Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هكذا يأخذ العلماء "لقطات" لبريطانيا عصور ما قبل التاريخ

يكشف بحث جديد النقاب عن تفاصيل حيوات بريطانيين عاشوا قبل 8500 عام مضت

بصمات القدم من العصر الحجري الوسيط منذ نحو 8500 عام، مغطاة ببصمات حوافر الغزلان الحمراء (جيمي وودوارد)

يستخدم عدد من العلماء تقنيات علم التحليل الجنائي المتطورة بغرض التوصل إلى لقطات عن الحياة التي شهدتها بريطانيا في عصور ما قبل التاريخ.

من طريق اكتشاف وتسجيل وتحليل آثار أقدام ضاربة في القدم، نجح العلماء في إعادة تركيب مشاهد محددة من حياة البريطانيين الذين عاشوا قبل ثمانية آلاف و500 عام مضت، كاشفين النقاب عن تفاصيل مسهبة.

أجرى العلماء بحثهم على شاطئ قرب مدينة فورمبي، على بعد 12 ميلاً (19312 كيلومتراً) شمال ليفربول.

على عمق أمتار عدة من سطح مناطق المد في المنطقة، تجد مخبأة عشرات الآلاف من آثار أقدام تركها بشر وحيوانات على أسطح طينية مدفونة منذ فترة طويلة. كان النظام البيئي الذي عُثر عليه غنياً إلى حد أن العلماء يعتقدون أن المنطقة كانت "أشبه بـ"سيرينغيتي" [محمية طبيعية هائلة في تنزانيا تحتل المراتب الأولى في العالم في نظامها البيئي وحجمها وشهرتها] بريطانية في عصور ما قبل التاريخ".

منذ آلاف السنين، "جففت" الشمس آثار الأقدام وبصمات الحوافر تلك بشدة في الساعات التي تلت حدوثها، محافظة على أشكالها قبل أن تغطيها سريعاً طبقة رقيقة من الرمال بفعل عملية المد التي طرأت لاحقاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الآن تشهد الآثار عملية معاكسة، إذ تقود العواصف وحالات المد والجزر إلى الكشف عن الآثار وتآكلها قبل أن تعيد دفنها مجدداً. تشير التقديرات إلى أنه على مدى العقدين ونصف العقد الماضيين، تكشفت خمسة آلاف تقريباً من آثار الأقدام تلك لفترة وجيزة قبل أن تتفتت نتيجة حركة الأمواج أو تغطيها الرمال مرة أخرى.

ولكن خلال الوقت الذي ظهرت فيه بصمات الأقدام في حالة سليمة ومرئية تماماً، كان علماء من "جامعة مانشستر" البريطانية منشغلين في تسجيلها.

بحثهم الذي لم يبلغ خواتيمه بعد، يعرض معلومات تُكشف للمرة الأولى حول حيوات وأزمان الناس الذين سكنوا المناطق الساحلية البريطانية قبل وأثناء اكتشاف الزراعة وبعدها.

ترك السلسلة الأقدم من آثار الأقدام، التي ترجع إلى ثمانية آلاف و500 سنة مضت، رجل بالغ وحيد ربما كان يطارد طائراً مائياً كبيراً، من طائفة الكركيات، الذي يبدو بعض آثار أقدامه ملاصقاً تماماً لآثار الإنسان.

وتشير أدلة البصمات إلى أنه، كجزء من عملية المطاردة المحتملة، سار الرجل ببطء شديد وتوقف للحظة، كي لا يسترعي انتباه الطائر ربما. كانت الطائر الكركي مصدراً جيداً للحوم وقد يكون ريشه المذهل أيضاً ذا قيمة عالية. طبعاً، في كثير من الثقافات الغابرة القدم، كان ريش الطيور الكركية يستخدم في شعائر يرتدي فيها المحتفون أغطية الرأس.

لحظة أخرى من الزمن، سجلتها آثار أقدام مختلفة في الموقع عينه، تظهر أن طفلين، بلغ عمر كل منهما حوالي سنتين، وخمسة أطفال أكبر سناً منهما- تراوحت أعمارهم بين سبع وتسع سنوات- ومن شبه المؤكد أن امرأة بالغة كانت ترافقهم، ربما والدتهم.

في أحد الأيام، صباحاً ربما، من أوائل الصيف منذ حوالى ثمانية آلاف ومئة سنة، كان هؤلاء يسيرون حيث كان المد يخرج عبر جزء من السهول الطينية التي يبدو أنها كانت مزدحمة بقطعان من الأيائل الحمراء والغزلان والماشية البرية العملاقة.

وكان لافتاً، أن الماشية- التي بقيت العشرات من آثار حوافرها محفوظة- انجذبت بصفة خاصة إلى أكثر الأجزاء رطوبة ووحلاً من السهول الطينية. ولعل مرد ذلك إلى أن هذه المناطق قد أتاحت لها فرصة التمرغ في الوحل، علماً أنه سلوك معروف يلجأ إليه بعض أنواع الماشية للتخلص من القراد ويرقات القراد.

في سجل البصمة أيضاً، يظهر بشر آخرون يسيرون عبر المسطحات الطينية في الصباح عينه حيث كانت الأم وصغارها السبعة. كان من بين هؤلاء رجل بالغ وحيد طويل القامة وأربعة أطفال أكبر سناً لا يرافقهم أحد، تتراوح أعمارهم بين 10 و14 سنة.

ولكن على المسطحات الطينية في ذلك الصباح كان يتجول أيضاً ذئب واحد، عله يجد طبعاً ضحية ما، سواء حيوان أو إنسان صغير، ينقض عليها ويلتهمها.

يبدو وجود الأطفال الأكبر سناً على السواحل الطينية مثيراً جداً للاهتمام. في العادة، لا يترك الأطفال وراءهم تقريباً أي آثار يحفظها الزمن وتدل عليهم، لكن دليل البصمة الجديد يكشف أن العشرات من أطفال العصر الحجري المتوسط كانوا، دونما أن يصحبهم أي من ذويهم، يشتغلون على السهول الطينية لأغراض مادية واجتماعية على حد سواء. يبدو أن أدوارهم كانت رعاية الأطفال الأصغر سناً منهم، وبالتأكيد جمع المحار أو المساعدة في مصائد الأسماك.

في يوم آخر من أيام الصيف قبل خمسة آلاف و300 سنة تقريباً، جمّد تسجيل البصمة لحظة عشوائية أخرى من الزمن. تكشف الأخيرة عن لقاء قصير جداً بين أنثى بالغة من العصر الحجري الحديث وطفليها، وامرأة بالغة أخرى. يُظهر سجل بصمات الأقدام أن المرأة الأولى وولديها اللذين كانا يبلغان من العمر أربع وعشر سنوات، توقفوا لفترة وجيزة ألقوا خلالها التحية على المرأة الثانية التي مرت بهم من الزوايا اليمنى.

 

وضمن باقة المعلومات الجديدة التي تتبينها بحوث آثار الأقدام يبرز طول القامة الواضح لبعض الأشخاص. عبر الاستعانة بالتحليل الجنائي للبيانات المتصلة بآثار الأقدام يستطيع العلماء احتساب طول القامة الذي بلغه كل شخص.

قبل الآن، افترض علماء الآثار عموماً أن البريطانيين من العصر الحجري الوسيط كانوا قصيري القامة نسبياً، لكن البحث الذي تناول بصمات الأقدام يشير إلى أن البعض على الأقل من هؤلاء السكان الساحليين كانوا في الحقيقة طويلي القامة.

يبدو أن الذكور البالغين من العصر الحجري الأوسط الذين عملوا على المسطحات الطينية قد بلغ طولهم حوالى 5 أقدام و8 إنشات في المتوسط. والأكثر من ذلك، أن ما بين 40 و58 في المئة منهم تراوح طول قامتهم بين 5 أقدام (1524 سنتمتراً) و9 إنشات و6 أقدام (1828 سنتمتراً) و4 إنشات. كانت النساء من العصر الحجري الأوسط اللاتي سكن المناطق الساحلية أطول أيضاً مما كان يعتقد سابقاً- تراوح طول قامتهن بين 5 أقدام و3 إنشات و5 أقدام و5 إنشات.

ربما يعزى طول القامة غير المتوقع الذي اتسم به الرجل، وإلى حد ما، المرأة، إلى البيئة الغذائية الغنية جداً التي كانوا يعملون فيها.

كانت المنطقة الساحلية، لا سيما السهول الطينية، غنية بالبروتين والموارد الغذائية الأخرى.

كانت المسطحات الطينية موطناً لقطعان من الغزال الأحمر، وأنثى الظبي، والأبقار البرية العملاقة، بالإضافة إلى كثير من الكائنات المختلفة من طيور مائية ومحار غنية بالبروتين، بما في ذلك موس المحار، وحلزون البحر والقواقع. وليس مستبعداً أيضاً أن البشر المحليين قد استخدموا مصائد الأسماك عبر قنوات المد الضيقة بغرض صيد الإنقليس وغيره من أسماك.

علاوة على ذلك، من المحتمل أنه، على مقربة من السهول الطينية، وجد هؤلاء منفذاً إلى مروج ذات قيمة غذائية عالية من عشبة السمفاير البرية- علماً أنه نبات صالح للأكل وينمو على تربة مالحة ويتميز بأنه غني بالكالسيوم والحديد والفيتامين "أي" A.

يكشف البحث أيضاً عن اختلافات لم تكن معروفة سابقاً بين النهج الاقتصادي الذي اتبعته المناطق الساحلية في العصر الحجري الأوسط ونظيره الذي ساد في العصر الحجري الحديث.

تشير الغالبية العظمى من آثار الأقدام إلى أنه خلال العصر الحجري الأوسط، قبل نحو ستة آلاف سنة، كان الأشخاص الذين يستفيدون من المسطحات الطينية يمشون في العادة بموازاة شاطئ البحر بدلاً من المشي من اليابسة إلى البحر.

على النقيض من ذلك، تُظهر أدلة بصمات الأقدام أن سكان الساحل من العصر الحجري الحديث، الذين عملوا هناك بعد ستة آلاف سنة، كانوا يميلون إلى فعل العكس.

استخدم هؤلاء بشكل أساسي المسطحات الطينية كوسيلة للوصول إلى شاطئ البحر وتؤشر آثار أقدامهم كافة تقريباً إلى أنهم مشوا من اليابسة إلى البحر، أو العكس، وبالكاد ساروا على طول الشاطئ الأمامي.

اكتسى بلوغ شاطئ البحر أهمية كبيرة بالنسبة إلى سكان الساحل من العصر الحجري الحديث إلى حد أنهم بنوا فعلاً مساراً خشبياً مجاوراً ينقلهم عبر المسطحات الطينية إلى البحر المفتوح على المياه.

لذلك يعتقد العلماء أن تغير الاتجاه في آثار الأقدام بين العصر الحجري الوسيط والعصر الحجري الحديث يعكس زيادة في استخدام قوارب الصيد من جانب سكان العصر الحجري الحديث.

ومع ذلك، تشير طبيعة آثار الأقدام المتبقية من العصر الحجري الحديث إلى أن الناس لم يكونوا طبعاً يحملون قوارب ثقيلة عبر المسطحات الطينية. بالتالي، إذا كانوا يعبرون الوحل من أجل الوصول إلى مناطق الصيد، فلا بد من أن مركبهم كان أخف كثيراً مقارنة مع الزوارق الخشبية الثقيلة جداً المرتبطة عادةً ببريطانيا ما قبل التاريخ.

تشير هذه الأدلة الجديدة غير المباشرة من آثار الأقدام إلى أنهم كانوا يستخدمون قوارب خفيفة الوزن مغطاة بالجلد ذات إطار خشبي أو مصنوعة بأسلوب السلة على شاكلة القوارب التقليدية الحديثة في إيرلندا أو "الكوراكل" [قارب صغير لشخص واحد مصنوع من الخشب المنسوج وغطاء مقاوم للماء] في ويلز.

في الواقع، تشكل آثار الأقدام التي خضعت للتحليل أخيراً بعض أقدم الأدلة على استخدام مركبات خفيفة من ذلك القبيل في بريطانيا ما قبل التاريخ.

في البحث الجديد الذي نُشر يوم الاثنين الماضي في مجلة "نيتشر إيكولوجي آند إيفوليوشن" Nature Ecology & Evolution، تُظهر التواريخ المقدرة بواسطة تقنية الكربون المشع أن معظم الطبقات الغنية ببصمات أقدام الأنواع الحية في فورمبي أقدم مما كان يعتقد سابقاً بما يصل إلى أربعة آلاف سنة.

"تُظهر طبقات البصمة أنه، مع ارتفاع مستويات البحار العالمية بسرعة بعد العصر الجليدي الأخير منذ حوالى تسعة آلاف إلى ستة آلاف عام، شكل البشر جزءاً من النظم الإيكولوجية الكثيرة المد والجزر إلى جانب الثور البري الأوروبي والغزال الأحمر والغزال البري والخنزير البري والقندس، بالإضافة إلى الحيوانين المفترسين الذئب والوشق"، قالت عالمة الآثار الدكتورة أليسون بيرنز، التي أمضت ست سنوات في إجراء البحث الميداني.

كذلك تكشف بصمات الأقدام وآثار الحوافر كيف أن البشر بسطوا هيمنتهم على البيئة، وكيف شهد عدد أنواع الثدييات البرية الكبيرة تراجعاً حاداً في هذه المنطقة الساحلية.

البروفيسور جيمي وودوارد، باحث مشارك في الدراسة قال إن "بحثنا يُظهر كيف كانت منطقة السهول الطينية التي تعود إلى ما قبل التاريخ والواقعة على مقربة من فورمبي نقطة مهمة للتنوع البيولوجي تعج بحيوانات رعي كبيرة وحيوانات مفترسة- كما لو أنها "سيرينغيتي" شمال غربي أوروبا".

وأوضح الدكتور بيرنز أن "الانخفاض الملحوظ في أعداد الثدييات الكبيرة في سجل البصمات ربما يعزى إلى عوامل عدة، من بينها تقلص الموائل، بعد ارتفاع مستوى سطح البحر وتطور الاقتصادات الزراعية، فضلاً عن وطأة الصيد من تزايد عدد السكان".

"تشكل طبقات البصمات في فورمبي واحدة من أكبر التجمعات المعروفة في العالم لمسارات بصمات الأقدام وآثار الحوافر التي تعود إلى ما قبل التاريخ. إنها المرة الأولى التي تشهد إعادة تركيب تاريخ حيواني ونظام إيكولوجي ضاربين في القدم بالارتكان إلى أدلة مستقاة من بصمات الأقدام والحوافر حصراً"، وفق الدكتور بيرنز.

وأضاف البروفيسور وودوارد "إن تقييم التهديدات التي تتعرض لها الموائل والتنوع البيولوجي نتيجة ارتفاع مستوى سطح البحر تمثل أولوية بحثية رئيسة في زمننا- علينا أن نتوصل إلى فهم أفضل لهذه العمليات في الماضي والحاضر كليهما".

وخلص البروفيسور وودوارد إلى أن البحث يوضح كيف أن في مقدور ارتفاع مستوى سطح البحر أن يغير المناظر الطبيعية الساحلية، ويقود تالياً إلى تدهور نظم إيكولوجية مهمة.

© The Independent

المزيد من علوم