تصوَّر رواندا البلد الخارجة من أتون إبادة عرقية طاحنة قبل ما يقارب ثلاثة عقود، على أنها فردوس أفريقيا بعد أن عمل الرئيس الرواندي بول كاغامي على إعادة الإعمار منذ توليه السلطة في الـ 24 من مارس (آذار) 2000.
هذه الصورة المضخمة من قبل البنك الدولي حتى فاقت حجم صور ضحايا الإبادة الجماعية الذين بلغوا وقتها أكثر من 250 ألف شخص، مثلت فخاً للاجئين الأفارقة لإعادتهم إلى متاهتهم.
يحدث هذا واللاجئون في أوج حلمهم بعد الوصول إلى أوروبا عبر مصارعة أمواج البحر المتوسط بأن توفر لهم "قارة الأحلام" حياة أفضل خصوصاً مع ما يعتقدونه من كفالة الحق في العيش الكريم والحريات.
وفي الـ 14 من أبريل (نيسان) الماضي أعلنت رواندا أنها وقعت اتفاقاً مع بريطانيا لاستقبال طالبي لجوء ومهاجرين إلى المملكة المتحدة على أراضيها، وقيمة الصفقة وكلفة الخطة تبلغ 1.8 مليار دولار سنوياً، وذلك في إطار محاولات الحكومة البريطانية ضبط الهجرة غير الشرعية ومواجهة مهربي البشر بإعادتهم لأفريقيا مرة أخرى.
وتتمحور الخطة حول إعادة اللاجئين من حيث جاؤوا، مما يثير تساؤلات حول تخلي المملكة المتحدة عن واجباتها نحو اللاجئين وفتح الباب واسعاً لدول أخرى لتحذو حذوها لقاء مقابل مالي، وهي النقطة التي انطلق منها النقاش النقدي بأنها تسليع للاجئين، خصوصاً أن الأمر يتم من دون موافقتهم أو استشارتهم مما سبب صدمة نفسية لدى كثيرين بسبب قرار الاستعادة القاسية، وهم ضحايا الصراعات المسلحة والأزمات الاقتصادية والسياسية في بلدانهم التي فضلوا عليها أن يقبعوا في درجة سفلى من سلم المجتمع البريطاني على أمل أن تسوى أوضاعهم.
ترحيل قسري
وأسهمت ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية بسبب تداعيات تفشي فيروس كورونا خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ثم تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية، وحيث لا يتوقع أن يتعافى الاقتصاد من هذه الأزمات بسرعة في خلق حال معادية وخطاب كراهية ضد اللاجئين.
وعلى مر التاريخ عندما تكون هناك أزمات أو توترات في مناطق مستقرة، فإن اللاجئين أو المخالفين عرقياً، خصوصاً الآسيويين والأفارقة، غالباً ما يصبحون ضحايا هذه الأوضاع.
هذه السمة التاريخية لا تواجه برفض من المجتمع باعتبارها إحدى الحلول المطروحة من الحكومة على مجتمع يضيق حول عنقه خناق الأزمات، وأن الحكومة هي من في يدها الحل.
وعلى رغم بعض الفوارق بين هذه الحال وسوابق تاريخية أخرى في بعض جزئياتها، إلا أن الثابت هو مضي القرارات السياسية الخاصة بترحيل الأجناس المغايرة، سواء بغرض الانتقام أو الحماية أو عدم تحمل المسؤولية، إذ لا مكان للالتزام الأخلاقي، وربما تعد الولايات المتحدة رائدة في هذا المجال، إذ عد قانون "استبعاد الصينيين" الذي وقع عليه الرئيس تشيستر أ. آرثر عام 1882، أول قانون في الولايات المتحدة يقيد هجرة مجموعة عرقية معينة، وكان لتقييد الهجرة الصينية إلى الساحل الغربي الأميركي، بحسب رد فعل عنيف من عمال أميركيين كانوا قد رأوا أن الصينيين أدخلوا إلى البلاد لتوفير العمالة الرخيصة،
وحول ما وصفت بأنها أكبر عملية نقل قسري رسمية في تاريخ الولايات المتحدة، فقد أصدر الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت قراراً يقضي بترحيل نحو 110 آلاف من الأميركيين من أصل ياباني إلى معسكرات في أكثر الأماكن المقفرة في أميركا.
ولم تفلح معارضة وزارة العدل في تعطيل ذلك القرار الذي جاء على إثر إغارة الطائرات الحربية اليابانية على الأسطول الأميركي في بيرل هاربر عام 1942 بسبب الحصار الاقتصادي الذي كانت فرضته الولايات المتحدة، وأسفر هذا الهجوم عن المشاركة النشطة من جانب الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية.
هاجس اللجوء
في عام 2020 عبر القنال الإنجليزي بواسطة قوارب حوالى 8400 لاجئ، تلاهم حوالى 28560 آخرين عام 2021، وفق منظمة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التي أكدت أن "85 في المئة من اللاجئين في العالم أفارقة"، وربما يكون هذا هو السبب الذي اختارت من أجله بريطانيا توقيع الاتفاق الذي يتم بمقتضاه ترحيل اللاجئين غير الشرعيين إلى رواندا.
وفي عام 2020 أيضاً استقبلت رواندا حوالى 500 طالب لجوء كانوا في طريقهم إلى أوروبا بعد إجلائهم من ليبيا.
ووفقاً لاتفاق تم توقيعه في سبتمبر (أيلول) 2019 مع مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين والاتحاد الأفريقي، آوت هذه المجموعة الأولى ضمن برنامج أطلق عليه اسم "آلية عبور الطوارئ" إلى حين اللجوء إلى بلد غربي، أو إعادتهم لبلدهم الأصلي، أو إعادة توطينهم في بلد آخر في المنطقة، أو الإقامة في رواندا التي قالت حكومتها عام 2017 إنها مستعدة لاستقبال ما يصل إلى 30 ألف مهاجر أفريقي على أراضيها.
وخلال الأعوام السابقة حين انشغلت أوروبا بقضية اللجوء، توصل قادة دول الاتحاد الأوروبي في قمة عقدت في بروكسل، 29 يونيو (حزيران) 2018، إلى اتفاق في شأن الهجرة حاولت فيه المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل اقناع القادة الآخرين باتخاذ إجراء أوروبي مشترك في مسألة اللاجئين، عبر تقاسم المسؤولية وتوزيع طالبي اللجوء من دون إلزام أية دولة من دول الاتحاد الأوروبي بالقيام بذلك.
وبعد خروج بريطانيا رسمياً من الاتحاد الأوروبي (بريكست) في الـ 31 من ديسمبر (كانون الأول) 2020، بعد عضوية دامت 50 عاماً، ودخولها عهد تغييرات تاريخية خصوصاً ما يربطها بالقارة الأوروبية، ومنها تعاونها تجاه نظام اللجوء الموحد في التكتل الأوروبي، عبر رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون عن ذلك بقوله إن "بريطانيا يمكنها الآن أن تقوم بالمهمات بشكل مختلف، وإذا لزم الأمر بشكل أفضل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحديات قانونية
وتواجه الحكومة البريطانية تحديات قانونية بخصوص ترحيل اللاجئين، فهي موقعة على معاهدتين دوليتين لضمان حقوق اللاجئين، وهما "اتفاق الأمم المتحدة لحماية اللاجئين" و"الاتفاق الأوروبي لحقوق الإنسان"، وعليه فهي تتقيد بهما.
ومع أن اتفاق عام 1951 الخاص بوضع اللاجئين الذي اعتمد بعيد إنشاء "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين" في أعقاب الحرب العالمية الثانية بغرض مساعدة النازحين الأوروبيين، فإنها طورت من خلال وضع مجموعة من القوانين والاتفاقات والمبادئ التوجيهية التي تستهدف حماية اللاجئين بشكل عام.
وفي الـ 25 من يوليو (تموز) 1951، وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على الاتفاق الخاصة بوضع اللاجئين، وبحسب مفوضية اللاجئين، "أوردت الاتفاق تعريف اللاجئ ونوع الحماية القانونية، والمساعدات والحقوق الاجتماعية التي يجب أن يحصل عليها من الأطراف الوطنية الموقعة على هذه الوثيقة، وهي تحدد بقدر متساو التزامات اللاجئ تجاه الحكومات المضيفة، كما تحدد بعض الفئات المعينة من الأشخاص من قبيل الإرهابيين غير المؤهلين للحصول على صفة لاجئ".
كما تتقيد بريطانيا بالاتفاق الأوروبي لحقوق الإنسان الموقعة في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1950 في روما، من قبل أعضاء "مجلس أوروبا"، مراعاة منها للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في الـ 10 من ديسمبر 1948، وجاء فيه "وحيث إن هذا الإعلان العالمي يهدف إلى ضمان العالمية والاعتراف الفعال ورعاية الحقوق الموضحة به، وحيث إن مجلس أوروبا يهدف إلى تحقيق اتحاد أوثق بين أعضائه، وأن حماية حقوق الإنسان والحريات الأساس وتحقيق مزيد منها أحد وسائل بلوغ هذا الهدف، وتجديداً لتأكيد إيمانها العميق بهذه الحريات الأساس التي تعد أساس العدالة والسلام في العالم، وأن أفضل ما تصان به من ناحية ديمقراطية سياسية فعالة، ومن ناحية أخرى فهم مشترك يرعى حقوق الإنسان التي ترتكز تلك الحريات عليها".
وعلى رغم توقيع بريطانيا على هاذين الاتفاقين، إلا أن تعارض هذا القانون الإنساني بوصفه شأناً إنسانياً عام، مع شأن سياسي وأمني داخلي لبريطانيا يضعه في نقطة غامضة ما بين الدعم والإدانة، وبالفعل فإن هذا الاختلال بين القانون والشأن السياسي كف كثيراً من الآراء، إذ لم يحصل القرار إلا على إدانات متفرقة من منظمات حقوقية.
استرجاع مكاني
اختيار رواندا لاستيعاب ودمج اللاجئين هو استرجاع مكاني لقارة أفريقيا التي خرج منها هؤلاء، ولكن من دون استدعاء سلسلة الأزمات باعتبارها دولة نجحت في التحديث العمراني والحضاري، وفارقت أزمات بقية دول القارة السمراء حتى تلك المتاخمة لها، كما أنها تستضيف أكثر من 100 ألف لاجئ، وقدمت تعهدات دولية بتغطية سبل العيش والتعليم والصحة والطاقة والبيئة والحماية لهم.
ولكن خلف هذه الصورة تكمن حقائق أخرى، إذ تواجه رواندا انتقادات حقوقية بعد أن صنفتها "منظمة فريدوم هاوس" بأنها "دولة غير حرة"، وحصلت على حوالى 21 في المئة على "مؤشر الحرية".
وعلى رغم أن بوريس جونسون كان قد دافع عن الخطة بأنها "خطة إنسانية ورحيمة لمنع مهربي البشر من تحويل القنال الإنجليزي إلى مقبرة بحرية"، إلا أن هذا التبرير لا يبدو مقنعاً في ظل الهلع الأوروبي المتنامي من الهجرة، كما أنه لا يبدو منطقياً من حيث توجه سياسات الحكومات هناك بافتراض صراع أمني واجتماعي مع خصوم محتملين، هم اللاجئين، وخصوصاً الأفارقة، وفي الوقت نفسه لا تحاول إخفاء بروز اتجاهات تنامي خطاب الكراهية، بل إنه يجد من يشجعه من اليمين المتطرف.
وكما أن مسؤولين حكوميين وصفوا الخطة بأنها "غير عملية وغير أخلاقية وابتزازية"، فقد عارضت أيضاً "مفوضية اللاجئين" و"الصليب الأحمر" بشدة نقل طالبي اللجوء إلى دول أخرى، بأنه "لن يعالج الأسباب التي تجعل الناس يقومون برحلات محفوفة بالأخطار بحثاً عن الأمان في المملكة المتحدة"، وحثوا الحكومات على الامتناع من ذلك.
أسباب متراكمة
بعد احتجاجات في لندن ضد اتفاق ترحيل اللاجئين، ثم قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في الـ 14 من يونيو الماضي، ألغيت أول رحلة جوية لنقل طالبي لجوء من بريطانيا إلى رواندا، ولكن لا تزال هناك حال من القلق والشك كون أن القرار مؤسس قاعدياً على أسباب متراكمة تتخللها عوامل عدة، في مقدمها أولاً التفاعلات السياسية الأوروبية، إذ يمكن أن تؤثر في بريطانيا على رغم خروجها من الاتحاد الأوروبي، فهناك متغيرات تتعلق بشعورها القديم بأنها معرضة إلى خطر هائل، إضافة إلى إحساسها بالتفوق والقوة الفائقة ومقدرتها على تجاوز أية اتفاقات دولية بمبررات تراها منطقية، وثانياً أن وجهة ترحيل اللاجئين إلى بلد مستقر نسبياً، وسط دول مضطربة أمنياً وسياسياً، تجعل المفاضلة بين هذه الدول الأفريقية، بين أن تكون رواندا أم غيرها، باعتبار أن أمر الترحيل محسوم من حيث المبدأ، وثالثاً مثلما كان الأفارقة رقيقاً بدوافع حضارية لتغطية جرائم ضد الإنسانية لمصلحة ومكاسب وفيرة، تحاول بريطانيا إعادة أحفادهم اليوم وتدفع من أجل ذلك، في ما وصفها مراقبون بأنها عملية "تسليع للاجئين". وبتوسيع مفهوم الأمن القومي يتضح أن مشكلات اللجوء هي ما يثير النقاش واهتمام الحكومات الغربية، كحلقة ملتهبة في سلسلة أزمات اقتصادية وأمنية، منها انخفاض الأجور والإسكان والغذاء والصحة وتهريب البشر وقضايا الإرهاب، وغيرها مما ثبت في اللاجئين كوصمة تاريخية وشحن الخيال الجمعي بها.