استفاقت مدن إقليم كردستان العراق الرئيسة صبيحة الأربعاء الماضي على قصف صاروخي إيراني عنيف طاول مكاتب القوى الكردية المعارضة لطهران.
وعلى رغم أن الهجوم ليس الأول من نوعه، لكن توقيته يثير تساؤلات حول طبيعة دوافعه في وقت يشهد فيه عديد من المدن الإيرانية موجة احتجاجات واسعة على موت الشابة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق.
فهل تحاول طهران تصدير أزمتها الداخلية؟ وما مدى قدرة معارضيها الأكراد فعلياً في إذكاء الاحتجاجات؟
18 قتيلاً و26 مصاباً
الهجوم الذي شنه "الحرس الثوري" الإيراني بواسطة عشرات الصواريخ والطائرات المسيرة على أهداف بمدينتي أربيل والسليمانية أسفر عن مقتل 18 شخصاً وإصابة 26 آخرين، في إطار عملية عسكرية بدأها السبت الماضي 24 سبتمبر (أيلول) على الحدود داخل أراضي الإقليم حيث يتمركز المسلحون الأكراد.
اندلعت شرارة الاحتجاجات في إيران يوم 16 سبتمبر الحالي عقب إعلان وفاة الشابة الكردية مهسا أميني بعد ثلاثة أيام من توقيفها في طهران بتهمة خرقها القواعد الصارمة للباس المرأة بالبلاد، ويتهم نظام طهران القوى الكردية المعارضة بالوقوف وراء الاحتجاجات.
قراءة متباينة
قراءة المحللين لدوافع التصعيد الإيراني بدت متباينة بين من اعتبرها خطوة لتصدير الأزمة الداخلية، ومن يجدها مؤشراً على إرباك و"مخاوف حقيقية" بدأ يعانيهما النظام الإيراني.
المحلل الأكاديمي في الشؤون الإيرانية هردي مهدي يرى أن "طهران وجهت رسالتين، واحدة للداخل والثانية لدول المنطقة، بدأتها بقصف للحدود داخل إقليم كردستان لتقول لحكومته إن بإمكانها شن هجمات في العمق، لكن أربيل لم تعط للرسالة تلك الأهمية لاعتبارات تتعلق بحقوق الكرد، في ظل وجود تعاطف واسع على الصعيدين السياسي والشعبي الكردي مع الاحتجاجات الإيرانية".
وأضاف "بعدها جاء الرد الإيراني عنيفاً بغية الضغط على الحزبين الحاكمين في الإقليم للتأثير في أقرانهم داخل إيران من أجل تهدئة الاحتجاجات، خصوصاً أن القوى الكردية الإيرانية لها مكاتب بكردستان، لأن طهران تعتقد أن إخماد الاحتجاجات التي انطلقت أولاً في المدن الكردية سيكون مفتاحاً لإخمادها في بقية مناطق البلاد".
وسبق لطهران شن هجوم مماثل في خريف 2018 عندما استهدفت بالصواريخ مكتب "الحزب الديمقراطي" بقضاء كويسنجق التابع لمحافظة أربيل، ما أوقع 11 قتيلاً و30 جريحاً، كما أطلقت في الربيع الماضي وابلاً من الصواريخ الباليستية على موقع في أربيل قالت إنه "يأوي عناصر من الموساد الإسرائيلي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول مهدي إن "رسالة طهران الثانية كانت موجهة للشارع الإيراني خصوصاً الكردي، بأن الاحتجاجات طابعها سياسي مدفوع من الخارج ضد النظام الإيراني والكرد أداتها الرئيسة، وهذه قناعة القيادات العسكرية في إيران، وقد تكون واقعية، لا أعتقد أن إيران تحاول تصدير أزمتها، فهي كان بمقدورها فعل ذلك عبر أذرعها، سواء في لبنان وفلسطين والعراق واليمن، بل إنها فعلياً تواجه الإرباك، وهذا من شأنه أن يفاقم مشكلاتها، لأن هجماتها الأخيرة ستزيد من غضب شارعها الكردي الذي يحظى أساساً بتعاطف ودعم شعبي من إقليم كردستان".
وفي شأن مدى إمكانات القوى الكردية الإيرانية في دعم الاحتجاجات، أوضح مهدي "هناك أربعة أشكال من المعارضة الرئيسة في إيران، المعارضة الجماهيرية بالداخل، وجماعة مجاهدي خلق، ومناصرو الملكية، والمعارضة الكردية، ثلاثة منها منظمة حزبياً، لكن أقواها هي الكردية، بخاصة الحزب الديمقراطي الكردستاني، إذ له اتصال مباشر مع الجماهير ولديه القدرة على تحريكها أكثر من بقية قوى المعارضة، وهو ما يحسب له النظام الإيراني جيداً".
وكان مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان شدد في بيان إدانة بلاده للهجمات على أن "طهران لا يمكنها التهرب من مشكلاتها واحتجاجاتها الداخلية المشروعة بشن هجمات خارج حدودها"، كما صدر موقف مشابه من كتلة الحزب "الديمقراطي" بزعامة مسعود بارزاني الذي اعتبر الهجمات "محاولة للهرب إلى الأمام عبر تصدير الأزمات الداخلية".
صبغة سياسية
يقدم الزميل بـ"مركز البحوث الإقليمي في معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط" كمال جوماني رؤية مقاربة لما ذهب إليه مهدي، قائلاً إن "طهران تحاول تغليف الاحتجاجات والنقمة الشعبية المتصاعدة في المدن الإيرانية بصبغة سياسية تمنحها سلطة شرعية، وتقديم صور لما تبقى من الذين ما زالوا يناصرون مشروع حكم الثورة الإسلامية، بأن الاحتجاجات مفتعلة من قبل القوى الكردية المعارضة ويجب مواجهتها".
وحول طبيعة الدوافع الإيرانية لاستهداف القوى الكردية، يرى جوماني أن "المعارضة الوحيدة الفعالة للنظام الإيراني اليوم ربما هي القوى الكردية التي يرتكز وجودها قرب الحدود، بعد تراجع دور مجاهدي خلق المعارضة، وكذلك مناصري العهد الملكي".
وأشار إلى أن القوى الكردية تبدو هدفاً سهلاً، فمقارها مكشوفة خصوصاً في مراكز وقرب المدن باستثناء قسم منها المتوارية في الجبال، ما يمنح طهران الحصول على مكاسب سريعة للاستهلاك المحلي".
ويعتقد جوماني أن "طهران تنظر إلى إقليم كردستان كنقطة جغرافية خاضعة للسياسة الأميركية والإسرائيلية، وأرادت أن تظهر الأخيرتين كداعم للقوى الكردية الإيرانية التي تثير الاحتجاجات، في حين أنها تعلم جيداً أنه حال توحدت هذه القوى داخل المجتمع الكردي بحكم مواقعهم في الجبال وخبرتهم القتالية فبإمكانهم أن يثيروا حرباً مسلحة، لذا تحاول أن تثبط هذا التوجه عبر ممارسة الضغط على الإقليم لكبح أي تحرك من هذا النوع".
وعن تقييمه لتأثيرات القوى الكردية في إذكاء الاحتجاجات يؤكد جوماني أن "دورها مهم بحكم تاريخها وخبرتها السياسية والعسكرية الطويلة، وربما بإمكان أية جهة استغلال الأزمات المختلفة التي تعانيها البلاد في استقطاب الجمهور ودفعه للاحتجاج، لكن الكرد يمكنهم إشعال ثورة بسهولة أكبر، على رغم ما حصل من تباعد لعقود بين القوى الكردية نفسها ومع الجماهير".
ولفت إلى أن هناك عوامل مشجعة، منها خلق أحزاب جديدة كحزب "بجاك" (حزب الحياة الحرة الموالي لحزب العمال)، وتجربة حكم إقليم كردستان الممتدة لثلاثة عقود، والحلم بتحقيقها في إيران، وكذلك التجربة المشابهة بغرب كردستان (أكراد سوريا)، إلى جانب الكفاح الجاري شمال كردستان (أكراد تركيا)".
وشدد جوماني على أنه "طالما تتعرض مجموعة عرقية باستمرار للاضطهاد فإنها حتماً ستثور في أية فرصة سانحة، بخاصة لو مورست ضدها سياسة عنصرية مع غياب للعدالة والمساواة، فضلاً عن تدهور في الوضع المعيشي، لذا طهران تعلم جيداً إذا ما انتفض الأكراد فإن مشكلات النظام ستتفاقم لأنهم يتمتعون بالخبرة والتنظيم".
تبعات غير محمودة
من جانبه يقدم الباحث في شؤون الشرق الأوسط شيركو كرمانج رؤية مختلفة حول المسعى الإيراني الذي قد يكون له تبعات غير محمودة العواقب على القضية الكردية في إيران، مستذكراً "كيف أن كرد تركيا وقعوا في فخ الرئيس رجب طيب أردوغان من أجل دفع حزب العمال الكردستاني المعارض لاستئناف الصراع المسلح، وذلك بعد التفجير الدموي الذي وقع في مدينة سروج بمحافظة شانلي أورفة التركية عام 2015، وما خلفه من عواقب وخيمة من تدمير للمدن الكردية، واستبعاد إمكان رفع اسم الحزب من قائمة الإرهاب، في حين كان بإمكانه تجنب استئناف القتال".
وأوضح كرمانج "ما يحدث في شرق كردستان (المناطق الكردية في إيران) يشبه ما جرى في شمال كردستان (المناطق الكردية في تركيا)، نظام طهران يعاني الإرباك بسبب الاحتجاجات التي حظيت بتعاطف كبير من بقية المدن الإيرانية، ويتجه هذا الحراك ليعم البلاد بأكملها".
وأضاف أن "النظام الإيراني يعمل على تحريف مسار الاحتجاجات والحراك المدني بدلاً من الدخول في مواجهة، من خلال دفع القوى الكردية إلى حمل السلاح، من أجل اتهامها بكونها مجاميع إرهابية ومتطرفة، وبدء الحرب في المدن الكردية، وذلك من أجل تحقيق أربعة أهداف".
وأشار إلى أن "الهدف الأول هو تحويل حركة الاحتجاجات في عموم البلاد إلى حراك مناطقي محدود بالمنطقة الكردية، وتحويل الحراك المدني السلمي إلى حركة مسلحة محدودة ثانياً، وكذلك العمل على تطبيق النسخة السورية واليمنية في كردستان وتدميرها عبر نقل المواجهات من المدن إلى الحدود وإقليم كردستان العراق، وأخيراً إلصاق صفة العنف بالحراك المدني".