Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"جنائن معلّقة" يلقي نظرة على العراق من مكب نفايات

أفلام سينمائية قليلة تصور في بلاد تملك الكثير من القصص

 فيلم "جنائن معلقة" بنظرته القاسية إلى الواقع العراقي (ملف الفيلم)

لا يخرج من العراق إلا عدد قليل من الأفلام سنوياً بين طويل وقصير. وهذا القليل يصعب عليه إقناع المُشاهد، لكنه يضعنا أمام حقيقة أن العراق مستوعب قصص لم "يُثقَب" بعد، ونظراً لمَا هي عليه حال الأفلام العراقية، فعلى الأرجح أنه لن "يثقب" في القريب. فمشكلات السينما العراقية متعددة، فنية في الدرجة الأولى واجتماعية وسياسية كذلك. ثم أنها أثبتت على مر الزمن أنها لا تصنع الحدث، خلافاً للأفلام الآتية من بقع جغرافية أخرى. فالمنظومة العالمية وضعت تراتبية للقضايا والأولويات. المسألة العراقية شغلت وتشغل العالم، لكن لا يمكن أن ندّعي أنها تجذب الانتباه عندما تنتقل إلى الشاشة التي تشترط عناصر جذب من نوع آخر. العراق سينمائياً، يقع في تضاد مع عراق الواقع. وهذا يحتاج إلى كمّ وتراكم كي يتغيّر. 

مناسبة هذا الكلام؟ "جنائن معلّقة"، باكورة المخرج العراقي أحمد ياسين الدراجي، التي عُرضت في مهرجان البندقية الأخير، ضمن الفئة غير التنافسية ("أوريزونتي إكسترا"). بعيداً من التحامل على سينما هشّة تجاهد من أجل الوجود، يمكن القول إن الفيلم يُشاهَد، أقلّه للاطلاع على بعض جوانب العراق التي نادراً ما رأيناها منقولة بكاميرا عراقية وحساسية عراقية ورؤيا عراقية.

رجال ومراهقون

 

الفيلم يدور حصراً في بيئة رجال ومراهقين وتقع أحداثه في العام الماضي. النساء الوحيدات اللواتي يظهرن فيه، يطللن من خلف قطعة قماشة أو ثقب في جدار. لا شك أن المخرج لم يرد فيلماً يطفح بالذكورية السلبية، ولم يتعمّد إقصاء النساء، لكن هذا هو المجتمع الذي يصوّره، رجال برجال، شؤونهم واهتماماتهم، ما يلقي على الفيلم تلقائياً، مقداراً من الخشونة والجفاف. أضف إلى أن الفيلم نفسه، تجري فصوله في مكب نفايات في بغداد، يحوم عليها الذباب والحشرات الطائرة، وهو المكان حيث يتم العثور على جثث متحللة أو أطفال رضّع، تخلّص منهم من أنجبوهم. هذا كله في جو يهمين عليه التعصّب الديني الزاحف إلى البلاد، بخطورته المعتادة وتهديده لكلّ شيء يخالف "الشرع".  

في هذا المكب المعروف باسم "جنائن معلّقة"، يمضي الأخوان أسعد وطه، معظم وقتهما جامعين القمامة ثم بيعها لإحدى الشخصيات المنفّرة. يعثران في المكب على بعض مستلزمات العيش. لا يتجاوز أسعد الثانية عشرة، لكنه ناضج ومتمرد وطموح وذكي، من هؤلاء الأطفال الذين تلقّنوا دروس الحياة في الشارع. تجربته تتساوى مع تجربة مئة راشد. خلافاً لشقيقه الأكبر، البائس والمنبطح، الذي يعير اهتماماً كبيراً لما قد يُقال عن تصرفاته وسلوكياته داخل المجتمع، على رغم أن هذا الأخير ينعته بأحط الصفات. بينهما صراع أجيال، وصراع بين مفهومي عيش وصمود. 

بعد مقدمة تموضع الشخصيات في بيئتها، يتوقف الفيلم عند حادثة عثور الصبي على دمية جنسية، وهي من المخلفات التي ألقى بها الاحتلال الأميركي في القمامة. هذه الدمية ستغير حياته، بعد أن يستغلها للبغاء. نعم قرأتم جيداً. في مجتمع يعاني بؤساً جنسياً وكبتاً وحرماناً، يصطف الشباب المتعطش للجنس في الطوابير لمعاشرة الدمية الشقراء، داخل عربة تحوّلت ماخوراً موقتاً. أما القواد، فهو الصبي الصغير ورفيق له. باختصار، الحكاية التقليدية للمستغَل الذي يغدو بدوره مستغِلاً، عندما لا يجد طريقة أخرى للبقاء والصمود في بيئة معادية له. الأدوار تتبدّل باستمرار بين "الأميركان" وأدواتهم من جانب، والزعران العراقيين والأولاد الذين لا حول لهم ولا قوة من جانب آخر. 

مجرد فكرة

 

الفكرة جميلة لكن المخرج لا يحلّق بها عالياً. ناقد عراقي قال لي إن أبناء شعبه لهم القدرة على تخريب أي فكرة جميلة، وهناك شيء من الحقيقة في كلامه. لا تنضج الفكرة في أي لحظة من الفيلم ولا تصل إلى مكان بل تبقى مجرد فكرة، لترسو على خلاصة لا تتساوى فيها المَشاهد جميعها. هناك تباين يحدث خللاً كبيراً في بنية الفيلم. ما إن نقتنع بمشهد حتى يأتي التالي ليبدد قناعاتنا. وهكذا إلى آخر الفيلم. هذا يجعل الفيلم مفكّكاً يضرب التناغم ووحدة إيقاعه. قد تكون المشكلة مونتاجية أو كتابية، مهما كانت، فهي تمنع الفيلم من الإقلاع، وهناك إحساس أن كلّ ربع ساعة ثمّة أزمة قلبية تضع حياته في خطر!

يقارب الفيلم شؤوناً عدة في العراق على نحو يولّد داخلنا فضولاً لن يرويه البتّة. من التطرف الديني إلى الجنس والعلاقات الإنسانية المأزومة، وصولاً إلى منطق الميليشيات الذي تغلغل داخل كلّ مفاصل المجتمع العراقي. هناك لمس للكثير من الشؤون التي تطل من دون أن تجد حضناً دافئاً لها داخل الفيلم. هذا عدا عن أن الشخصيات الثانوية شديدة الكاريكاتورية، شرّها مكتوب على جبينها وتمثيلها ضعيف. أما غياب كل مظاهر التعاطف بين العراقيين، فأمر يبعث على القلق! 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يصوّر الدراجي العراق فضاء مأزوماً يعاني الكثير، ولكن الأفظع أنه لا يترك ولو باباً صغيراً يتسلل منه الأمل، خصوصاً أنه يتحدّث عن الجيل الذي من المفترض أن يعيد بناء البلاد وصنع مستقبله. أما بقية الشخصيات التي واكبت مراحل مختلفة من تاريخ العراق الحديث والتي تمر من دون أن تترك أثراً، فهي ماضيها الذي يلقي بظلاله على مجتمع متصدّع. لا يجد الدراجي أي فائدة من تعميق النظرة في هؤلاء، مسلطاً الضوء على مَن لا يزال الوقت يسمح في إنقاذه، لا على مَن شق طريقه إلى النهاية. بعنوانه الذي يتضمن سخرية ويأساً، لا يحمل "جنائن معلّقة" شيئاً جميلاً، كل لحظة فيه تبعث على النفور، من سلوك الشخصيات للمنحى الذي تأخذه الأحداث، مروراً بالأبوية التي تمنع أي إنسان من أن يرتّب حياته وفق نظرته ورؤيته لها. 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما