Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما الذي دار بين فرويد والموسيقي ماهلر خلال لقائهما الوحيد؟

4 ساعات من الاستشارة النفسية في شوارع مدينة تكاد تخلو من سكانها

غوستاف (1860 – 1911) وآلما ماهلر (1879 – 1964) (غيتي)

خلال السنوات الأخيرة من حياته بين 1908 و1911 كان موسيقي فيينا الكبير غوستاف ماهلر على شفير الهاوية، من الناحية النفسية على الأقل. فالمخاوف الصحية تستبد به و"هوس الرعب من السيمفونية التاسعة" يكاد يدمره، وزوجته آلما ماهلر تسيمه كل أنواع العذاب والقهر قالبة حياته جحيماً ليس فقط من جراء علاقاتها التي لا تنتهي، بل لأنها تتهمه بأنه يدمر مواهبها الموسيقية مانعاً إياها من التلحين طالباً منها أن تكتفي بـ"شغل البيت" واستقبال الضيوف. وكان هوس الرعب من كتابة السيمفونية التاسعة، التي قضت على بيتهوفن وبروكنر وغيرهما من دون أن يلحناها لعنة خفية لم يدرك أحد سرها، أصعب ما يمر به الرجل إلى درجة أنه حوّل ما كان بدأه كسيمفونية تاسعة إلى لحن طويل لقصائد "الأرض" منتقلاً بعد ذلك إلى "السيمفونية العاشرة" مباشرة. وهكذا أمام تلك الوضعية لم يجد ماهلر أمامه إلا أن يستشير الدكتور سيغموند فرويد لعل يجد الحل عنده. وهكذا بالفعل بعث ماهلر وكان مقيماً في منطقة التيرول حينها، برقية تلقاها الدكتور فرويد صيف العام 1908 يسأله فيها تحديد موعد استشارة له. والحقيقة أن فرويد لم يسرّ بتلك البرقية فهو كان يستعد لأن يمضي إجازة صيفية بعد حقبة تعب ممضّ وليس من عادته أن يعطي أية مواعيد خلال الإجازات. لكنه لم يكن بقادر على أن يرفض مثل ذلك الطلب يأتيه من مواطنه الفنان الكبير. وهكذا في وقت كان يملي فيه برقية جوابية تحمل الموافقة، وردته من ماهلر برقية أخرى تطلب إلغاء الموعد وهنا ما ارتاح سيد التحليل النفسي لذلك الطلب الجديد حتى بعث إليه ماهلر ببرقية أخرى تجدد الطلب تلتها برقيتان أخريان تناقضانها ورابعة وخامسة تتأرجحان. وفي النهاية كان لا بد لماهلر من أن يذعن لناصحيه الملحّين ومن بينهم طبيب من فيينا قريب لزوجته كان الأكثر إلحاحاً في الضغط عليه. وهكذا تم اللقاء ولكن ليس في عيادة فرويد في فيينا، بل في بلدة صغيرة تدعى لييد.

4 ساعات من الحكي

بشكل عام يقال إن أحداً لا يعرف على وجه التحديد ما الذي دار من حديث بين فرويد وماهلر لكن الكل يعرف أنه استغرق بينهما نحو أربع ساعات كاملة كان الرجلان يتمشيان خلالها في شوارع البلدة الخالية من السكان تقريباً والهادئة بشكل استثنائي. وهذا الجهل بما جرى بين فرويد وموسيقاره المفضل كما سيقول، استشرى إلى درجة أن ركز عليه فيلم ألماني حقق قبل سنوات قليلة متناولاً السنوات الأخيرة من حياة ماهلر. فيما اكتفى كاتبو سيرة ماهلر بالقول إن فرويد قد نصح ماهلر بأن يتساهل مع زوجته آلما ويشجعها على التلحين بدلاً من "قمع مواهبها"، وهو قمع سيقول فرويد إنه قد أضر بغوستاف ماهلر ونشاطه الموسيقي بقدر ما جعل آلما نفسها تشعر بأنه قد أفسد حياتها. وتقول هذه الصيغة من الحكاية أن ماهلر قد قبل نصيحة محلله النفسي وبدأ منذ ذلك الحين يشجع آلما بشكل إيجابي على كتابة الموسيقى التي تريد، بل إنه ولّف ووزع بعض ألحان لها ونشرها بين الناس وهي في المقابل ارتاحت لذلك الحل ورضيت بأن تبقى مع غوستاف حتى وإن كانت قد أبقت في الوقت نفسه على علاقتها بالمعماري والتر غروبيوس الذي سوف تتزوجه لاحقاً بعد سنوات من موت ماهلر، لتعود وتطلقه لتقترن بالكاتب فرانز فرفل وسط علاقات لا تعد ولا تحصى، من المؤكد أنها كانت ما يدمر ماهلر خلال سنواته الأخيرة. والحقيقة أن الفيلم الألماني الذي ذكرناه يروي ذلك كله. لكنه كما أشرنا لم يرو ما هو جوهري في الحكاية التي نرويها هنا: حكاية اللقاء بين فرويد وماهلر.

 

جونز والصيغة "الحقيقية"

والحقيقة أن هذه الحكاية التي "يجهلها" الفيلم نجدها مروية بشكل موسع إلى حد ما في السيرة الشهيرة واللاحقة التي كتبها إرنست جونز لفرويد وتعتبر منذ صدورها في أواسط سنوات الخمسين من أشهر المراجع المعتمدة عن حياة "الهر بروفسور" الشهير. ففي ما يرويه جونز نجد نفس المقدمات المعروفة من حكاية البرقيات المتناقضة وتردد ماهلر والانتهاء به وبفرويد إلى ذلك اللقاء في البلدة الوديعة التي تحدثنا عنها. بيد أن جونز يستفيض هنا في الغوص ببعض التفاصيل، حتى وإن كان من المستحيل على غوصه هذا أن يغطي أحاديث دامت نحو 4 ساعات بالطبع. وينطلق جونز في روايته من إخبارنا بأن فرويد وإزاء تردد ماهلر بعث إليه قائلاً إنه إن كان حقاً راغباً في الالتقاء به ليس أمامه لفعل ذلك سوى فرصة واحدة وهي أن يتم اللقاء قبل حلول نهاية شهر أغسطس (آب)، بالنظر إلى أن البروفسور يخطط للتوجه بعد ذلك إلى صقلية ما سيجعل لقاءهما مستحيلاً. ورضح ماهلر للتحذير وجرى اللقاء بالفعل كما أسلفنا. وكانت ذروته، في رأي جونز، تلك الجولة الطويلة التي شهدت واحدة من أغرب "جلسات" التحليل النفسي. ولسوف يقول فرويد لاحقاً بأن ما أدهشه هو أن ماهلر الذي لم يكن يعرف أي شيء عن التحليل النفسي، "كان واحداً من أكثر الأشخاص الذين قابلتهم في حياتي تفهما لهذه الممارسة وتعمقاً في إبداء ردود فعل عليها". أما ماهلر فسينقل عنه جونز أنه تأثر بشكل كبير بملاحظة أبداها له فرويد خلال الحديث، إذ قال له هذا الأخير: "يمكنني أن أتصور أن والدتك كانت تدعى ماري. فثمة بعض العبارات التي تفوهت بها خلال حديثنا تدفعني إلى هذا الافتراض. بالتالي أتساءل كيف حدث أنك إنما اقترنت بامرأة تحمل اسم علم مختلفاً هو آلما، طالما أن والدتك لعبت في حياتك دوراً أساسياً...". وهنا، بحسب جونز، أخبر ماهلر فرويد بأن زوجته تسمى في الحقيقة آلما ماريا لكنه هو يدعوها ماري. وأنها ابنة رسام شهير يدعى شيندلر له تمثال منصوب في إحدى حدائق فيينا. ومن المطابقات اللافتة هنا أن كلمة "ماهلر" تعني "رسّام" كما لاحظ فرويد!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقاء للتهدئة والصلح

مهما يكن من أمر، يخبرنا جونز هنا أن ذلك اللقاء سوف يكون له أثره الكبير في تهدئة هواجس ماهلر ولو لشهور عدة أخرى من حياته إذ إنه لن يلبث أن يرحل عن عالمنا وبالكاد كانت آلما قد بدأت تستعيد اهتمامها بموسيقاها تحت رعايته. ويضيف جونز هنا أن ماهلر قد أخبر فرويد خلال تلك الجولة "التحليلنفسية" بأنه قد فهم أخيراً السبب في أن موسيقاه تظل متفاوتة النسغ حيث تمر لحظات كثيرة رائعة ثم على الفور تحل لحظات هابطة بشكل مرعب حتى ولو كانت الموسيقى التي تحملها لا تخلو من متعة خفيفة على أية حال. ولقد شرح فرويد لمحدثه بعدما أصغى إليه يتحدث عن وحشية تعامل أبيه معه ومع أمه – أي أم غوستاف – وكيف أن الفتى كان في تلك اللحظات يغادر البيت حزيناً إلى أزقة غالباً ما كان يطالعه فيها عازف أرغن جوال يعزف ألحاناً شعبية خفيفة. ويقول فرويد إن تلك الألحان التي كانت تشكل نوعاً من خلاص للفتى الذي كانه الموسيقي الكبير، هي التي راح لاحقاً يستعيدها وقد ألحت عليه في الوقت الذي كان يؤلف ألحانه الكبرى فيوردها بشكل غير واع بوصفها لحظات موسيقية تقطع العمق الدرامي للحظاته الموسيقية الكبرى. ثم يكتشف "ضحالتها" حين يروح مصغياً إلى أعماله حين تعزف لكنه يكون عادة ضنيناً باستبعادها لكونها تمثل بالنسبة إليه تلك اللحظات التي تقطع حزنه! ما يعني أن نقاط الفصل بين موسيقى ماهلر الكبيرة وتلك الموسيقى الخفيفة باتت ضرورية بالنسبة إليه إلى درجة أنها ثبتت في كينونته النفسية والفنية على قدم المساواة. ويقول جونز إن هذا التحليل بدا يومها مذهلاً لماهلر بقدر ما بدا له مذهلاً أيضاً ذاك التحليل الآخر المتعلق باسم الأم وعلاقة اسم آلما ماهلر به!

المزيد من ثقافة