Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بشارة الخوري: الدستوري الذي أطاح بالدستور (1ـ 6)

أول رئيس للجمهورية اللبنانية (1943-1952) وصل متوجاً بطلاً من أبطال معركة الاستقلال وخرج منها بنكسة

الرئيس بشارة الخوري يحيط به جمع من السياسيين في مقدمهم رئيس الوزراء رياض الصلح (الرابع يميناً) والأمير مجيد أرسلان (الثاني يميناً) (ويكيميديا)

ينتظر لبنان انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس ميشال عون. مع هذا الاستحقاق تفتح "اندبندنت عربية" ملف رؤساء الجمهورية في لبنان على مرحلتين قبل الطائف وبعده. هذه الحلقة من حلقات رؤساء ما قبل الطائف مع عهد الرئيس الأول بشارة الخوري.

تسلم بشارة الخوري جمهورية كانت تحتاج إلى تأسيس ورسم خريطة طريق. نجح أحياناً وفشل أحياناً أخرى وكان عهده مرافقاً لتكوين الخريطة السياسية والجغرافية في العالم العربي الذي كان يولد تباعاً على صورة دول مستقلة. هو من رعيل الرؤساء الأوائل في هذا العالم العربي حيث ترافقت ولادة الجمهورية اللبنانية مع ولادات متتالية للدول العربية المستقلة في سوريا والأردن والعراق ومصر والسعودية.

الانقلاب والاستقلال

ولد بشارة الخوري عام 1890 عندما كان لبنان تحت نظام المتصرفية إذ كان يتمتع بنوع من الحكم الذاتي في ظل متصرف تم تعيينه بالاتفاق بين السلطنة العثمانية والدول الأوروبية الكبرى التي رعت قيام هذا النظام منذ عام 1861 ما جعل من لبنان بحدوده الصغيرة أول كيان يتمتع بهذا القدر من الاستقلالية، وهذا ما جعله ينفتح على العالم الغربي. من هذا الانفتاح خرج الخوري إلى باريس ليدرس الحقوق ويعود إلى لبنان مزوداً بكفاءات أهّلته لتولي المناصب الحقوقية والحكومية ودخول عالم السياسة من بوابة السلطة الفرنسية المنتدبة نائباً ووزيراً ورئيساً للحكومة.

تدرّج في مكتب أميل إده الذي كان تولى الرئاسة قبله في عام 1936 وتخرّج مثله محامياً من باريس ولكن وإن جمعتهما المهنة فقد فرقتهما السياسة. كما الخوري ارتكب إده خطيئة سياسية عندما قبل قرار سلطات الانتداب الفرنسي على لبنان بأن يكون رئيساً للجمهورية بعد اعتقال هذه السلطات للرئيس المنتخب بشارة الخوري ورئيس الوزراء رياض الصلح وعدد من الوزراء في قلعة "راشيا" في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1943. بعد هذه الخطيئة، خرج إده إلى العزلة السياسية التي فرضها عليه حكم بشارة الخوري قبل أن يخرج الخوري إلى عزلة مماثلة خصصها لكتابة مذكراته. طبع الصراع بين الرجلين الحياة السياسية في لبنان لفترة طويلة قبل الاستقلال وبعده. كان إده يمثل نهج "الكتلة الوطنية" التي صارت حزبه وبشارة الخوري يمثل "الكتلة الدستورية" التي صارت الحزب الدستوري. في عام 1949 توفي إده لكن حزبه استمر من بعده ودخل أبناؤه الحياة السياسية بفاعلية خصوصاً ريمون إده الذي استمر في لعب دور سياسي وأعاد تنشيط حزبه بينما لم يستمرّ حزب بشارة الخوري من بعده طويلاً وإن كان بقي عنواناً لمرحلة وصفة لسياسيين رافقوا عهده وانتموا إليه سياسياً.

إذا كان إده مثّل التوجه الذي كان يطالب ببقاء العلاقة مع السلطة الفرنسية المنتدبة وتنظيم عملية التعاون عبر اتفاقات مكتوبة وموقعة في عام 1936، فإن بشارة الخوري شكل جسر العبور والانقلاب على هذه العلاقة مع فرنسا في ظل الأحاديث عن أنه كان على تنسيق مع السلطات البريطانية التي كانت تنافس النفوذ الفرنسي على لبنان. هكذا ولد مع بشارة الخوري استقلال لبنان على دعامتين، دعامة بشارة الخوري ودعامة رياض الصلح رئيس الوزراء الأول في عهد بشارة الخوري وشكلا معاً ما عرف لاحقاً بالميثاق الوطني الذي كان البيان الوزاري الأول لتلك الحكومة وطالب بأن لا يكون لبنان لا ممراً ولا مستقراً للاستعمار، وبأنه ذو وجه عربي وقضى بتوزع السلطة بين الطوائف وجعل رئاسة الجمهورية للموارنة والحكومة للسنة ومجلس النواب للشيعة.

خاض بشارة الخوري ورياض الصلح معركة الاستقلال ضد الانتداب الفرنسي وقاوما خلال اعتقالهما في قلعة "راشيا". كانت تساندهما حركة شعبية مؤيدة للاستقلال في الشارع مهدت لإطلاق سراحهما وإعلان الاستقلال في 22 نوفمبر 1943 وهو التاريخ الذي لا يزال لبنان يحتفل فيه كل سنة باستقلاله.

بين بشارة ورياض

كان مقر رئاسة الجمهورية اللبنانية على عهد بشارة الخوري في قصر صغير في القنطاري في وسط بيروت، وكان يُعرف بقصر القنطاري قبل أن يصير للجمهورية مقرّ رسمي دائم في قصر بعبدا منذ عام 1969. هذا القصر شهد على سنوات حكم الرئيس بشارة الخوري وعهده بكل التحولات التي شهدها. إليه دخل رئيساً قوياً ومنه خرج رئيساً معزولاً مجبراً على تقديم استقالته لتتحطم معه صورة الرئيس البطل الذي كان رأس المواجهة في معركة الاستقلال والذي لم يغيّر قناعاته ولم يقبل بالتسوية مع الفرنسيين على رغم الاعتقال.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لم تدم العلاقة التحالفية بينه وبين رئيس حكومته الأولى رياض الصلح طويلاً. سرعان ما دخل على خط رئاسته شقيقه سليم بكل ما لديه من سلطة نفوذ استمدها من موقع شقيقه، ولذلك كان من مصلحته التخلص من رئيس الحكومة القوي الذي خاض معه معركة الاستقلال وليستعيض عنه بعد يناير (كانون الثاني) من العام 1945 بكل من عبد الحميد كرامي وسامي الصلح وسعدي المنلا قبل أن يعود إليه في 14 ديسمبر (كانون الأول) عام 1946 ويستمر معه حتى 14 فبراير (شباط) 1951، عندما خرج رياض الصلح من رئاسة الحكومة نهائياً. هذه المرحلة شهدت تركيز دعائم الجمهورية في المؤسسات الجديدة التي كان يجب بناؤها بعد تسلمها من السلطات الفرنسية، وأهمها مؤسسة الجيش الذي أسسه وقاده أحد الضباط الكبار في تاريخ لبنان فؤاد شهاب الذي سيكون له دور كبير في تاريخ لبنان والرئاسة اللبنانية.

التمديد والحرب والانقلاب

في ظل هذه المرحلة في عام 1947، نظم العهد أول انتخابات نيابية بعد الاستقلال بإشراف شقيقه سليم الذي تدخل في تركيب اللوائح كما كان يتدخل في توزيع المناصب والمحسوبيات، بحيث طغت تدخلاته على قدرة الرئيس على إدارة البلاد بشكل مستقل ومنتظم. هذه الانتخابات شابتها عمليات تزوير كثيرة، بحيث كان واضحاً أنها تصبّ في مصلحة العمل على تعديل الدستور والتمديد للرئيس بشارة الخوري الذي جاء إلى الرئاسة باسم الدستور الذي عمل على تعديله من أجل الخروج من تحت سلطة الانتداب الفرنسي، وكانت تلك الخطيئة التي لم يستطع أن يمحوها من سجله السياسي. حتى أن شقيق زوجته وواضع الدستور ميشال شيحا عارضه وخالفه في هذا التوجه لأنه كان حريصاً على عدم خرق الدستور بهذه الطريقة ولكن الرئيس بقي على توجهه بالتمديد الذي حصل في عام 1949.

قبل التمديد، واجه الرئيس بشارة الخوري التغيير الكبير في خريطة الشرق الأوسط الذي تمثل بقيام دولة إسرائيل في 15 مايو (أيار) 1948 بعد الحرب التي خاضها الجيش الإسرائيلي مع الفلسطينيين ومع عدد من الجيوش العربية الفتية ومن بينها الجيش اللبناني، الذي استطاع الدخول إلى الأراضي الفلسطينية في معركة "المالكية" قبل أن يضطر إلى التراجع إلى داخل الحدود اللبنانية. عاش لبنان تداعيات تلك الحرب التي أدت إلى تهجير عدد كبير من الفلسطينيين إلى لبنان ليقيموا في المخيمات من دون أن يكون هناك أي تقدير للفترة التي سيبقون فيها. نتج من تلك الحرب توقيع لبنان اتفاق الهدنة مع إسرائيل في 23 مارس (آذار) 1949 قبل أشهر من التمديد للرئيس بشارة الخوري لولاية جديدة كان يفترض أن تستمر حتى عام 1955.

واجه الرئيس بشارة الخوري تحدياً آخر على الصعيد العربي مع حصول أول انقلاب عسكري في سوريا قاده قائد الجيش السوري حسني الزعيم في 30 مارس 1948 وأخرج فيه من السلطة الرئيس المدني شكري القوتلي. وإذ كان من المستبعد حصول أي انقلاب عسكري مماثل في لبنان بسبب تكوين السلطة لم يكن منتظراً أن يأتي مثل هذا الانقلاب عن طريق الحزب "السوري القومي الاجتماعي" الذي شكل أكبر تهديد لرئاسة الرئيس بشارة الخوري وعهده.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كان زعيم الحزب أنطون سعاده مبتعداً إلى الأرجنتين منذ عام 1938 بعد ملاحقته من سلطات الانتداب الفرنسي وعاد في عام 1947 ليعيد تنظيم حزبه ويصطدم من جديد بالسلطة اللبنانية الناشئة التي لم تكن تدخل ضمن سياق فكرة الحزب القائمة على الجمع بين لبنان وسوريا والعراق وقبرص في دولة واحدة قومية سورية، وقد جمعت سعاده مع حسني الزعيم علاقة وطيدة تذهب إلى حد اعتبار الزعيم عضواً في الحزب السوري القومي الاجتماعي أو مؤمناً بأفكاره، وهذا ما أعطى سعاده الأمل أن ينقل تجربة الانقلاب من سوريا إلى لبنان. بعد اشتباك محدود بين مناصرين لسعاده ومناصرين لحزب الكتائب اللبنانية المنافس له في السلطة وفي العقيدة في الجميزة في بيروت، بدأت ملاحقة سعاده وصدر قرار بحل حزبه ففرّ إلى سوريا معتقداً أن الزعيم سيمده بالسلاح، وأعلن الثورة من هناك في الرابع من يوليو (تموز)، ولكنها لم تكن تملك مقومات النجاح فقمعتها السلطات اللبنانية وقضت عليها، وبدل أن يحمي حسني الزعيم أنطون سعاده قام بتسليمه إلى الدولة اللبنانية التي نفذت فيه حكم الإعدام في الثامن من يوليو بعد محاكمة عسكرية سريعة.

الخروج من القصر ومن اللعبة

تم تحميل العهد مسؤولية هذه المحاكمة السريعة وهذا الإعدام، وقد أدت محاولة الانقلاب الفاشلة إلى اعتقال عدد كبير من القوميين الذي حمّلوا رياض الصلح مسؤولية إعدام سعاده أكثر مما حملوها للرئيس بشارة الخوري، معتبرين أن الصلح استفاد من علاقاته العربية خصوصاً مع الحكم الملكي في مصر من أجل الضغط على حسني الزعيم لتسليم سعاده.

في 14 فبراير 1951 تخلى الخوري عن رياض الصلح في رئاسة الحكومة بعدما كانت الخلافات بينهما قد بلغت حداً لم يعد بإمكان الصلح القبول به، خصوصاً تجاه تدخلات شقيق الرئيس الذي كان يلقب بالسلطان سليم. ولكن خروج الصلح كان مؤشراً إلى بدء عدم استقرار عهد بشارة الخوري. تمثل ذلك في خمس حكومات خلال أقل من عامين وهي فترة كانت كافية لتصاعد قوة المعارضة للعهد وللتمديد والتي تمثلت بالجبهة الوطنية الاشتراكية التي كان قطباها كميل شمعون وكمال جنبلاط ومعهما عدد قليل من النواب الذين تمكنوا من الفوز كمعارضين أو بدلوا ولاءهم وصاروا ضد العهد بالإضافة إلى تكون معارضة شعبية واسعة. بعد حكومة رياض الصلح ترأس الحكومة كل من الحاج حسين العويني لمدة 51 يوماً وعبدالله اليافي لمدة 310 أيام، وقد تخللها اغتيال الحزب السوري القومي الاجتماعي للرئيس رياض الصلح في الأردن على طريق مطار عمان في 16 يوليو، وسامي الصلح لمدة 211 يوماً، وناظم عكاري لمدة خمسة أيام بين التاسع و14 سبتمبر، وصائب سلام لمدة أربعة أيام حتى 18 سبتمبر، وفؤاد شهاب قائد الجيش في 18 سبتمبر الذي تزامن تكليفه برئاسة الحكومة مع استقالة الرئيس بشارة الخوري بمهمة وحيدة هي تأمين انتخاب رئيس جديد للجمهورية. تم ذلك في 22 سبتمبر 1952 بانتخاب كميل شمعون رئيساً للجمهورية.

خرج الرئيس بشارة الخوري من قصر القنطاري بخيبة أمل وسقوط هالة كانت تداعت. اعتزل المناصب السياسية، على رغم أن كتلته الدستورية قد تحولت لحزب سياسي عام 1952 ولكن هذا الحزب بقي من دون تفعيل ومن دون لعب أي دور، وكرس وقته لكتابة مذكراته "حقائق لبنانية" التي تعتبر وثيقة سياسية تروي محطات حياته وحكمه وتؤرخ لمرحلة هامة من تاريخ لبنان والمنطقة العربية، وقد بقي منعزلاً حتى توفي عام 1964 عن عمر ناهز 73 سنة.

المزيد من تقارير