Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا يتعين على العالم أخذ "تهديد بوتين" النووي بجدية؟

احتمالات "التدمير المتبادل المؤكد" تشكل عاملاً داعماً لضبط النفس لكن من يضمن عدم الخروج عن العقل؟

يجب إقناع بوتين بأن تكاليف تنفيذ حتى الضربة النووية الأكثر محدودية ضد أوكرانيا ستكون مكلفة للغاية (أ ف ب)

منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير (شباط) الماضي، أدى التهديد المتكرر من الكرملين باستخدام الأسلحة النووية إلى التذكير بسياسة حافة الهاوية التي استخدمت على مدار التاريخ من قبل الأميركيين والسوفيات وغيرهم كنوع من الردع للخصوم، فما هي أبرز حالات استخدام سياسة حافة الهاوية النووية؟ ولماذا كانت مفيدة في بعض الحالات ومقلقة في حالات أخرى؟ وهل ستفلح تهديدات روسيا المتجددة قياساً بالتجارب التاريخية السابقة؟.

سياسة حافة الهاوية

تعرف سياسة حافة الهاوية بأنها ممارسة السياسة الخارجية بطريقة يدفع فيها أحد الطرفين المتنازعين أو كلاهما التفاعل بينهما إلى عتبة المواجهة من أجل الحصول على موقع تفاوضي مفيد بالقياس إلى الطرف الآخر، وهي سياسة تقول الموسوعة البريطانية إنها تتميز بخيارات تتسم بالجرأة والمخاطرة، كونها تحذر من وقوع كارثة محتملة.

وعلى الرغم من أن ممارسة سياسة حافة الهاوية ربما كانت موجودة منذ فجر التاريخ، فإن أصل الكلمة في العصر الحديث نشأ بعد أشهر عدة من تهديد أطلقه وزير الخارجية الأميركي السابق جون فوستر دالاس في مارس (آذار) 1955 بإلقاء قنابل ذرية على الصين الشعبية إذا استمر النظام الشيوعي في قصف جزيرتي كيموي وماتسو التي تحتلها قوات الصين الوطنية (تايوان حالياً)، وعقب حل الأزمة في نهاية المطاف دبلوماسياً، أجرت مجلة "لايف" الأميركية لقاءً مع الوزير دالاس في يناير (كانون الثاني) التالي تفاخر فيه بسياسة الابتزاز النووي قائلاً بهدوء "يقول بعضهم إننا وصلنا إلى حافة الحرب، بالطبع وصلنا إليها، لكن القدرة على الوصول إلى حافة الهاوية من دون الدخول في الحرب هي الفن الضروري، وإذا  كنت خائفاً من الوصول إلى حافة الهاوية فسوف تضيع".

ورداً على ذلك، سخر السياسي والدبلوماسي الأميركي أدلاي ستيفنسون من سياسة حافة الهاوية التي يتبعها دالاس ووصفها بأنها متهورة، غير أن المصطلح أعيد استخدامه مراراً خلال الحرب الباردة التي اتسمت بتوتر العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وكان هذا بمثابة تغيير كبير في سلوك السياسة الخارجية بعد أن كان التفاعل بين الدول يعتمد في السابق على توازن القوى المرتكز إلى حد كبير على القوة الاقتصادية والعسكرية للدولة، والرغبة في منع أي تحولات كبيرة في الوضع الراهن، لكن امتلاك الدول الأسلحة النووية خلق مجموعة جديدة تماماً من أدوات السياسة الخارجية التي يمكن استخدامها للتأثير على الآخرين.

أزمة الصواريخ الكوبية

كانت الحال الأكثر توثيقاً لسياسة حافة الهاوية هي وضع السوفيات عدداً من الصواريخ النووية في كوبا عام 1962 ورد الولايات المتحدة على هذا الإجراء، والذي يشار إليه الآن باسم أزمة الصواريخ الكوبية، فقد سعى رئيس الوزراء السوفياتي نيكيتا خروتشوف للدفاع عن حليفته الشيوعية كوبا في مواجهة الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه توسيع القوة الاستراتيجية السوفياتية في المنطقة من خلال نشر صواريخ باليستية متوسطة المدى سراً في كوبا هددت غالبية أراضي الولايات المتحدة القارية، لكن بدلاً من اكتساب موقع استراتيجي أفضل على الولايات المتحدة، كادت سياسة حافة الهاوية التي انتهجها خروتشوف أن تدفع الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى حافة حرب نووية عالمية مدمرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن الأزمة التي تحل ذكراها الستين في 22 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل انتهت بعد أن كشف الرئيس الأميركي جون كينيدي عن وجود الأسلحة السوفياتية، وأمر بحصار بحري حول كوبا لمنع وصول مزيد من الصواريخ النووية إلى الجزيرة التي تقع على بعد أميال من ولاية فلوريدا، وتفاوض الطرفان على تعهد سري بسحب صواريخ نووية أميركية من تركيا، مقابل سحب الاتحاد السوفياتي صواريخه من كوبا.

حرب 1973

غير أن جنون الابتزاز النووي لم يمتد إلى الدول الأخرى في العالم التي تمتلك أسلحة نووية فقط، بل ربما كانت الأسلحة النووية سبباً لضبط النفس، فقد خاضت الهند وباكستان ثلاثة حروب قبل أن تحصل كلتا الدولتين على أسلحة نووية، لكن لم تهدد أي منهما علانية باستخدامها ضد الأخرى.

مع ذلك، هناك حال واحدة مختلفة سجلتها مراكز دراسات أميركية، ففي خضم الحرب العربية - الإسرائيلية في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، عندما بدا أن وجود إسرائيل بحد ذاته مهدد تحت ضغط الهجوم المصري - السوري خلال الأيام الأولى من الحرب، اقترح وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان تجهيز القوات النووية الإسرائيلية تمهيداً لإجراء تفجير، لكن وفقاً لدراسة أجراها عام 2013 مركز التحليلات البحرية الأميركي في واشنطن (سي أن أي)، فقد رفض مجلس وزراء الحرب الإسرائيلي هذه الفكرة.

طلقة في المجهول

إضافة لفكرة الابتزاز النووي التي تستخدم أحياناً، يشير عدد من الخبراء إلى أن احتمالات "التدمير المتبادل المؤكد" تجعل الأسلحة النووية، بشكل متوازن، عاملاً أكثر استقراراً من كونها مزعزعة للاستقرار، بل إن عالم السياسة الأميركي كينيث والتز أوضح في مقال له عام 1981 بعنوان "انتشار الأسلحة النووية: المزيد قد يكون أفضل"، أنه ينبغي الترحيب بانتشار الأسلحة النووية.

لكن سياسة حافة الهاوية قد تبدو مجنونة جزئياً لأنها تتعامل مع المواقف النووية كما لو كانت لعبة شطرنج، ففي كتاب شهير حمل عنوان "استراتيجية الصراع" عام 1960، حذر مؤلفه توماس شيلينغ من أنه حتى أكثر الحكومات عقلانية قد تتخذ قرارات غير كاملة، بالتالي استخدام التهديدات والمناورات النووية بمثابة طلقة في المجهول لا يمكن السيطرة عليها.

وأوضح شيلينغ في دحض واضح لادعاء دالاس بالبراعة في منتصف الخمسينيات "أن سياسة حافة الهاوية هي منحدر يمكن للمرء أن يقف عليه مع بعض مخاطر الانزلاق، ويصبح المنحدر أكثر حدة وخطر الانزلاق أكبر كلما تحرك المرء نحو الهوة".

انتقادات كثيرة

لهذا السبب واجهت سياسة حافة الهاوية النووية انتقادات كثيرة، وأصبح ينظر إليها على أنها متهورة للغاية لدرجة أنه لم يشارك فيها أي زعيم دولة نووية منذ نصف قرن على الأقل، إلى أن فعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذلك الأسبوع الماضي، مؤكداً أنه حال وجود تهديد لوحدة أراضي روسيا فسوف تستخدم بلاده بالتأكيد جميع أنظمة الأسلحة المتاحة، مؤكداً أنها ليست خدعة.

كما أوضح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن إمداد أوكرانيا بأسلحة متطورة يعني المشاركة المباشرة للغرب في الصراع، وهو ما يتماشى مع خطاب بوتين الذي أعلن فيه بدء الهجوم على أوكرانيا في 24 فبراير الماضي، والذي هدد فيه بشكل غير مباشر باستخدام الأسلحة النووية ضد أولئك الذين قد يميلون إلى التدخل.

وعلى رغم أن الحرب الجارية في أوكرانيا الآن لا تعرض روسيا للخطر، فإنه بمجرد ضم روسيا رسمياً لما يعرف الآن بالأرض الأوكرانية، فإن أية محاولة لاستعادة السيطرة عليها ستتجاوز خط بوتين الأحمر.

أسئلة بلا إجابات

ووفقاً لجيمس تروب، الباحث في مركز التعاون الدولي بجامعة نيويورك، فإن خسارة الحرب أمام أوكرانيا لن تعرض روسيا للخطر، لكنها قد تعرض حكم بوتين للسقوط لأنه رهن هيبته بالنصر، وفي حين أن التعبئة العسكرية لجنود الاحتياط التي أمر بها لن تؤثر في مسار المعركة لأشهر عدة مقبلة، فإن هناك عديداً من الأسئلة التي لا تعرف إجاباتها بعد، مثل ماذا لو اخترق الأوكرانيون الجنوب وهددوا سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم؟ وماذا لو تراجعت القوات الروسية في الشرق؟ وماذا لو بدأ العسكريون الروس في مهاجمة قيادة بوتين علانية ما يعرض شرعيته للتساؤل؟.

لكن أياً كانت الخطوات التي يمكن أن يتخذها الرئيس الروسي، فإن سياسة حافة الهاوية التي يستخدمها تفترض وجود جهات فاعلة عقلانية لن تخاطر بالدمار الشامل من أجل هدف محدود، ومع ذلك قد يستخدم بوتين السلاح النووي لضمان بقائه واستمرار نظامه، ولهذا فإن السؤال الذي قد يضطر العالم للإجابة عليه، وهو سؤال ينفجر من كوابيس الغرب: كيف تردع شخصاً محاصراً يمتلك ترسانة نووية؟.

حسابات معقدة

الجواب الأكثر وضوحاً كما يقول جيمس تروب في موقع "فورين بوليسي" هو أن لا تحاصر أحداً، فقد ألقى علماء السياسة الواقعيون مثل جون ميرشايمر باللوم على الغرب في سعيه لتحقيق نصر عسكري في أوكرانيا، وهي نتيجة لا يستطيع بوتين تحملها ولن يقبلها، لهذا فإن بيت القصيد من الابتزاز النووي هو رفع المخاطر إلى النقطة التي ينهار فيها اللاعب الآخر، وأن يشتري الغرب السلام بسعر هائل.

لكن قد لا يكون لدى التحالف الغربي الذي تقوده واشنطن خيار سوى المضي قدماً بأكبر قدر ممكن من الحذر والوعي على المنحدر الحاد لسياسة حافة الهاوية، حيث يجب إقناع بوتين بأن تكاليف تنفيذ حتى الضربة النووية الأكثر محدودية ضد أوكرانيا ستكون مكلفة للغاية.

وفي حين لم يصرح الرئيس الأميركي جو بايدن بعد بهذه التكاليف مكتفياً بأنها ستحمل عواقب، ووصف مستشار الأمن القومي جيك سوليفان تلك العواقب بأنها "كارثية"، فإن من المؤكد أن بايدن تعلم من تجربة الرئيس السابق باراك أوباما في سوريا عدم رسم "خط أحمر" ليس على استعداد تام لفرضه.

على محمل الجد

مع ذلك، يرى الخبير النووي ماثيو كرونيغ من "المجلس الأطلسي" أن "بايدن سيحتاج إلى نقل تهديد علني، حتى لو كان تهديداً غير محدد، من أجل التأكيد للرئيس بوتين على أن واشنطن أيضاً لا تخادع، لكن لا يمكن التهديد بالانتقام النووي ما لم تكن مستعداً لتنفيذه"، ولهذا يقترح كرونيغ مزيداً من إمدادات الأسلحة المعززة لأوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا وتوجيه ضربة تقليدية محدودة للقوات الروسية المشاركة في الحرب.

لكن حتى هذه التحركات تفترض أن الرئيس بوتين يتحرك وفق حسابات المصلحة الوطنية وليس المصالح الشخصية، وقد يؤدي التهديد النووي إلى دفع الدول إلى منحدر شديد الخطورة، حيث تحل الأحداث غير المتوقعة محل الحسابات الهادئة، لذلك فإن العالم كله وليس الغرب فقط، ليس لديه خيار سوى أخذ تهديد بوتين على محمل الجد.

المزيد من تقارير