإنساني، بحجة الحداثة، بحسب ميشال هنري، إنما يصدر عن "مرض الحياة، أو عن سرّ عدم الرضا عن الذات الذي يقود المرء الى نفي نفسه، أو إنكار قلقه وألمه". وفي العالم المعاصر، على ما يقول، نحن محكومون بأن نتجنّب قلقنا وحياتنا المخصوصة التي ألفناها في خمول العالم الإعلامي. ثمّ إنّ الفرد غير الراضي عن ذاته، والمستلبة إرادته ومعاني أفعاله، يسهل عليه الانقياد الى العنف، بدل أن يلجأ الى الأشكال التقليدية الأكثر حضورا، عنيتُ الثقافة التي تتيح له تجاوز هذا الألم، بل توفّر له التحوّل من الألم الى الفرح.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولئن كانت المقالة هذه أعجز من أن تنقل عمق الجدالات التي أجراها الفيلسوف هنري في كتابه، فإنّ لها فضلاً يتيما، وهو الإشارة الى المحاور المهمة التي طاولتها، والخلاصات التي انتهى اليها الفيلسوف، من دون الدخول في البعد الإبيستمولوجي أو المصطلحات التي يستقيها من منابعها ومرجعياتها الفلسفية ذات الصلة. ومن هذه المحاور، إشارته الى "أيديولوجيات الهمجية"، والتدقيق في مسألة عجز العلوم، المعتبرة كذلك، عن تمثيل الحياة تمثيلا نظريا وواقعيا. ومنها أيضا  إشارته ، في فصل "ممارسات الهمجية"، الى سعي بعض الجامعات في أوروبا الى زيادة ساعات التدريس للأساتذة، بحيث لا يتبقى لهؤلاء الوقت الكافي للبحث ومدّ مجتمع المعرفة بالمعارف الجديدة، وبالمحصلة يسيطر الخواء على ميادين المعرفة، ويتمّ فصل الجامعة عن المجتمع، وتغريبها عن واقعه ومشاكله المادية والروحية.

وقبل الختام، تجدر الإشارة الى أنّ الفيلسوف ميشال هنري، هو من كبار الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين، الذين صارت طروحاتهم الفكرية الجريئة والمزعزعة للكثير من اليقينيات، من مثل انتقاد نظرة الماركسيين الى ماركس، واعتبار طرح فرويد المبني على الغريزة الجنسية قاصراً ودالاً على التباس قبليّ في طبيعة الإنسان، إضافة الى أسطورة الموضوعية والعلمية التي تتهاوى اليوم تحت وقع التغيرات المناخية القاتلة بفعل الإفراط في استخدام التقنية لغاية الربح والرسملة، وليس لإفادة البشر منها، وغيرها من القضايا.

للفيلسوف هنري الكثير من الأتباع في العالم، ولا سيما في النطاق الفرنكوفوني، يواصلون الكشف عن أعمال المفكّر الكبير المنشورة وتلك التي لا تزال مخطوطة. ومن هؤلاء الأكاديمي والشاعر اللبناني جاد حاتم، الذي يدير مركزاً للدراسات المختصة بالفيلسوف ميشال هنري، في جامعة القديس يوسف، بيروت.

للفيلسوف هنري مؤلفات عديدة أهمها: الظاهراتية والحياة، جوهر التظاهر، مسألة كائن الأنا، الظاهراتية المادية، فلسفة الجسد ، كتاب الموتى، ماركس، اشتراكية ماركس، رؤية اللامرئي لدى كاندنسكي، أنا هو الحق، والتجسّد، وغيرها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة