على بعد ثلاثة أسابيع من موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون، وبعد مرور أربعة أشهر ونيف على تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة الأخيرة في عهد عون، لا تبدو الأمور سارية على خطي الاستحقاقين، خصوصاً في ظل الانقسام الحاد بين القوى السياسية معارضة كانت أم من السلطة، وعدم قدرتها على الاتفاق على رئيس للجمهورية أو تعديل حكومي بالحد الأدنى. وأمام الفشل في التوصل إلى حل قريب في الاستحقاقين، فإن الكلام الذي كان يُقال همساً صار يصرح في العلن، عن دخول لبنان عمداً بفراغين في الرئاسة الأولى والسلطة التنفيذية، كتمهيد لتغيير النظام والانقلاب على اتفاق الطائف.
التخبط الذي تعيشه القيادات السياسية غير القادرة حتى الآن على إيجاد حل يضع مصلحة لبنان أولاً، يقابله تلاقٍ وانسجام في مواقف القيادات الروحية الإسلامية والمسيحية، خصوصاً في التشديد على حصول انتخاب رئيس للجمهورية في الموعد الدستوري من دون أي تأخير والتمسك باتفاق الطائف كمسألة محورية وضرورية تجنباً لإدخال البلد في المجهول مع ما قد يتعرض له الاستقرار السياسي والأمني إذا ما تم التلاعب بالتوازنات الداخلية التقليدية.
تلتقي في هذه القراءة دار الفتوى والبطريركية المارونية. فالأولى هي الراعية الأساس لوثيقة الوفاق الوطني، انطلاقاً مما تضمنته من صلاحيات عززت موقع رئاسة الحكومة السنية. والثانية معنية برئاسة الجمهورية الموقع المسيحي الأول في المؤسسات الدستورية اللبنانية والحريصة على تطبيق مبدأ المناصفة الذي نص عليه الطائف بين المسيحيين والمسلمين.
الدستور للحفاظ على الكيان
يلتقي البطريرك الماروني بشارة الراعي والمفتي عبد اللطيف دريان على تكرار الدعوات إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل 31 أكتوبر (تشرين الأول) تجنباً لأي فراغ رئاسي. وانتخاب الرئيس في الموعد المحدد بندٌ واضحٌ في الدستور ولا تفسير آخر له. ويؤكد مصدر كنسي لـ"اندبندنت عربية" أن تمسك بكركي بالدستور ليس وليد اللحظة أو الظرف الحالي، بل هو موقف ثابت لدى الكنيسة المارونية على مر التاريخ. لكن بكركي التي تعتبر أن الدستور ليس وجهة نظر كما لا يمكن التلاعب به وفق الرغبات والمصالح، تعتبر أن اتفاق الطائف لم ينفذ.
ويقول مستشار البطريرك الماروني الوزير السابق سجعان قزي لـ"اندبندنت عربية" إن البطريرك الراعي المتمسك باتفاق الطائف يدعو إلى تعديل النظام وتغيير الشوائب فيه، مذكراً بالعناوين الأساسية التي رفعها الراعي ويمكن أن تسجل تمايزاً عن مواقف القيادات الروحية الأخرى، إن في الحياد أم في الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي من أجل لبنان والاتفاق على شرعة جديدة.
ولا تخفي بكركي قلقها من مخطط يهدف إلى إدخال البلاد في المجهول انطلاقاً من بعض الدعوات المطالبة بتغيير النظام وكلام جس النبض في طرح مؤتمر تأسيسي جديد للوصول إلى المثالثة التي تتوجسها دار الفتوى أيضاً. ويتمسك البطريرك الراعي والمفتي دريان بحصول الاستحقاق الرئاسي في موعده قطعاً للطريق أمام ما قد يحمله الفراغ الرئاسي من سيناريوهات وتغيرات في الصيغة الحالية، لا تريدها بكركي ولا دار الفتوى. ولدى البطريركية المارونية هواجس من وجود نيات خفية للانقلاب في المستقبل على العرف الذي يوزع الرئاسات الثلاث بين الموارنة والشيعة والسنة، وتأثير ذلك على لبنان الوطن والنموذج والرسالة.
قراءة واحدة لانتقال الصلاحيات
اعترض بطريرك الموارنة على السيناريوهات التي يحكى عنها لإبقاء رئيس الجمهورية عون في القصر الجمهوري وتهديدات فريقه السياسي بتعطيل انتقال صلاحيات الرئيس إلى حكومة تصريف الأعمال الحالية من خلال إصدار مرسوم استقالة الحكومة لتصبح عاجزة عن حكم البلاد في غياب رئيس الجمهورية. وتمسك الراعي بالدستور، وعارض رئيس الجمهورية الماروني في قوله "لا مانع دستورياً من تسلم حكومة كاملة الأوصاف صلاحيات رئيس الجمهورية"، وغمز من قناة "التيار الوطني الحر" حين رفض خلق تنافس اصطناعي بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة فيما المشكلة، كما قال، هي في مكان آخر ومع أطراف آخرين. وأتت كلمة المفتي دريان أمام النواب السنة الـ24 الذين جمعهم في دار الفتوى للتشاور بشأن الدور الوطني لممثلي الأمة، إنقاذاً للشرعية الدستورية، منسجمة مع كلام البطريرك الراعي. فشدد المفتي على "إنهاء الاشتباك المصطنع والطائفي والانقسامي في شأن الصلاحيات والعودة إلى المبدأ الدستوري في فصل السلطات وتعاونها". وعندما حذر بطريرك الموارنة من أن الدولة لا تستقيم مع بقاء حكومة مستقيلة أو حكومة مرممة ولا مع شغور رئاسي، واصفاً ذلك بالجريمة الوطنية والكيانية، لاقاه المفتي دريان بالتخوف من بدء عهد اللادولة، محذراً في رسالته إلى اللبنانيين لمناسبة المولد النبوي من الوصول إلى الفراغين في رئاسة الجمهورية والحكومة.
التلاقي الديني لا ينسحب على السياسيين
على رغم تلاقي بكركي ودار الفتوى على عناوين أساسية أهمها التمسك باتفاق الطائف وحصول الانتخابات الرئاسية في موعدها الدستوري، إلا أن قزي لا يعتبر أن هناك رابطاً أو قاسماً مشتركاً بين تحركات بكركي ولقاء دار الفتوى الجامع للنواب السنة، والذي أتى نتيجة لتبعثر الواقع السني، كما يقول قزي. فقرار دار الفتوى عقد لقاء نيابي سني موسع، بحسب رأيه، جاء في محاولة للاتفاق على ثوابت وطنية وتثبيت مكتسبات الطائفة انطلاقاً من التمسك باتفاق الطائف. وقد استتبع ذلك بخطاب معتدل ومنفتح ووطني للمفتي دريان. لكن نتائج اللقاء لم تثمر في جلسة انتخاب الرئيس بحيث بقي النواب السنة مشرذمين مشتتين بين الورقة البيضاء وورقة تحمل عبارة "لبنان" وانتخاب سليم إدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، لم يأخذ البطريرك الراعي مبادرات مماثلة لا جماعية ولا ثنائية ولا فردية، ولم يحاول دعوة النواب المسيحيين أو رؤساء الأحزاب إلى اجتماع ثنائي أو أكثر في بكركي ولا نية لديه في ذلك، لعلمه المسبق بفشل هذه اللقاءات التي فعلها في الماضي ولن يكررها، ولن يدخل بحسب قزي في لعبة الأسماء مكتفياً بتحديد مواصفات الرئيس الذي يعتبره مناسباً للبنان.
لكن الراعي الذي سبق وانتقد انتخاب رئيس توافقي كما ينادي بعض السياسيين وفي مقدمهم الرئيس نبيه بري، انتقد في عظته الأخيرة الرئيس الرمادي ورئيس التسويات. ولم يتوان عن انتقاد المبادرات الأجنبية غامزاً من قناة فرنسا التي تردد أنها تتحاور مع "حزب الله" ولا تعترض على رئيس مقرب منه أو رئيس لا نكهة له ولا لون، عندما قال في عظة الأحد الأخيرة "فيما يقدر شعب لبنان مبادرات الدول الصديقة، يهمه أن تصب هذه المبادرات في خلق مشروع حل لبناني متكامل يحسن علاقات اللبنانيين ببعضهم البعض لا أن تحسن علاقات هذه الدول الأجنبية ببعض المكونات اللبنانية على حساب أخرى، ولا أن تحسن علاقاتها بدول إقليمية على حساب لبنان".
رفض التحكم الخفي بالدولة
بحسب الكاتب والمتخصص في شؤون الحركات الإسلامية أحمد الأيوبي "دعوة المفتي دريان النواب السنة إلى الاجتماع في دار الفتوى لمواكبة الاستحقاق الرئاسي، رسمت الهوية السياسية لمجمل النواب السنة، في إطار الدفاع عن دستور الطائف وعن الشراكة الإسلامية – المسيحية. وهو وفق الأيوبي نجح في إعادة اللحمة السنية - المسيحية من خلال موقفه عندما تحدث عن موقع الرئيس المسيحي في المعادلة الوطنية بكلام واضح شديد الصراحة لا يحتمل أي التباس عندما قال "الرئيس المسيحي هو رمز وواقع العيش المشترك".
ويشدد الأيوبي على أهمية الرئيس ودوره على المستوى الوطني، باعتباره الرئيس المسيحي الوحيد في العالم العربي. وهذا الموقف، يقول الأيوبي، أكبر من المقاربات السياسية ويسمو ليواكب روح الدستور وجوهر الشراكة الإسلامية – المسيحية. وبهذا يتلاقى موقف دار الفتوى مع موقف بكركي ونداءات البطريرك الراعي المتتالية لمنع الفراغ الرئاسي. وفي دعوة المفتي دريان النواب السنة إلى المساهمة في التغيير وفي استعادة رئاسة الجمهورية احترامها ودورها في الداخل والخارج، حسمت دار الفتوى النقاش بشأن طبيعة الصراع القائم في لبنان وحيّدت، بحسب الأيوبي، أهل السنة عن المعركة الدائرة الآن حول موقع رئاسة الجمهورية، وأصبح "حزب الله" في مواجهة الحقيقة.