Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تجدي التجربة الاسكندنافية في حل أزمة "السجن الأميركي الكبير"؟

ربع سجناء العالم في الولايات المتحدة ومحاولات لخلق بيئة وحياة طبيعية لهم للسيطرة على ظاهرة العنف

الولايات المتحدة ما زال لديها أعلى معدل للسجناء، فمن بين نحو 10.7 مليون سجين في العالم يوجد 2.19 مليون منهم في أميركا (أ ف ب)

ربع سجناء العالم يقبعون داخل السجون الأميركية ويعانون الاكتظاظ والعنف والأحكام الطويلة، الأمر الذي يخلق مناخاً من اليأس لديهم وينعكس بالسلب على القائمين على إدارة تلك المنشآت.

لكن تحت ضغوط المدافعين عن إصلاح السجون وضرورة تغيير بيئتها تحاول ولاية بنسلفانيا بالتعاون مع الدول الاسكندنافية تحسين الأنظمة الإصلاحية وتشجيع التغيير الهادف إلى حياة طبيعية أفضل للسجناء كجزء من المجتمع حتى خلف الجدران والقضبان.

فما الذي يعانيه السجناء في أميركا؟ وإلى أي مدى يمكن إصلاح أوضاعهم استناداً إلى التجربة الاسكندنافية؟

الأعلى عالمياً

على رغم من تراجع مستوياته إلى الحد الأدنى منذ 20 عاماً فإن الولايات المتحدة ما زال لديها أعلى معدل للسجناء، فمن بين نحو 10.7 مليون سجين في العالم يوجد 2.19 مليون منهم في أميركا وهو يزيد كثيراً عن عدد السجناء في الصين الذي يبلغ 1.69 مليون على رغم أن عدد سكان الصين يزيد نحو خمسة أضعاف عن عدد سكان أميركا.

مقارنة بمتوسط عدد سجناء يصل إلى 140 سجيناً لكل 100 ألف شخص من السكان حول العالم سجلت الولايات المتحدة أعلى معدل عالمي بلغ 629 سجيناً لكل 100 ألف مواطن وهو ما يزيد كثيراً عن المعدل الأوروبي (73) أو الروسي (253) أو دول جنوب قارة أفريقيا (248) أو دول جنوب شرقي آسيا (171).

بيئة صراع

أدت الأعداد الضخمة من السجناء في الولايات المتحدة إلى مشكلات عدة منها زيادة الأخطار الصحية والأزمات النفسية للنزلاء.

ووفقاً لدراسة أجرتها وزارة العدل الأميركية تغذي ثقافة السجون بيئة تؤدي إلى أنواع من الصراع وتولد البنية الاجتماعية وأنظمة السجون تنافساً بينهم يتطلب من النزلاء التفاعل مع الأشخاص الذين لا يمكن التنبؤ بتصرفاتهم، كما يحرم السجناء من الخصوصية وتعد السجون أماكن ينتشر فيها خطر الاستغلال والتعرض للظلم والرد بالعنف.

ووفقاً لمبادرة العدالة الدولية، وهي منظمة حقوقية، فإن ملايين الأميركيين يقبعون في سجون ومعتقلات مكتظة وعنيفة وغير إنسانية لا توفر العلاج أو التعليم أو إعادة التأهيل، خصوصاً بعد ارتفاع أعداد السجناء في التسعينيات وتدهور أحوالهم.

سجون في أزمة

بحسب تقرير أخير للمبادرة فإن السجون والمعتقلات في أميركا تعاني أزمة إذ يتعرض السجناء للضرب والطعن والاغتصاب والقتل في مرافق يديرها مسؤولون بعضهم فاسدون يسيئون استخدام سلطتهم للإفلات من العقاب.

وقال التقرير "يحرم من الرعاية الأشخاص الذين يحتاجون إلى رعاية طبية ومساعدتهم في إدارة إعاقاتهم، أو علاج الصحة العقلية والإدمان والوقاية من الانتحار ويتم تجاهلهم ويعاقبون ويوضعون في الحبس الانفرادي، وعلى رغم الدعم المتزايد من الحزبين الجمهوري والديمقراطي لإصلاح العدالة الجنائية لم يتحقق تقدم ذو مغزى".

وتشير دراسات إلى أن أكثر من 60 ألف شخص في الولايات المتحدة محتجزون في الحبس الانفرادي، حيث يتم عزلهم في زنازين صغيرة لمدة 23 ساعة في اليوم ولا يسمح لهم بالخروج إلا للاستحمام أو ممارسة التمارين الرياضية القصيرة أو الزيارات الطبية، كما يمنعون من المكالمات أو الزيارات من أفراد الأسرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويعاني الأشخاص المحتجزون في الحبس الانفرادي طويل الأمد القلق والبارانويا والاضطرابات الإدراكية والاكتئاب العميق، كما تمثل حالات الانتحار بين الأشخاص المحتجزين في عزلة ما يقرب من 50 في المئة من جميع حالات الانتحار بالسجون.

وقالت المحكمة العليا عام 2011 إن عدم توفير رعاية صحية طبية وعقلية مناسبة للأشخاص المسجونين قد يؤدي إلى عواقب وخيمة ووجدت أن الرعاية الطبية والعقلية غير الكافية في ولاية كاليفورنيا تتعارض مع مفهوم كرامة الإنسان ولا مكان لها في المجتمع المتحضر وأمرت الولاية بإطلاق سراح ما يصل إلى 46000 شخص من سجونها التي وصفتها بأنها مروعة.

غير أن سجون ولاية ألاباما هي الأكثر عنفاً بالبلاد، حيث وجدت وزارة العدل الأميركية في تحقيق على مستوى الولاية أنها تنتهك بشكل روتيني الحقوق الدستورية للأشخاص في سجونها، فينتشر القتل والاعتداء الجنسي وتنتشر السكاكين والعقاقير الخطرة ويتم ابتزاز الأشخاص المسجونين والتهديد والطعن والاغتصاب من قبل زملائهم، وحتى التقييد لأيام من دون أن يلاحظ الحراس.

وعلى رغم أن الدستور الأميركي ينص على أن مسؤولي السجون يحمون السجناء من الأذى الجسدي والاعتداء الجنسي، لكن المنشآت بجميع أنحاء البلاد تفشل في الوفاء بهذا الواجب الأساسي، مما يعرض السجناء للخطر.

أعباء أخرى

إضافة إلى ما يعانيه السجناء هناك أعباء أخرى، إذ إن ضباط السجون والإصلاحيات الذين غالباً ما يواجهون تحديات من خلال نوبات العمل الطويلة والمخاوف في شأن سلامتهم وظروف العمل المجهدة، لديهم متوسط عمر متوقع أقل بعشر سنوات من عامة السكان.

كما يضيف العدد الكبير من السجناء أعباء مالية أخرى على موازنات الولايات، فنيويورك على سبيل المثال تنفق في المتوسط نحو 69 ألف دولار سنوياً على كل نزيل وهي كلف ومتطلبات مراقبة وإدارة جميع جوانب الحياة للنزلاء وتشمل كلف الطعام والأنشطة الترفيهية والفرص التعليمية والأمن والمرافق وصيانة البنية التحتية والرعاية الصحية.

ومع تزايد الغضب العام في ما يتعلق بظلم نظام العدالة الجنائية في أميركا يشجع بعضهم الآن على خفض العقوبة لذوي الأخطار المنخفضة، كما دعا بعض المدافعين إلى إبعاد الناس عن السجون وهو ما جعل عدداً من المقاطعات والبلديات تتبنى مجموعة واسعة من برامج التحويل وهو مصطلح واسع يشير إلى أي وسيلة للخروج من نظام العدالة الجنائية من دون إدانة جنائية، بحيث يمكن تقديم بديل عن السجن لشخص مدان.

ولا تستهدف هذه البرامج فقط تخفيف الأعباء عن السجون، بل أيضاً تجنب العواقب الجانبية التي يعانيها المعرضون للسجن من مواجهة الشرطة التي قد تتحول إلى خطر وصدمة الحجز ونشرها على الإنترنت وفترات طويلة من الوقت بعيداً من العمل والأسرة أو المثول أمام المحكمة، فضلاً عن العبء المالي للكفالة وكلف المحكمة، والأهم تجنب الإدراج في سجل جنائي يولد كثيراً من التحديات الأخرى في المستقبل مثل الاستبعاد من القوى العاملة وعدم الأهلية للحصول على المنافع العامة والحرمان من حق التصويت في الانتخابات والحرمان من الحق في الخدمة ضمن هيئة محلفين.

التجربة الاسكندنافية

لكن جهود الإصلاح يمكن أن تمتد أيضاً إلى تغيير بيئة السجن نفسها، وهو ما بدأت بخ ولاية بنسلفانيا خلال العامين الماضيين مستفيدة من تجربة الدول الاسكندنافية التي نجحت في تقديم بيئة أكثر إنسانية للسجناء تركز على توفير حياة طبيعية لهم وإعادة دمجهم في المجتمع حتى وهم خلف القضبان والجدران، مما أدى إلى تغيير إيجابي واضح جداً لكل من السجناء وضباط السجون والإصلاحيات.

ووفقاً لأستاذ علم الجريمة ودراسات العدالة في جامعة "دريكسيل" جوردان هيات  وأستاذة علم الاجتماع في جامعة "أوسلو" سينوف نيجارد أندرسن، فإن الأنظمة الإصلاحية بمعظم الدول الاسكندنافية تسترشد بمجموعة عامة من المبادئ الفلسفية، ففي السويد تؤكد هذه المعايير على إعادة التأهيل للسجناء وتشجع التغيير الهادف بحيث يمكن لهم أن يعيشوا حياة أفضل.

وفي النرويج تعتبر القيم الأساسية للسلامة والشفافية والابتكار أساسية لفكرة خلق حياة طبيعية داخل السجن والشعور بأن الحياة مستمرة كجزء من المجتمع، وهذا يعني أنه يمكن للسجناء ارتداء ملابسهم الخاصة والعمل في وظائف تعدهم وتؤهلهم للتوظيف، كما يمكنهم طهي وجباتهم بأنفسهم.

سجون الحياة الطبيعية

وما يميز السجون في الدول الاسكندنافية أنها صغيرة أيضاً، بحيث يضم بعضها نحو 12 شخصاً فقط، نظراً إلى معدلات الحبس المنخفضة نسبياً بالمنطقة وفي معظم الحالات يمكن للأشخاص المسجونين في النرويج الحصول على عدد من الخدمات والبرامج الاجتماعية والتعليمية تماماً مثل الأشخاص غير المسجونين.

وتصمم سجون عدة، خصوصاً في النرويج، بطريقة مختلفة اختلافاً جوهرياً عن تلك الموجودة بالولايات المتحدة، فغالباً ما تكون أقرب من نماذج الحياة الطبيعة، وعلى سبيل المثال تخصص الزنازين في النرويج لشخص واحد وليس لأشخاص عدة كما هي الحال في معظم الحالات في الولايات المتحدة ولهذا ليس من المستغرب أن تجتذب النرويج كثراً من الزوار الدوليين الذين يأتون لمراقبة نظام السجون الخاص بها.

 

والأهم من ذلك أن جميع ضباط السجون والإصلاحيات حاصلون على تعليم جامعي لمدة عامين في الأقل ويشاركون بشكل مباشر في إعادة تأهيل السجناء والتخطيط لعودتهم إلى العالم الطبيعي خارج السجن في حين يتلقى معظم الضباط في الولايات المتحدة تدريباً يستمر بضعة أسابيع فقط ويركز عملهم في الغالب على جوانب الحفاظ على السلامة والأمن.

وتشير البيانات إلى أن معدلات العودة إلى الإجرام منخفضة في الدول الاسكندنافية، ففي النرويج يعاد اعتقال أقل من نصف الأشخاص المفرج عنهم من السجن بعد ثلاثة أعوام في حين أن هذه النسبة تقفز إلى 70 في المئة بولاية بنسلفانيا، مما يجعل الآثار المترتبة على الأنظمة الإصلاحية عميقة.

النرويج وأميركا

هناك بالطبع اختلافات جوهرية أخرى بين الدول الاسكندنافية والولايات المتحدة إذ إن النرويج مثل البلدان الاسكندنافية الأخرى أصغر بكثير من أميركا من حيث عدد السكان والجغرافيا ومعدلات الجريمة هناك أقل مما هي عليه في الولايات المتحدة وأنظمة الدعم الاجتماعي أكثر قوة بينما عنف السلاح ضئيل للغاية وأطول عقوبة سجن في معظم الحالات هي 21 عاماً، بينما يقضي معظم الأشخاص أقل من عام واحد في السجن، لكن في ولاية بنسلفانيا الأميركية لا يعد الحكم بالسجن مدى الحياة نادراً وجرائم عدة بما في ذلك الجرائم غير العنيفة يمكن أن تؤدي إلى عقود من السجن.

ومع ذلك قد لا يكون النظامان متعارضين تماماً عندما يكون الهدف هو إصلاح بيئة السجن، ففي سجن تشيستر التابع للولاية خارج مدينة فيلادلفيا عمل فريق موجه من ضباط الإصلاحيات بعد زيارة السجون الاسكندنافية والتعرف إلى آلية عملها على دمج مبادئ العقوبات الاسكندنافية منذ عام 2018 وسعى الضباط وقادة السجن إلى إعادة النظر في الشكل الذي يمكن أن يبدو عليه السجن مع التركيز على تطوير وحدة سكنية واحدة داخله.

اسكندنافيا الصغيرة

في مارس (آذار) 2020 تم اختيار ستة سجناء في تشيستر حكم على كل منهم بالسجن مدى الحياة للمشاركة في المشروع وانتقلوا إلى الوحدة السكنية الجديدة التي أصبحت تعرف باسم "اسكندنافيا الصغيرة".

وفي أوائل عام 2022 تم اختيار 29 آخرين من سجناء تشيستر للانضمام إلى الوحدة السكنية المستوحاة من الدول الاسكندنافية التي تتكون من زنازين فردية ومطبخ مشترك ومفروشات شبيهة ببلدان الشمال ومساحة خضراء خارجية ذات مناظر طبيعية، حتى أصبحت "اسكندنافيا الصغيرة" لا تشبه أي سجن آخر في الولايات المتحدة وازدهر نمو النباتات في جميع أنحاء المناطق المشتركة.

وعلاوة على ذلك سمح برنامج البقالة لجميع سكان الوحدة بشراء الأطعمة الطازجة وهو أمر نادر في السجن، كما بدأوا بالتوجه كل يوم إلى العمل أو العلاج أو المدرسة، كل ذلك داخل السجن في حين كان ضباط الإصلاحيات المشرفون على البرنامج يتلقون تدريبات لتسهيل التواصل مع السجناء.

فوائد التجربة

على رغم من أن المجتمع في هذه الوحدة لا يزال يتطور لم تكن هناك أعمال عنف كما توقع بعضهم حتى مع إمكانية وصولهم إلى أدوات المطبخ والآلات الحادة وأظهرت بعض التحليلات أن النهج الاسكندنافي الذي يركز على الحياة الطبيعية وإعادة الإدماج، أدى إلى إحساس السجناء بمزيد من الأمان وأصبحت لديهم علاقات أكثر إيجابية مع الموظفين والمشرفين في السجون.

كما أشاروا إلى ارتياح أكبر لحصولهم على الغذاء ودعم إعادة الإدماج المتاح لهم، كما أن النهج الاسكندنافي كان مفيداً لضباط السجون والإصلاحيات أيضاً وعزز معنوياتهم واستقلاليتهم ورفاههم.

ويبقى استكمال التجربة للاستفادة من البيانات المستمدة من هذا المشروع والبحث الدقيق حول الجهود الأخرى من أجل إثراء المحادثات حول الشكل الذي يمكن أن يبدو عليه مستقبل إصلاح السجون في الولايات المتحدة.

وكما يقولون في النرويج فإن السجن مسؤول عن تمكين الأشخاص المسجونين من العودة إلى المجتمع كجيران جيدين وهو ما يراهن الباحثون على أن يكون صحيحاً في فيلادلفيا، كما هو في ستوكهولم وأوسلو.

المزيد من تقارير