Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 المصري مينا عادل يكتشف جزيرة التوائم الملتصقة

رواية غرائبية ساخرة تتبع أوهام الإنسان وأسئلته الوجودية

لوحة للرسامة أورسولا غيرستنبرغر (صفحة الرسامة - فيسبوك)

بعض الظواهر الغريبة تنشأ وتنسجم مع الواقع كبرهان من الحياة على أن الخيال قد يكون أكثر واقعية من الواقع ذاته. ربما غرابة أن يولد طفل وله رأسان أو أن طفلين يلتصقان في جسد واحد تجعل الأمر غير قابل للتصديق، لولا أن هناك بالفعل عدداً من التوائم الملتصقة حولنا في مناطق مختلفة من العالم. ظهر أول توأم ملتصق في شعب الموشي في بيرو قبل مئات السنين، وتكرر ظهور هذا النوع من التوائم حتى وقتنا الراهن، منهم آبي وبريتني هينسل المولودتان في الولايات المتحدة الأميركية منذ أكثر من ثلاثة عقود وتعيشان بسعادة مع جسدهما المشترك. أيضاً التوأم الهندي الملتصق شيفاناث وشيفرام ساهو اللذان دفعت غرابة مظهرهما بعض الهنود إلى محاولة عبادتهما. هناك أيضاً كارمن ولوبيتا المولودتان في المكسيك وروني ودوني غاليون الأميركيان ونماذج أخرى من التوائم الملتصقة حول العالم، بعضها يلتصق من الرأس وبعضها من الجانب وبعضها من الجذع وتوائم أخرى تشترك في الجسد كاملاً إلا الرأس، فيكون للتوأم رأسين في جسد واحد، وهؤلاء هم من كانوا أبطالاً لرواية الكاتب مينا عادل "جزيرة إلخ إلخ" (الدار المصرية اللبنانية).  

فضاء مكاني مبهم وكذلك الفضاء الزمني للأحداث، بينما الشيء المعلوم على جزيرة التوائم الملتصقة هم الشخوص الذين قرر الكاتب لهم أن يكونوا جميعاً من أصحاب الرأسين في جسد واحد. وهكذا كشف عن غرائبية النص التي تتقاطع مع الواقع في إمكان وجود هذا النوع من التوائم، غير أنه حول الندرة إلى سائد ومألوف.

الفكاهة والسخرية

اتخذ الكاتب موقع الراوي العليم الذي يعرف كل شيء عن شخوصه، مستخدماً أحياناً أسلوب الخطاب ليكسر عبره الصورة النمطية للتلقي ويمنح القارئ حضوراً داخل السرد ويجعله جزءاً من الحكاية وخيطاً من خيوط النسيج. ثم مهد طرقاً عدة، عبر السرد، للفكاهة، فانتهج أسلوباً يعتمد على توأمة عباراتهم، بما يتسق مع ما لهم من رأسين وفمين في كل جسد. وكذا غلف بعض الأحداث بالسخرية، فالعالم "طفو" الذي يبيع "السكر المسكر"، ينشغل في بحث علمي لاكتشاف عدد ضرطات أهل الجزيرة بعدما حفزته رائحة كريهة مجهولة المصدر على المضي في هذا البحث الذي توقف من دون أن يكتشف ما كان يسعى إلى اكتشافه. وكانت هذه السخرية التي غلفت الأحداث وسيلة الكاتب التي مرر عبرها إسقاطات على الواقع المعيش، فهذا البحث العلمي يعادله في الواقع الكثير من الأبحاث المضحكة التي ضجت وسائل الإعلام بالإعلان عنها كي تثبت فرضيات لا تنم إلا عن حماقة، وبالطبع لم تسفر عن أي شيء. وربما يحيل أيضاً إلى استشراء حال من تعمد الاستغراق في سفاسف الأمور وتضخيمها لإلهاء الناس عن مشكلاتهم الحقيقية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تمرد الكاتب على البنى القديمة للسرد وانضم إلى أولئك الذين يتجهون مباشرة إلى الأحداث، فلا إسهاب ولا تطويل ولا تقعير، وإنما أحداث سريعة متلاحقة ولغة فصحى سلسة، لكن ذلك في الوقت ذاته لا يمكن اعتباره تنصلاً من الموروث، لا سيما وقد استلهم من التراث الصبغة الغرائبية والأجواء التراثية التي تتصل بعوالم "ألف ليلة وليلة". وهذا ما بدا في أسماء الشخصيات "طفو، كنزو، كاتو، كا، بوتو، كندلو..."، وفي بعض الصيغ اللغوية التي وإن ابتكرها هو، تظل لها نكهة تراثية مثل عدد لفات الشمس التي كان يستخدمها تعبيراً عن عدد الأعوام، استناداً إلى أن الأرض تكمل دورة واحدة حول الشمس كل عام وأيضاً أنه استدعى حكاية سندريلا ومنهج الأمير في تفقد بيوت الجزيرة للحصول على عروس.

الواقعية وصراع الرؤوس

"شيء تشده يشد، تمطه يمط، تتركه فيعود كما كان". من هذا اللغز انطلقت رحلة السرد عبر الشخصية المحورية "طفو" الذي كان يسعى إلى الحصول على تفسير لأصل جسم غريب، "تشده يشد، تمطه يمط، تتركه يعود كما كان"، آل إليه عن طريق الصدفة. فلجأ في رحلة بحثه إلى الرحالة والفيلسوف والفلكي والمنجمة والكيميائي. وعلى رغم أن الرحلة كانت من أجل معرفة طبيعة ذلك الجسم الغريب، فإن تكرار اللغز على طول خط السرد وشى بمغزى ضمني أراده الكاتب وأعلن عنه على لسان البحار العجوز في نهاية الرواية. كذلك لم يكن الطابع الغرائبي للأحداث إلا طريقاً خلفياً، سلكه مينا عادل للوصول إلى هشاشة الواقع ودفعه عارياً إلى فضاء السرد، بلا تدليس ولا مواربة، وهذا ما بدا في تقسيمه مجتمع الجزيرة إلى طبقة الأيدي الناعمة "الأثرياء" والمتأرجحين "الطبقة المتوسطة" ومن ينامون جوعى "الطبقة الفقيرة"، وفي إظهاره غرور وغطرسة الطبقة الغنية والصراع القيمي عند الطبقة المتأرجحة ومشكلاتها الاجتماعية، وأيضاً في ما أبرزه من تفاوت طبقي يدعمه الساسة ويغذونه لضمان استقرار حكمهم، ثم ادعاؤهم بنظافة أياديهم وتفسير معاناة الفقراء وسوء حالهم بكونهم كسالى، مما يجعلهم وحدهم مسؤولين عما يعانون! وأبرز أيضاً طريقة تعاطي الحكام مع الفقر والفقراء وجهلهم بمعاناتهم. فعندما دخل الأمير ابن الحاكم حي الفقراء لم يصدق ما يقاسونه من حرمان ولم يبد إلا تأثراً وحزناً من دون أن يفعل المزيد، بل إنه رفض اختيار عروسه من هذا الحي!

فرادة الشخوص واحتفاظها برأسين في جسد واحد أتاح للكاتب أن ينتج مستوى جديداً من الصراع يقع بين عوالم النفس الداخلية والخارجية. فوجود رأسين للجسد الواحد جعل للصراع الداخلي صوتاً، فـ"طفو" يريد أن يتبرز صباحاً، ورأسه الأخرى ترجئ الأمر  إلى المساء. و"كا" يريد أن يصبح محارباً بينما رأسه الأخرى تكره الحروب والموت وتؤثر السلامة والنجاة. وعلى رغم تجريم الإعلان عن الآراء المختلفة للرؤوس، فإن ذلك لم يمنعهم من الاختلاف ولم يلزمهم الصمت، كما تفرض عليهم السلطة، فكانت الحانة متنفساً للاختلاف وللحقيقة وكان ذلك إسقاطاً جديداً، مرره الكاتب على مناخات القمع وتكميم الأفواه وتجريم الاختلاف. كما أنه أتاح عبر شخوصه من التوائم الملتصقة نظرة عكسية ترى ذوي الرأس الواحدة على أنهم مسوخ بشرية وربما كان ذلك انتقاماً عادلاً، ولو كان قاصراً على فضاءات السرد، لما وجده هؤلاء التوائم من تنمر وسخرية ومعاناة على مدى تاريخهم.

سهام النقد

لم يتوقف الصراع داخل النص عند حدود رأسي الجسد الواحد، بل امتد وتشعب وسلك اتجاهات عدة من بينها الصراع بين العلم والكنيسة التي استخدمها الكاتب كإشارة إلى سلطة الدين عموماً وليس للمسيحية فقط. وعبر هذا الصراع مرر رؤاه حول ما يحدث من استخدام الدين كذريعة لرفض العلم واتهامه بالهرطقة، أو لي يد العلم لإثبات الدين، وأيضاً استخدام الدين ذريعة للتواكل، فالقس عندما ضاع حفيده اكتفى بأن قام ليصلي ولم يذهب للبحث عنه!

كذلك أحال عبر الأحداث إلى استخدام الدين في تخدير الشعوب، لا سيما من قبل الحكام الذين يصدرون لشعوبهم كل ما يوحي بأنهم كلمة الله على الأرض لتكون طاعتهم واجبة مهما أرادوا. أما صورة رجل الدين في الرواية، فكانت ترسخ للفوقية والغطرسة والنفاق والازدواجية في القول والفعل، "يتحدث على المنبر عن الزهد، بينما هو في البيت يأخذ أكبر قطعتي لحم في طبقيه" ص 166.

استمر الكاتب في تمرير رؤاه التي بث عبرها انتقاداته الضمنية للواقع، فانتقد الفلاسفة المنفصلين عن واقعهم ولا يرددون إلا ما يصعب فهمه. وانتقد الحارس الجاهل الذي يتصرف بسلطوية حمقاء. وانتقد المعارضة التي لا هدف حقيقي لها سوى مستقبلها السياسي. وانتقد الشعوب التي تسلم عقولها لمن يتلاعبون بها... "عليك أن تنافق الشعب يا مولاي، نافق كما يفعل والدك، الشعب نافقه، نافق الشعب المؤمن بالسماء، وكن له حاكماً ابن سماء. هذا لكي يرتاح الشعب ويتركك تفعل فيه ما تشاء" ص 167.

الحب وأوهام البطولة

بالسخرية ذاتها التي انتهجها الكاتب في سرده تسلل إلى سيكولوجية الرجل والمرأة. وطرق دوافعهما للوقوع في الحب فـ "طفو" متقلب المشاعر سريع الوقوع في الحب، ولا يحتكم لعقل ولا منطق، حتى إنه وقع في حب المنجمة القبيحة والمخيفة لمجرد أنها تعرف كل شيء عنه. أما شخصية "زوزو"، فكانت الجسر الذي عبر فوقه إلى سيكولوجية المرأة التي لو أحبت أنكرت، وإن رغبت تمنعت، وإن كانت على صفة جاءت بعكسها. واستخدم الكاتب حضور الراوي والقارئ ضمن شخوص النص ليمرر رؤى مباشرة ويعبر عنها صراحة وليس ضمناً واستطاع أن يخلق لها مناخاً سردياً مناسباً، نفى عنها فجاجة المباشرة: "لما لمس يدها وشعر بدفء كفها، كانت اللمسة كالسحر. أنظر يا عزيزي القارئ وإن كنت ذكراً أنظر بتركيز أكبر، في استراحة القصر لمس ولي العهد الحاكم ابن السماء فخذي كاتو كلتيهما أثناء نومها... لكنه لم يشعر بدفئها ولا برجفة في جسده إلا عندما مدت كاتو يدها ولمسته بإرادتها" ص 170. وعلى رغم ما لعبه الحب من دور في إضفاء ظلال رومانسية على السرد، فإنه كان بالأساس معبراً سلكه الكاتب ليفضح الغباء والحمق، وليرصد عبره أوهام البطولة التي تمنح أصحابها شقاء أبدياً، تلك الأوهام التي إن تشدها تشد، تمطها تمط، تتركها تعود كما كانت!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة