Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"العيون الخمس"... 500 صفحة من "التاريخ الملوث" لاستخبارات الغرب

اتفاق تبادل المعلومات بدأ بين بريطانيا وأميركا لمواجهة الخطر السوفياتي ثم تفرغ لصناعة الكوارث في الشرق الأوسط

ونستون تشرشل وقع معاهدة سرية بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة لتبادل المعلومات الاستخباراتية بهدف مكافحة الخطر السوفياتي (غيتي)

في أحد أيام ربيع عام 1946، ألقى الزعيم البريطاني ونستون تشرشل خطبة بقيت طويلاً في التاريخ، وربما لم يزل لها حضور فيه. وحسبنا تدليلاً على الأهمية الاستثنائية لهذه الخطبة القول إنها الخطبة التي خرج من رحمها تعبير "الستار الحديدي" ليصبح اصطلاحاً رائجاً منذ ذلك الحين ودالاً على عصر كامل ربما لم نزل نعيش آثاره أو امتداده أو انبعاثه من جديد، لكن تشرشل فضلاً عن ذلك صاغ في تلك الخطبة نفسها تعبيراً آخر كان له نصيبه الكبير من الرواج، وإن لم يبلغ مبلغ الستار الحديدي، وذلك هو "العلاقة الخاصة".

قبل أسابيع قليلة من هذه الخطبة كان الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين ألقى بدوره خطبة قال فيها إن الحرب بين الشرق والغرب أمر محتوم لا مهرب منه، وإثر خطبته تلك وبسبب نشاط الاتحاد السوفياتي من أجل الهيمنة على دول أوروبا الشرقية، كان جورج كينان السفير الأميركي لدى موسكو بعث ما اشتهر بـ"البرقية الطويلة" محذراً من استمرار الاتحاد السوفياتي في نشر العداوة تجاه الغرب.

هكذا جاءت خطبة تشيرشل لتعلن إقامة "ستار حديدي" عبر القارة من دون الانتشار السوفياتي، ولتعلن تأسيس "علاقة خاصة"، أي تحالف دائم بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وبتلك الخطبة أعلن رسمياً الوضع السياسي القاتم الاستقطابي الذي سيعيشه العالم طوال عقود تالية.

ولكن في يوم تلك الخطبة نفسه، وقع حدث تاريخي آخر، مساهماً بطريقته في تشكيل تاريخ العالم المقبل، ففي ذلك اليوم وقعت معاهدة سرية بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة، أو اتفاق رسمي لتبادل المعلومات الاستخباراتية بهدف مكافحة الخطر السوفياتي. ولاحقاً، ستنضم كندا وأستراليا ونيوزيلاندا إلى تلك المعاهدة أو الاتفاق الذي سيعرف بـ"العيون الخمس"، ولن يكشف النقاب عنها علناً إلا بحلول عام 2010.

يكتب ستيفن بلومفيلد ("الغارديان" في 2 أكتوبر / تشرين الأول 2022) أن اتفاق "العيون الخمس" هو الذي "سمح للمملكة المتحدة - شأن عضويتها الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ودورها القيادي في الناتو - أن تشعر بعد البريكست بأنها لم تزل تحتل مقعداً حول طاولة الكبار"، فإلى هذا الحد تبلغ أهمية هذا الاتفاق، إلى حد مساواتها بالعضوية الدائمة في مجلس إدارة العالم المعروف بمجلس الأمن، أو بعضوية التجمع العسكري الأكثر خطورة فيه.

هذا الاتفاق أو المعاهدة هو محور اهتمام كتاب صادر حديثاً بعنوان "التاريخ السري للعيون الخمس: القصة المسكوت عنها لشبكة الجاسوسية الدولية" للكاتب الصحافي البريطاني ريتشارد كرباج، المراسل الأمني السابق لصحيفة "صنداي تايمز"، وصانع الأفلام الوثائقية الذي استطاع أن يقنع كثيراً ممن لهم علاقة وثيقة بالعيون الخمس أن يتحدثوا إليه، فضلاً عن تعمقه في دراسة الأراشيف الوطنية في البلاد الخمسة جميعاً ليلملم النتف المتفرقة لهذا التاريخ المجهول، كاشفاً النقاب عن حكاية تحالف شابه -على حد وصف ستيفن بلومفيلد - "انعدام الثقة، والأخطاء، وسوء التقدير، تحالف اعتبر نفسه مسؤولاً عن حفظ الأمن في بلاده، لكن أمره لم يقتصر على فشله في تحقيق هذا المسعى في بعض الأحيان، بل تجاوز ذلك إلى الإسهام في اضطرابات عالمية".

كشف الجواسيس

لقد توحدت البلاد الخمسة، حتى نهاية الحرب الباردة، في مساعيها إلى هزيمة الاتحاد السوفياتي، فكان جزء من تلك المساعي يتمثل في كشف الجواسيس السوفيات أو مساعدة دبلوماسيين سوفيات على الانشقاق عن نظامهم الحاكم، وذلك هو الجانب الذي كانت تكشف عنه أجهزة استخبارات البلاد الخمسة في تحالف العيون الخمس عن طيب خاطر، لكن هذه الأجهزة لعبت في الوقت نفسه دوراً أشد قتامة لم تكن تحرص أن تلقي عليه ضوءاً، بل ربما العكس.

أكد جيريمي باون في استعراضه للكتاب (نيوستيتسمان في 14 سبتمبر / أيلول 2022) أن تحالف العيون الخمس تأسس في مواجهة الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية المتاخمة له، وأن كرباج "قدم في كتابه وصفاً تفصيلياً مبهراً لذلك التحالف اللافت" مستعرضاً جانباً من العمليات التي نفذتها أجهزة الاستخبارات في تلك العقود المتوترة لتسديد ضربات إلى الدب الروسي. ويبرز الكاتب في هذا الصدد أن أجهزة استخبارات البلاد الأقل قوة في ذلك التحالف قد لعبت هي أيضاً دوراً مهماً، فيضرب لذلك مثلاً بالاستخبارات الأسترالية، إذ رتبت لمساعدة دبلوماسي روسي بارز في الانشقاق عن الاتحاد السوفياتي مستغلة ولعه بمطاردة النساء، مبرمة معه صفقة تضمنت حتى تحقيق طلباته بإخراج أدواته التي يستعملها في صيد السمك وبندقيته وكلبه من داخل الاتحاد السوفياتي.

وفي المقابل، يعرض الكتاب ردود السوفيات على تلك الضربات، ومن ذلك اغتيال وولتر كريفيتسكي، وهو ضابط استخبارات سوفياتي منشق، إذ عثر عليه مصاباً برصاصة في رأسه داخل فندق في واشنطن وبجواره "ثلاث رسائل انتحار".

ولكننا لا نبقى طويلاً مع مثل هذه الحلقات المثيرة التي تبدو مستلة من عوالم روايات جون لو كاريه أو أفلام جيمس بوند في عهدها الأول، إذ سرعان ما ينتقل الكتاب إلى الجانب الأشد قتامة الذي أشار إليه بلومفيلد في مقالته.

يضرب بلومفيلد مثالاً بالشرق الأوسط للدور الكريه الذي يحلو لأجهزة الاستخبارات عموماً - لا أجهزة البلاد الموقعة على العيون الخمس وحدها - أن تخفيه وراء صورتها كحامية للأمن والاستقرار وواقية من الهجمات لا منفذة لها. فـ"على مدار 70 سنة، كان جهازا الاستخبارات البريطاني والأميركي مسؤولين عن سلسلة من الخطوات العدوانية التي زعزعت الاستقرار في الشرق الأوسط، وأسهمت في كثير من المشكلات الجيوسياسية التي لم تزل قائمة حتى يومنا هذا".

ويدلل بلومفيلد على ذلك بـ"آلن دولس رئيس الاستخبارات المركزية الأميركية، الذي رتب في أواخر خمسينيات القرن الماضي، من أجل إطاحة سلسلة من الحكومات المنتخبة ديمقراطياً من إيران إلى غواتيمالا. وأشرف في سوريا على سلسلة مؤامرات للإطاحة بحكومة لاقترافها جرم رفض الانضمام لتحالف عسكري ذي قيادة غربية". ويذكر كرباج بأن جهازي الاستخبارات الأميركي والبريطاني عملا معاً، في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، على تمويل ودعم وتسليح المجاهدين في أفغانستان للمساعدة في هزيمة الاتحاد السوفياتي. فكان من "أكبر من تلقوا التمويل والسلاح" من الاستخبارات المركزية الأميركية بحسب ما يشير كرباج هو زعيم شبكة حقاني، وهي الجماعة التي تعدها الاستخبارات البريطانية الآن شبكة إرهابية ويرد قادتها في قائمة المطلوبين الأكثر خطورة لدى الولايات المتحدة".

غير أن الإثارة الحقيقية في كتاب كرباج تأتي - في تقدير جيريمي باون - مع تناوله للحرب الأميركية على الإرهاب، ابتداء من الحمى التي أعقبت هجمات الـ11 من سبتمبر والإخفاقات الاستخباراتية المزرية التي وسمت غزو العراق بعد مرور أقل من سنتين على ذلك. يقول باون إن "العيون الخمس فقدت مبرر وجودها مع انهيار الاتحاد السوفياتي، ثم جاءت أحداث 11/9 فأوضحت أن عدواً جديداً قد ظهر".

والحق أنه ربما يكون لأجهزة الاستخبارات الغربية الكبرى يد في كل مشكلة في الشرق الأوسط، فقد تكثر الأدلة على هذا التورط أو تقل بحسب كل مشكلة أو كارثة بالأحرى، لكن حرب العراق تحديداً تبرز بين هذه "المشكلات" جميعاً بوصفها في الأساس طبخة استخباراتية عرضت على العالم كله.

لا ريب أن بعضاً منا على الأقل لا يزالون يتذكرون جلسة لمجلس الأمن الدولي عقدت بدعوة من الولايات المتحدة الأميركية لمحاولة استصدار قرار منه أو ترخيص بشن حرب على العراق. تلك جلسة عرضت على الهواء، فشاهدها العالم كله في وقت انعقادها. وفيها عرض وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولين باول على الحاضرين - ومنهم محمد البرادعي مدير وكالة الدولية للطاقة الذرية آنذاك وكبير مفتشي الوكالة هانز بليكس ضمن آخرين - من الوثائق ما لم تدعمه قط تقارير مفتشي الوكالة في شأن العراق.

استهل باول كلمته (التي نشرت الغارديان نصها بتاريخ 5 مارس/ آذار 2003) بقوله "إنه ليوم مهم لنا جميعاً، إذ نراجع الموقف الخاص بالعراق والتزاماته بنزع السلاح بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1441"، ومضى فقال "إن المواد التي سأطرحها عليكم اليوم تأتي من مصادر متنوعة. بعضها مصادر أميركية، وبعضها من بلاد أخرى"، لكن ذلك المشهد الرسمي الذي تابعه الملايين في حينه كان محض قمة ظاهرة لجبل جليد هائل الضخامة يشعر الجميع بوجوده ولا يكاد يراه أحد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يكتب ستيفن بلومفيلد أن حرب العراق "قامت على أساس معلومات استخباراتية مفترضة، هي على وجه التحديد أن صدام حسين كان يمتلك أسلحة دمار شامل، وأنه كان مستعداً لاستعمالها، وأنه كان عازماً على اقتسامها مع جماعات إرهابية من قبيل القاعدة. ولم يكن أي من تلك النظريات صحيحاً. وقد يكون جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء البريطاني – آنذاك - توني بلير، هما اللذان روجا لتلك الحرب، لكن المادة التي استعملاها في الترويج كانت من ابتداع العيون الخمس".

وعلى رغم أن البرادعي وبليكس أكدا في تلك الجلسة عدم العثور على ما يدين العراق في فرية امتلاك أسلحة دمار شامل، فقد ذهب تكذيبهما أدراج الرياح، مثلما ذهبت أدراج الرياح أصوات ملايين المتظاهرين الذين خرجوا في حواضر العالم كله يدينون الحرب التي أصرت الولايات المتحدة على خوضها ومن ورائها بريطانيا، مدعومين بأدلة العيون الخمس المتهافتة.

يؤكد كرباج أن جواسيس بريطانيا في العراق - وكان بعضهم يحتل مناصب سياسية رفيعة هناك - أكدوا للاستخبارات الأميركية عدم امتلاك صدام حسين ترسانات من أسلحة الدمار الشامل "الكيماوية أو البيولوجية أو النووية"، لكن هذه المعلومات كانت تزاح جانباً ولا تصل إلى التقارير التي تعرض على الرأي العام أو الجهات الممثلة له، فقد كان ثمة إصرار على خوض حرب العراق، وعلى التخلص من صدام حسين ونظامه الحاكم كله، ولعل ذلك كان مفيداً في ذاته، لكن أية فائدة تتضاءل - بحسب ما يرى جيريمي باون - أمام ما نجم عن هذا الغزو، من "كارثة للوضع الجيوستراتيجي للأميركيين والبريطانيين وحلفائهم الغربيين. ففضلاً عن الخسائر الهائلة في الأرواح والخراب، غيرت الولايات المتحدة توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط لصالح عدوتها، أي جمهورية إيران الإسلامية التي كان صدام حسين يناصبها عداء مريراً. كما أن الغزو أحال العراق إلى ملعب للمتطرفين الجهاديين. ولم يزل الدخان ينبعث إلى الآن من النيران التي أضرمت هناك قبل عقدين". غير أن كرباج يبدي تعاطفاً واضحاً مع أجهزة الاستخبارات، فيميل طيلة الوقت إلى توجيه سهام اللوم في كل تلك الإخفاقات والنتائج الكارثية إلى بوش وبلير منفردين تقريباً.

انتهاكات فاضحة

لم يقتصر الأمر على تلك الكوارث الناجمة ربما عن سوء تقدير فاضح، فستيفن بلومفيلد لا يهمل أن "تلك الأجهزة الاستخباراتية كانت مسؤولة أيضاً عن بعض انتهاكات حقوق الإنسان الفاضحة التي ارتكبتها قوى غربية. ولأن التعذيب كان غير قانوني، فقد دأبت هذه الأجهزة على اختطاف الإرهابيين المشتبه فيهم، ونقلهم إلى بلاد ذات قواعد أقل صرامة، سامحة بتعذيبهم، بل ومدونة قوائم أسئلة لتطرح عليهم فور تطويعهم. وكانت تلك العملية تتم بقيادة أميركية، وخضع لها بعض من يحملون الجنسيات الكندية والبريطانية والأسترالية، لكن جميع أعضاء العيون الخمس كانوا على علم بأن ذلك يجري"، وسيظل ذلك البرنامج الذي عرف بـ"التسليم الاستثنائي" بدلاً من أن يسمى بساطة "الخطف والتعذيب" يلوث تاريخ العيون الخمس حتى النهاية، بحسب ما يكتب كرباج.

ولم يزل انعدام الثقة الذي وسم التحالف منذ بدايته حاضراً إلى اليوم، ولعل ذلك جزءاً بدهياً من طبيعة تكوين أجهزة الاستخبارات نفسها، ولا ينبغي أن يعد نقيصة فيها. غير أن كرباج يسرد بعضاً من الوقائع التي تدل على غياب الثقة أو التعاون في بعض الأحيان بين أجهزة استخبارات البلاد الخمس في اتفاق العيون الخمس. ومن ذلك أنه حدث أن اعتقل في غوانتانامو 17 بريطانياً، ومر عامان قبل أن توافق الولايات المتحدة على إطلاق سراح خمسة منهم. ويكشف كرباج أن الولايات المتحدة حثت بيتر كلارك - الرئيس السابق لقيادة مكافحة الإرهاب في سكوتلاند يارد - على سجنهم فور رجوعهم، فرفض كلارك ذلك على الفور، وقال لكرباج "إن المواد المقدمة لم توفر لنا ما كان يمكن أن يلقى قبولاً لدى المحكمة".

 

ولكن لعل أسوأ الأمثلة على غياب التعاون والثقة هو مثال شاميما بيغوم، التي تمثل حكايتها بعض تداعيات الفشل الاستخباراتي الذريع الذي بدأ مع غزو العراق. فبيغوم ليست أكثر من حلقة في قصة محزنة لما عرف في الصحافة الغربية بالعرائس الجهاديات اللاتي كان يبدأ تجنيدهن في بريطانيا، ثم يسافرن إلى سوريا ليعرضن أنفسهن زوجات لأعضاء تنظيم "داعش". ويكشف كرباج بعض الأسرار المحيطة برحلة من المملكة المتحدة عبوراً بتركيا ووصولاً إلى سوريا، لثلاث تلميذات لندنيات هن شاميما بيغوم، وأميرة عباس، وكاديزا سلطانة.

كانت شاميما بيغوم في الـ15 من العمر حينما غادرت لندن في عام 2015 للانضمام إلى "داعش". فوجهت الصحافة البريطانية اللوم الحاد للدولة البريطانية - ولأجهزة الأمن بطبيعة الحال - لفشلها في منع سفر أولئك الصغيرات من الأساس. ولعل اللوم كان ليزداد حدة إذا انكشف في ذلك الحين جانب من قصة أولئك البنات يؤكد غياب التعاون الحقيقي بين أجهزة استخبارات العيون الخمس، إذ يكشف كرباج في كتابه أنه تم تهريب بيغوم - التي جردت الآن من جنسيتها البريطانية - وصاحبتيها إلى سوريا، من خلال عميل للاستخبارات الكندية، وهي معلومة حجبها الكنديون - في البداية على الأقل - عن حليفهم المفترض، ثم قررت الحكومتان الكندية والبريطانية إبقاءها طي الكتمان.

قصة فشل

لعل أجهزة الاستخبارات تحافظ فعلاً على أمن شعوبها، بحسب ما تعلن عن نفسها لهم، لكن القصص التي يكشف عنها كرباج تكشف لشعوب هذه البلاد عن حقيقة مختلفة. فابتداء من عام 2001، لم تكن قصة هذه الأجهزة سوى قصة فشل، قصة تحذيرات كان يمكن في حال توجيهها أن تجنبنا جرائم، وقصة معلومات استخباراتية مضللة من أجل شن حرب، وقصة استعمال هذه الأجهزة لقدراتها الكبيرة في إرهاب مواطنيها، فضلاً عن الشرق الأوسط الذي يمكن أن نختار أية مشكلة، مما وقع فيه ليتبين لنا إما أن هذه الأجهزة الكبرى فشلت في توقعها، أو أنها كانت ضالعة فيها.

ومع ذلك، يخلص كرباج إلى نتيجة مختلفة. فبعد 15 فصلاً من عرضه للكوارث وكشفه عن الجرائم، ينتهي باستعراض 14 من الكبار في عالم الجاسوسية موضحاً من خلالهم سر أهمية العيون الخمس، فضلاً عن أنه لا يكاد ينقل في الكتاب اعتراضاً أو نقداً أو رفضاً ولا يقدم رؤية بديلة، فيخسر في التحليل ما يكسبه في جمع المعلومات بحسب ما يرى بلومفيلد. والحق أن كرباج يرى أن العيون الخمس لم تزل شديدة الأهمية في عالم مليء بالمفاجآت، فـ"قد عمق غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير (شباط) الماضي ذلك الإحساس، إذ كان بداية النهاية للعالم الذي نشأ في أعقاب نهاية الحرب الباردة، وانعطافة مفاجئة إلى حقبة جديدة أكثر خطورة".

دعماً لكرباج في ما يذهب إليه من أهمية استمرار العيون الخمس، يستشهد جيريمي باون بواقعة إعلان القيادة الأميركية معلومات استخباراتية - مما درجت أجهزة الاستخبارات على عدم إعلانه - حول نوايا فلاديمير بوتين في شأن أوكرانيا، وذلك في فترة ما قبل الغزو. لقد كانت غاية ذلك الإعلان هي ردع بوتين عن تنفيذ نواياه، وعلى رغم الفشل في تحقيق تلك الغاية، فإن "دقة المعلومات المعلنة أظهرت أن العيون الخمس لها وجود في روسيا، وأنها تستعمل التكنولوجيا المتقدمة في التنصت" بل ويلمح جيريمي باون إلى أن العيون الخمس ربما تكون زرعت عملاء وجواسيس بأعلى مستويات الحكم في روسيا.

والخلاصة أن كرباج بعد أكثر من 500 صفحة من الفضائح، يخلص إلى أن "تحالف العيون الخمس" لم يستنفد أغراضه بسقوط الاتحاد السوفياتي قبل عقود، ولم يثبت فشله بما تسبب فيه للعالم من ويلات ابتداء من مطلع هذا القرن، بل إن التحالف "يبقى ذا قيمة حيوية لمساعي التنبؤ بالأخطار المستقبلية ومكافحتها"، فيا لها من نتيجة يسهل تجاهلها، بقدر ما يصعب تماماً تجاهل مقدماتها الممتازة.

العنوان: The Secret History of the Five Eyes: The Untold Story of the International Spy Network

المؤلف: Richard Kerbaj

الناشر: Blink Publishing

المزيد من كتب