تراجعت المخاوف من توتر عسكري بين لبنان وإسرائيل بسبب تأخير إعلان الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية بين البلدين بفعل الرفض الإسرائيلي للملاحظات اللبنانية على المسودة الأخيرة التي قدمها الوسيط الأميركي آموس هوكستين، والتي خلفت مواقف متشددة من الجانب الإسرائيلي، زادت حدتها المزايدات الإسرائيلية الداخلية الناجمة عن اقتراب موعد انتخابات الكنيست في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
ووجد المراقبون أن التشدد الإسرائيلي لم يكن بمعزل عن تبادل الحملات بين رئيس الوزراء يائير لبيد وحليفه في الائتلاف الحكومي وزير الأمن بيني غانتس من جهة، ومنافسه في اليمين رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو الذي اتهم لبيد وغانتس بتقديم تنازلات عن السيادة الإسرائيلية، من جهة ثانية، لأن مسودة الاتفاق التي عرضها هوكستين تحدد الخط "23" للحدود البحرية (أي تعطي كامل مساحة الـ860 كيلومتراً مربعاً التي كان النزاع يدور حولها منذ أكثر من 10 سنوات) زائداً عائدات الجزء الذي يتخطى هذا الخط من حقل "قانا" الغازي نحو المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة لإسرائيل. وهو ما اعتبره نتنياهو استسلاماً من لبيد لتهديدات "حزب الله"، مؤكداً أنه بعد الانتخابات لن يكون مجبراً على المضي به في حال فوزه، فيما دافع عنه لبيد وغانتس بأنه يحفظ أمن إسرائيل ومصالحها الاقتصادية.
استنفار يبدد أجواء التشاؤم
لكن رفض لبيد لاحقاً الملاحظات اللبنانية واستنفار غانتس الجيش في شمال إسرائيل بحجة أن "حزب الله" يمكن أن ينفذ تهديداته بمنع استخراج الغاز من حقل "كاريش" الواقع في المنطقة التي سلم لبنان أنها تعود لإسرائيل، استنفر الوسيط الأميركي لتطويق أي احتمال توتر عسكري، ولمعالجة ملابسات الملاحظات اللبنانية الخطية على مسودة هوكستين، بعد أن هدد الرفض الإسرائيلي لها بنسف جهود الأخير لتوقيع الاتفاق قبل الانتخابات الإسرائيلية، وقبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون في 31 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي.
بقي هوكستين على تواصل مع المسؤولين الإسرائيليين واللبنانيين على مدار الساعة بين ليل السادس والتاسع من أكتوبر لتطويق ذيول الرفض الإسرائيلي للملاحظات اللبنانية، في وقت نقلت القناة "14" الإسرائيلية في السابع من أكتوبر عن معهد إحصاءات إسرائيلي حول التوقعات لنتائج الانتخابات أن الكتلة اليمينية بقيادة نتنياهو ستحصل على 62 مقعداً، مما يتيح تشكيل حكومة يمينية بقيادته، بينما حصل تحالف لبيد - العرب على 58 مقعداً فقط. وهو ما يفسر تشدد الأخير بحيث غلبت التقديرات بأنها تهدف إلى تأجيل الاتفاق إلى ما بعد الانتخابات.
إنه موسم انتخابات
الاهتمام الدولي بتسريع الترسيم، وما توفر من معطيات عن الجهود التي بذلتها واشنطن مع الجانب الإسرائيلي خلال الأسابيع الماضية، زاد ثقة الجانب اللبناني بإمكان تخطي عقبة الاعتراض الإسرائيلي على الملاحظات اللبنانية، إذ قال مصدر رسمي مشارك في المراحل الأخيرة للمفاوضات رداً على سؤال عما إذا كانت إسرائيل يمكن أن تتذرع بالملاحظات التي وضعها لبنان في الرابع من أكتوبر، من أجل تأخير الاتفاق لأسباب انتخابية، إن الملاحظات "بسيطة ولا تؤثر في الاتفاق". وأشار المصدر نفسه إلى أنه "موسم انتخابات ومن الطبيعي أن نشهد مزايدات داخلية في إسرائيل". وأكد أن الوسيط الأميركي يعمل ليلاً ونهاراً لإيجاد لغة وعبارات ترضي الفريقين.
وصنف دبلوماسيون اللهجة العالية التي استخدمها وزير الأمن بني غانتس فور تسريب نبأ الرفض الإسرائيلي للملاحظات اللبنانية بإصداره تعليمات إلى الجيش في شمال إسرائيل بالاستعداد لاحتمال المواجهة العسكرية في لبنان، على أنها تأتي في سياق الضغوط التفاوضية، أكثر مما هي استعدادات عسكرية، بالتالي هي رسالة إلى الداخل الإسرائيلي، بأن لبيد وحلفاءه الداخليين على استعداد من أجل خوض مواجهة عسكرية دفاعاً عن حقوق الدولة العبرية، لكن من دون أن يعني ذلك الذهاب إلى الحرب.
الدور الفرنسي
وواكبت الخارجية الأميركية تحرك هوكستين وأعلنت مواصلة العمل مع لبنان وإسرائيل لحل الخلافات القائمة، كما أكدت الخارجية الفرنسية أن فرنسا تسهم بنشاط في الوساطة الأميركية الهادفة للتوصل إلى اتفاق. ورأت أن الاتفاق سيعود بالنفع على البلدين وشعبيهما، كما من شأنه أن يسهم في استقرار وازدهار المنطقة، ودعت كل الجهات الفاعلة إلى القيام بدورها. فهوكستين كان زار باريس، الشهر الماضي، حيث هيأ بمساعدة الحكومة الفرنسية مع شركة "توتال" التي ستلتزم الحفر في البئر الواقعة في حقل "قانا" لمخرج للمطلب الإسرائيلي بالحصول على تعويضات مالية عن عائدات الجزء الواقع في المنطقة الإسرائيلية من هذا الحقل. وقضى المخرج بأن تتولى "توتال" دفع هذا التعويض من العائدات التي تحصل عليها من استخراج الغاز. واحتاج الأمر إلى موافقة الحكومة الفرنسية أيضاً. وهذه النقطة وردت في المسودة التي كان قدمها هوكستين في الرابع من أكتوبر للبنان. وإحدى ملاحظات الجانب اللبناني كانت رفض ربط تولي "توتال" مباشرة الحفر في حقل "قانا" بموافقة الأخيرة على دفع التعويضات المالية لإسرائيل. وكان الدور الفرنسي بعد الرفض الإسرائيلي للملاحظات اللبنانية بتأكيد الحكومة الفرنسية للدولتين أن الحكومة تضمن لكلتيهما تحقيق ما تريده.
"المناقشات ختمت"
بعد ظهر الأحد التاسع من أكتوبر، أعلنت الرئاسة اللبنانية أن الرئيس عون "تلقى اتصالاً هاتفياً من الوسيط الأميركي أطلعه خلاله على نتائج الجولات الأخيرة للاتصالات مع الجانب اللبناني من جهة، والجانب الإسرائيلي من جهة أخرى، والتي تم خلالها درس الملاحظات المقدمة من الطرفين. وأوضح هوكستين "أن جولات النقاش ﹸختمت وتم تحديد الملاحظات التي سيرسلها هوكستين خلال الساعات القليلة المقبلة في نسخة تتضمن الصيغة النهائية للاقتراح المتعلق بترسيم الحدود البحرية الجنوبية"، وأفادت الرئاسة اللبنانية بأن هوكستين "شكر الرئيس عون وفريق عمله على الإدارة الحكيمة لملف المفاوضات والطريقة التي تم فيها التعاطي مع النقاط التي كانت موضع بحث، مما سهل استكمال التفاوض من خلال عمل مرهق في الأيام الماضية وأن الجانب اللبناني سيدرس الصيغة النهائية بشكل دقيق تمهيداً لاتخاذ القرار المناسب".
وكان عون التقى قبل اتصال هوكستين نائب رئيس مجلس النواب إلياس بو صعب (المكلف متابعة الاتصالات مع هوكستين) الذي وضعه في تفاصيل المناقشات التي دارت خلال الأيام الثلاثة الماضية بينه وبين الوسيط الأميركي.
غانتس يعتبر الاتفاق جيداً
وسبق ذلك تبديد الوزير الإسرائيلي غانتس احتمالات التراجع الإسرائيلي عن الاتفاق بالتزامن مع إبقائه على مواجهة تهديدات "حزب الله" بقوله "إذا ارتكب حزب الله خطأ وهاجم إسرائيل بطريقة ما، فسوف نفكك لبنان"، لكنه أضاف "اتفاقية الغاز مع لبنان جيدة ولا يزال من الممكن التوصل إليها. إسرائيل مستعدة للتوصل إلى اتفاق، وهي مصممة على حماية أصولها".
وتطرق إلى ما قاله نتنياهو ضد الاتفاق "أعرف نتنياهو منذ سنوات عديدة، كان سيوقع عليه من الناحية الأمنية والاستراتيجية". وفسر أحد المقربين من رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري الكلام الإسرائيلي بالقول إن الوسيط الأميركي سعى إلى "سكب بعض المياه في كأس نبيذ الجانب الإسرائيلي". وفي المقابل، نقل الإعلام الإسرائيلي، في السادس من أكتوبر، أجواء بأن "اللبنانيين ظنوا أن باستطاعتهم تحقيق مزيد من الإنجازات في اللحظة الأخيرة" (عبر الملاحظات على مسودة الاتفاق)، وأن إدارة الرئيس جو بايدن مارست ضغوطاً على لبنان للتراجع عن بعض مطالبه الجديدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فمن بين الملاحظات اللبنانية رفض لبنان اعتبار العوامات التي وضعتها إسرائيل في عرض البحر لتعويم الخط "23" غير مقبولة، لأن تحديدها ينطلق من نقطة قريبة من اليابسة تسمح لإسرائيل بالحصول على مساحة يعتبرها لبنان عائدة له في ترسيم الحدود البرية لاحقاً، انطلاقاً من رأس الناقورة، في وقت تعتبر إسرائيل أن هذه المساحة تعود إليها. ويبدو أن هذه النقطة الجوهرة التي تهم الجانب الإسرائيلي المصر على اعتبار العوامات في عرض البحر أساساً لترسيم الحدود البحرية والبرية.
الجهود الأميركية
وقبل أن يرفض الجانب الإسرائيلي الملاحظات اللبنانية على المسودة التي اقترحها عليه الوسيط الأميركي، كان المسؤولون اللبنانيون يروجون بأن الاتفاق سيأخذ طريقه إلى الإنجاز لأن الأمور الأساسية والجوهرية حصلت على موافقة الطرفين، بل إن لبنان حصل على مطالبه كاملة وبقيت تفاصيل ثانوية للمعالجة لن تقف حائلاً أمام النهاية السعيدة للمفاوضات.
هذا ما قاله أكثر من مسؤول عند تسليم الجانب اللبناني الوسيط الأميركي ملاحظاته على المسودة شبه النهائية للاتفاق، في الرابع من أكتوبر، بعد أن وافق عليها رؤساء الجمهورية ميشال عون والبرلمان نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي في اجتماع عقدوه لهذا الغرض.
وكان الجانب اللبناني يبدو واثقاً من أن الترسيم سيتم نتيجة تطمينات أميركية حصل عليها سواء من خلال زيارات هوكستين إلى بيروت، أو من خلال المحادثات التي أجراها كل من ميقاتي ووزير الخارجية عبدالله بوحبيب في نيويورك، على هامش حضورهما الجمعية العمومية للأمم المتحدة. فميقاتي اجتمع مع وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، ومنفرداً مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إضافة إلى هوكستين الذي التقاه، وكذلك بوحبيب. واطلعا خلال هذه الاجتماعات على بعض تفاصيل ما توصل إليه الوسيط الأميركي من الجانب الإسرائيلي. أما الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش فسأل "أين أصبحتم في الترسيم. يجب أن تستعجلوا لأن هذه مسألة مهمة للبنان وتفتح أفقاً له في ظل أزمته الراهنة".
واشنطن وعدت لبيد بمساعدته في الانتخابات؟
كما أن المسؤولين اللبنانيين سمعوا من الجانب الأميركي تطمينات بأن واشنطن شجعت رئيس الوزراء الإسرائيلي، منذ مطلع شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، على المضي قدماً في التوصل إلى الاتفاق مع لبنان. والرئيس بايدن وضع ثقله في هذا الاتجاه، وكذلك الرئيس ماكرون بالتنسيق مع واشنطن. والأخيرة رأت أن إنجاح الاتفاق مع لبنان سيكون مربحاً للبيد وينعكس لمصلحته في الانتخابات، لأن الناخبين الإسرائيليين سيعتبرون أنه يجلب الاستقرار مع لبنان، والازدهار الاقتصادي كونه يسهل استثمار الغاز من حقل "كاريش" وغيره. وفهم المسؤولون اللبنانيون أن الجانب الأميركي يمكنه أن يضع ثقله لمصلحة لبيد في الانتخابات عبر اللوبي اليهودي في أميركا، القريب تقليدياً من الحزب الديمقراطي.
ورأى مراقبون أن متابعة ما تنشره الصحافة الإسرائيلية قد تسمح بإدراك خلفيات تهديد المسؤولين في الدولة العبرية على أنها محاولة لاستعادة ثقة الناخب الإسرائيلي.