Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

9 شعراء عراقيين يسترجعون طفولة كابوسية في حاضر مشبع بالقسوة

 أصوات تأتلف وتختلف في "تلويحة لأحلام ناجية"

لوحة للرسام العراقي ضياء العزاوي مستوحاة من الشعر (يوتيوب)

ما زال العراق أرضاً خصبةً بالشعر والشقاق، هذه هي الخلاصة التي استخلصتها وأنا أقرأ كتاب "تلويحة لأحلام ناجية" الصادر حديثاً عن دار الرافدين، والذي صمَّم غلافه وتخطيطاته الداخلية الفنان ضياء العزاوي، وضمَّ مقدمة وشهادات وقصائد لتسعة شعراء عراقيين ولدت أصواتهم الشعرية بعد 2003، وبهذا تنطوي تلويحة هؤلاء الناجين على نوع من المواربة، فهي تشير إلى وهم النجاة من ذلك الطوفان أي عراق ما قبل 2003، وما أعقبه من احتلال أميركي للعراق، حيث جاء بشياطين متنكرة بهيئة ملائكة!

عدد من شعراء الكتاب أكاديميون، درسوا الأدب العربي في الدراسات العليا (ماجستير ودكتوراه) وأغلبهم جرَّبَ كتابة القصائد الموزونة وحتى العمودية قبل أن ينحازوا لقصيدة النثر، وهي الشكل الذي يجمع قصائد الشعراء، مما يعني أن توجههم لخيار قصيدة النثر جاء بعد تجريب الشكل الكلاسيكي للقصيدة وتيقُّنهم أنه لم يعد يناسب تجاربهم، خصوصاً أن قصائدهم تنطوي على شعر متطلِّع يدوِّن تجاربهم الحياتية بتلقائية وبلا ديباجة منمَّقة. كما أن جميع هؤلاء الشعراء، ربما باستثناء واحد منهم، سبق أن أصدروا مجموعات شعرية مستقلة، وبينهم من أصدر أكثر من مجموعة، فكأن صيغة هذه المختارات محاولة منهم للتعبير عن حضورٍ جماعي، وهو ما يشيرُ إلى أي مدى ما زال الشعر في العراق، بحاجة لإعلان جماعي، على الرغم من كونه نشاطاً فردياً، ويُظهر أنَّ الشاعر الفرد لا يجد حصانته إلا في الجماعة مع يقيني أن كلاً منهم سيختار في وقت لاحق طريقه وربما متاهته الخاصة ومصيره الشخصي، كما تظهر المختارات اقتداء بما درج عليه تاريخ الشعر العراقي الحديث في محاولة لاستعادة سحر فكرة الأجيال التي بدأت مع جيل الستينيات المتمرد، ثم السبعينيات، وبلغت ذروتها مع جيل الثمانينيات ذي الخصوصية الأكثر تميُّزاً كونه جيلاً شعرياً بحقّ نظراً للمعطيات المصاحبة لولادته وتشكله والتي أثَّرت في خطابه وتجلَّتْ فيه. وهو ما يحاول شعراء "التلويحة" التلميح إلى انتسابهم لتلك السلالة على الأقل من خلال تشابه الوقائع التي يكتبون شعرهم تحت وطأتها. لكن ماذا بشأن الشقاق؟

صراعات وشقاق

في المقدَّمة التي كتبها حسام السراي نبرة إدانة مريرة لشعراء من جيل سابق، غير موهوبين شعرياً، سوى ما يتمتعون به من مواهب انتهازية، إضافة إلى روح "استزلام" وخضوع للطبقة السياسية والطائفية الحالية، وتلمِّحُ المقدمة إلى أن تلك الروح متأصِّلة لدى هؤلاء الذين كانوا يحرِّرونَ صحف النظام، ويدبجون القصائد المليونية (القصائد التي كان عطاؤها مليون دينار في زمن الحصار) وبعد أيام أصبحوا سدنة العهد الجديد، فتحالفوا مع شعراء أحزاب ما بعد 2003، وراحوا بتبنُّون تجارب تشبه مواهبهم الصغيرة، وتناسب قاماتهم القصيرة، وفي الوقت نفسه حاولوا طمس الأصوات الجديدة كما تؤكد المقدمة بوضوح. وهكذا، بينما تُشكِّلُ الحرب بانوراما خلفية لنصوصهم، فإن السؤال الذي يحكم معظم شهادات الشعراء التسعة يتركز حول: كيف تكون شاعراً حديثاً في عصر الطوائف والتعصب الديني والنزعات القبلية، وسياسيي الصدفة في ساحة مفتوحة للانتهازيين من صغار المواهب؟

ويعبر عن تلك الأزمة في العلاقة بين الشاعر ومحيطه، أحمد عزاوي (مواليد سامراء 1977) وهو دكتور في النقد الأدبي، إذ يشخّص في شهادته وطأة العالم الخارجي المحيط في عصر الطوائف والجماعات السياسية، فإنه يوصي، في نصه، الشاعر الجوال الذي فيه: "كن ابنَ مَنْ شِئتَ/ لكنْ/ لا تنتسبْ إلى النفير/ واجعل الشعاراتِ والشعائرَ سلالاً للرماد/ فحينَ تتنظَّفُ من ثعالبِ التاريخِ/ ستطيرُ/ وسترى للمرَّةِ الأولى شجرةَ الطين".

أما حسام السراي (مواليد بغداد 1982) فيشحن قصائده بنكهة مدينته، من خلال مشهد الكرادة التي كانت صورةً للحيِّ البغدادي المدني، لكنها شهدت صراعاً خفيَّاً على هويتها لتكون مركزاً ذا صبغة إسلامية محددة، وميداناً لشتى المستثمرين، ويعبر السراي عن ذلك الصراع بالروائح التي تتقاطع في الكرادة حيث "رائحة حلوى إيرانية، مع أصوات محركات لسيارات أميركية"، و"حيث الأرصفة المرصوفة بحجر تركي"، ثم تصبح تلك الرائحة ذات نَشْرٍ عنفي كريهٍ حيثُ "رائحةُ ديناميت تهبُّ من الجسورِ والبيوتِ والسيَّارات" فيما "شايٌ مُهيَّلٌ بالخوفِ هو كلُّ ما نشربُهُ/ وطاولاتٌ وكراسي هيَ آخرُ ما نملكُ مِنَ الحياة".

ريف الجنوب

بينما يكتب زاهر موسى وهو من (مواليد بغداد أيضاً 1982) عن "الشروقي" الذي ما زال لم يتكيف مع بغداد، و"الشروقيون" كناية عن العراقيين المتحدِّرين من ريف الجنوب، وفي القصيدة حنينٌ لا زمنيٌّ للهور وظلِّ الشجرة وأشباح البردي:" أنظرُ إلى شواهدِهم تجتاحُ جَسَدي/ وكلَّمَا تسرَّبتْ غرغرةُ الهورِ إلى أكفانِهم الجديدة/ ارتعشتْ في وحدتي الأشباحُ"، وتبدو شهادته منسجمة مع نصه في إعلان انحيازه للضعفاء والمقهورين. لكن هذا مثل هذا الخطاب لا يبدو منتظماً تماماً مع اللحظة العراقية الراهنة، فلم يعد "الشروقي" تجسيداً صريحاً عن صورة نمطية لذلك المقهور، بل لعلَّ صورته وطبيعة دوره في بغداد الآن تنطوي على نظرة أخرى معاكسة! لكن صورته الأوضح بين كلتا الصورتين: إنه لا يزال ضحية لطموحات مريبة وضحية للعشائرية والطائفية.

ويتحدَّث صادق مجبل (مواليد الناصرية )1989 عن طفولة مهدورة بين الدكتاتورية والحصار. مما جعلها تلوح له وكأنها زمن سحيق، ربما لأنها لم تُعَشْ أصلاً كطفولة طبيعية، لهذا يعيد استحضارها في صورة الأم والأنثى الغامضة في نصٍّ سردي طويل "رسائل ليست في متناول اليد": "وبعدَ كلِّ هذا أقفُ مُنكسراً أمامَ استقامتك البيضاءِ تردِّدُ ألوانَك طفولتي فأخجلُ من قولٍ يصفكِ وأودُّ لو أختفي... وفجأة لا أجد في يومي سِواكِ".

ونقرأ في شهادة صفاء خلف (مواليد بصرة السياب 1989) ذلك الأسى السيابي الشفيف، حيث السؤال عن جدوى الكتابة والأمل بالحياة للشاعر الغريب وسط حاضر يصفه بأنه ماكنة لإعادة صناعة أعداء من كل العصور للشاعر الغريب مما يجعل إمكانية أن يكون الشاعر ملاكاً أمراً مستحيلاً لذا فليس أمامه سوى التنكُّر والمواربة في الغابة : "أيها المحتطب/ أمْح أثركَ نحوَ الشجرةِ/ دَعْهُم يتيهونَ بعدَك في الغابة/ علَّكَ تمنحُ الروحَ المقطوعةَ وقتاً لتُزهر".

وفي سياق غير بعيد يقول علي محمود خضير (مواليد بغداد 1983) إن جثة جندي عراقي مغطاة ببطانية في حرب 2003 غيَّرتْ حياته للأبد، وإذ تمتدُّ صورة كوابيسه إلى زمن أبعد من ذلك حيثُ الطفولة ذاكرة كابوسية هي الأخرى شأنه شأن أقرانه نجدهُ يتطلَّع إلى مستقبلٍ بلا ذعر من وطأة تلك الذاكرة: "أريدُ جَسَدي ورُوحي سالمينِ من شظيَّةِ الماضي" و"إنْ كنتَ خائفاً من الْمُنعطف القادمِ/ فاغمضْ عينيكَ واقبلْ عليهِ دونَ اكتراث".

بحثاً عن الحياة

ربما تختلف تجربة عُمر الجفَّال (مواليد بغداد 1988) عن بقية زملائه في الكتاب، فتكونه وولادته الشعرية كانت في دمشق، حيث عاش لسنوات صبياً قادماً مع عائلته وفيها صدرت مجموعته الشعرية الأولى التي حازت على جائزة دار التكوين للكتاب الأول 2009، ليعود بعدها للعراق قبل أن يهاجر إلى ألمانيا حيث يقيم الآن. لكنه يشترك معهم في تذكر أجواء (الرحم) الثمانيني الذي ولدوا منه، وتلك الطفولة الصارخة طلباً للنجاة من الكابوس: "كَسَرْنَا رقائمَ الخرافة/ وأجْلَسْنا كلكامشَ على كرسيٍّ/ وقلنا: نريدُ حياةَ فحسب".

أما مؤيد الخفاجي (مواليد بغداد 1989) فيكتب عن حيرته في مبدئه بين القصيدة الموزونة وقصيدة النثر، التي وجدها تخلق موجوداتها: "العبث الذي لا ينتهي والنظام الكامن في الفوضى"، فيعبر عن كراهيته للطائرات والبحر والنساء والأغنياء والفقراء على حد سواء، كراهية سلمية لكنها لا تخلو من "نهلستية": "أكره كثيراً من الأشياءِ جيدةً وسيئةً، لا يجمعُها شيءٌ سِوى أنني أكرهُهُا".

تاسع الشعراء في الترتيب الأبجدي ميثم الحربي (مواليد بابل 1981) يكتب في شهادته، أن قصيدة النثر ليس مجرد تحرر من الوزن، بل ينبغي أن تكون حرَّةً في استيعاب حياة ومعنى ومتن الإنسان في الحاضر والمستقبل: لكن الألوان والأشياء في قصيدته مهما اختلفت فثمة دم نهائي يجمعها عند الموت أو القتل أو التفجيرات: "دمُ الزجاجِ الذي يتكسَّرُ نظَّفتْ بهِ الغربانُ جوعَها المتربِّص/ دمُ اللافتةِ يملأُ لسانَ القماشِ بلقطةِ الغياب...".

إضافة لهذه الأسماء التسعة الملوِّحين لنا بنجاةٍ وهمية، ثمة أسماء أُخرى جديدة في الشعر العراقي، وجدتْ نفسها إزاء ساحة ثقافية مضادة وفي الوقت نفسه خاوية من الرموز الشعرية التي تقتدى، ولا خصوم من أجيال سابقة جديرون بالاختلاف، سوى بهلوانات سلطة أو انتهازيين. ولهذا تبحث هذه الأصوات عن رياح أخرى تتجاوب مع عوائها، علَّها تحتفي بخصوبة أحلامها من مكان بعيد.

المزيد من ثقافة