Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مسرح البولشوي الروسي... بين الحرب والسياسة قد يضيع الفن

شهرته العالمية سلطت الأضواء على مواقف ممثليه من "سياسات بوتين" وإدارته ألغت عروضاً مهمة بسبب انسحاب بعضهم

مسرح البولشوي أرجأ العرض الأول لباليه "فن الفوج" لمصمم الرقصات أليكسي راتمانسكي (أ ف ب)

لا يزال الجدل يتواصل حول مواقف الفنانين الروس والأدباء والشخصيات العامة ممن سارعوا إلى إعلان انتقاداتهم ورفضهم لـ"العملية العسكرية الروسية الخاصة" التي أعلنها الرئيس فلاديمير بوتين في 24 فبراير (شباط) الماضي، وعلى الرغم من أن ما تناثر من إدانة وشجب لمواقف كثر من هؤلاء الفنانين وما أعقب ذلك من رحيل بعضهم إلى الخارج، يظل الأمر ظاهرة لا تقتصر على الزمان والمكان بمعنى أنها ليست قاصرة على روسيا وحدها فما شهدته وتشهده موسكو من "صراعات" حول هذه القضية يظل محور اهتمام كثيرين داخل روسيا وخارجها.

ويأتي مسرح البولشوي بكل ما يملكه من تاريخ ومكانة دولية مرموقة ليضفي على الموقف "مذاقاً خاصاً" يتجاوز حدوده ويدفعه إلى سياق "الحدث السياسي"، فالبولشوي ومنذ نشأته في نهايات القرن الـ18 ظل من موقعه على مقربة مباشرة من الكرملين والميدان الأحمر في قلب العاصمة الروسية يتسم بمكانة خاصة لدى النخب التي لطالما حددت كثيراً من سياسات الدولة ومواقفها.

كما أن هذا المسرح الذي استمد اسمه "بولشوي" وتعني العبارة بالروسية "الكبير" تميزاً وتمييزاً له عن مسرح "مالي" المجاور له وتعني الصغير، يظل يفرض نفسه على كثير من أحداث العصر انطلاقاً من كونه أحد أهم معالم ليس فقط العاصمة موسكو، بل وكل روسيا بما تملكه من تراث فني عريق ارتبط في كثير من جوانبه بتاريخ الإمبراطورية الروسية وحكامها من أفراد عائلة رومانوف.

وبعيداً من الخوض في التاريخ الفني لهذا المسرح العريق وهو ما ذاع صيته وطبقت شهرته الآفاق نشير إلى أنه لطالما ارتبط أيضاً بأهم ما عاشته وتعيشه روسيا من أحداث المبهج منها والحزين، فبين جنباته جرى تسجيل كثير من مراحل تطور الدولة منذ ظهور عائلة رومانوف حتى اندلاع ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الاشتراكية عام 1917 وما أعقبها من إعلان قيام الاتحاد السوفياتي عام 1922 وذلك قبل أن يعود البولشوي ثانية ليشهد تقاطر رموز الفن والثقافة في مطلع تسعينيات القرن الماضي في سباق غير نزيه للإعلان عن مباركتهم وتأييدهم لنظام الرئيس الأسبق بوريس يلتسين على أنقاض الاتحاد السوفياتي السابق، قبل أن يعودوا وينقلبوا عليه بسبب ما ارتكب من خطايا وأخطاء.

ومن هنا نشير إلى أهمية كل ما ارتبط ويرتبط بمسرح البولشوي من مواقف صغيرة كانت أو كبيرة ومنها ما أعلنه عدد من فنانيه سواء الدائمين أو المنتسبين خلال الأشهر القليلة الماضية حول مواقفهم من "العملية العسكرية الروسية الخاصة" في منطقة دونباس وما حولها.

وبغض النظر عما تتسم به هذه المواقف من معان ودلالات فإن ذلك لا ينفي حقيقة أن ردود الأفعال تجاه استقالة أو رحيل هذا النجم أو ذاك تظل مرتبطة بقدر أكبر بما يحظى به من شهرة وجماهيرية على الصعيدين المحلي والدولي، أينما كانت الجهة أو المؤسسة التي ينتمي إليها وذلك يعني أن الاستقالة التي سارع إلى تقديمها مخرج مسرح البولشوي ألكسندر مولوتشنيكوف حظيت باهتمام متفرد وأبعاد عالمية لكون صاحبها يرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بهذا المسرح العريق.

إلغاء عروض

وكانت إدارة مسرح البولشوي أعلنت إلغاء ما سبق وأخرجه مولوتشنيكوف من أعمال أهمها أوبرا "فرانشيسكا دا ريميني" لسيرغي رحمانينوف و"مأساة فلورنتين" لألكسندر فون زيملينسكي، وعلى الرغم من أهمية ذلك وما تمثله هذه الواقعة من دلالات محلية وعالمية، فإن الداخل الروسي توقف أكثر عند رحيل الفنان الساخر ماكسيم غالكين إلى إسرائيل مع زوجته آلا بوغاتشوفا المغنية السوفياتية-الروسية التي تكبره بما يقرب من 30 سنة، وها هي موسكو تعود ثانية لتلوك سيرة بوغاتشوفا بعدما عادت إلى الوطن من دون زوجها الذي صدرت بحقه قرارات تدرجه ضمن "قائمة عملاء التأثير الأجنبي" ممن يخضعون لقيود الرقابة من جانب وزارة العدل وأجهزة أخرى بموجب القانون الصادر بهذا الشأن وهو ما يغطي على ما عداه من أخبار فناني "البولشوي" وغيره من المؤسسات الثقافية والفنية.

وكانت موسكو شهدت سلسلة استقالات من جانب كثيرين من مشاهير الفنانين الذين ينتمي بعضهم إلى جنسيات أخرى ومنها ليتوانيا ولاتفيا وأوكرانيا ممن ارتبطت شهرتهم وأعمالهم بموسكو منذ أعوام الاتحاد السوفياتي السابق، فضلاً عن ارتباط فنانين روس بعواصم بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة ومنها بلدان البلطيق التي استقطبت عدداً لا بأس به منهم بسبب ما يحصلون عليه من امتيازات الإقامة وتأشيرات "شنغن" بعد انضمام هذه البلدان إلى الاتحاد الأوروبي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وثمة من يعزو اندفاع عدد لا بأس به، ليس فقط من الفنانين، بل من بسطاء المواطنين للانزلاق نحو قبول شروط البلدان الأوروبية ويتعلق معظمها بضرورة إدانة سياسات روسيا وزعيمها بوتين مقابل السماح لهم بالبقاء والعمل، إلى أن هؤلاء الروس يخشون ضياع ما اكتسبوه من مزايا وامتيازات واحتمالات إدراجهم ضمن قوائم العقوبات التي تفرضها السلطات الغربية والأميركية ضد كثيرين من مواطني روسيا من كبار رموز السياسة والاقتصاد والفن والثقافة، بما قد يسفر عن مصادرة ممتلكاتهم في بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مثلما حدث مع كثيرين من رموز الأوليغارشية الروسية.

ونشير إلى كثير من الأسماء العالمية مثل مغنية الأوبرا السوبرانو آنا نيتريبكو التي تحمل إلى جانب الجنسية الروسية الجنسية النمسوية والمقيمة منذ أعوام طويلة في فيينا إلى جانب ما تملكه من "شقق" فاخرة في نيويورك وغيرها من المدن الغربية تقيم فيها بشكل موقت حينما تقدم عروضها في المسارح العالمية، وعلى الرغم من تمسك نيتريبكو بعدم اهتمامها بالسياسة وقناعتها بعدم جواز إرغام الفنانين على إعلان مواقفهم السياسية وما ذكرته لجهة إدانة "الحرب" وما أبدته من أمانٍ بسرعة إحلال السلام في أوكرانيا، إلا أن مسارح كثيرة ومنها دار أوبرا "متروبوليتان" وأوبرا "لاسكالا" في ميلانو سارعت إلى إلغاء تعاقداتها معها، وذلك موقف مشابه لما فعلته ألمانيا مع المايسترو العالمي فاليري غيرغيف الذي كان حاسماً وصارماً في رفضه لأية شروط سياسية معلناً رفضه الإدلاء بأية تصريحات تتسم بشبهة إدانة أو رفض لسياسات روسيا وزعيمها فلاديمير بوتين وسارع بالرحيل عائداً إلى الوطن لمواصلة عمله كمدير فني وقائد لأوركسترا مسرح "مارينسكي" في سان بطرسبورغ، ثاني أكبر المسارح الروسية بعد "البولشوي" في موسكو وأحد أشهر المسارح العالمية.

عملاء التأثير الأجنبي

ونعود إلى البولشوي لنشير إلى أن ألكسندر مولوتشنيكوف المخرج المسرحي الذي بادر بإعلانه معارضته للحرب في أوكرانيا لم يكن ضمن قائمة المخرجين المعينين ضمن قوام العاملين في مسرح البولشوي، بحسب ما كشف عنه فلاديمير أورين المدير العام للمسرح الذي قال إن مولوتشنيكوف كان من المتعاقدين الموقتين لإخراج بعض العروض وأضاف أن قرار وقف التعامل معه جاء في أعقاب تصاعد معارضة عدد من أعضاء مجلس "الدوما" وتشكيل "مجموعة التحقيق في الأعمال المعادية لروسيا" في مجال الثقافة التي تولت إدراج أسماء عدد من الفنانين ضمن ما تسمى قائمة "عملاء التأثير الأجنبي" التي أقر مجلس "الدوما" تشكيلها اعتباراً من عام 2017 رداً على قائمة مماثلة كانت الولايات المتحدة بادرت بتشكيلها في وقت سابق.

ويقضي القانون الأميركي الصادر في هذا الشأن بإخضاع كثير من أجهزة الإعلام الروسية ومنها قناة "روسيا اليوم" ووكالة "سبوتنيك" للرقابة الصارمة المالية والإعلامية، بما يحتم عليها تقديم تقارير دورية عن أنشطتها المختلفة وهو ما أقرته روسيا ليس فقط بالنسبة إلى الصحافيين الأميركيين، بل وصار ينسحب على كل من تراه الأجهزة الروسية في غير وفاق مع القانون الروسي والسياسة الرسمية للدولة، ومن هذا المنظور جرى إدراج مولوتشنيكوف ضمن مجموعة الفنانين الذين بادروا بإعلان موقف مناقض لما أعلنته موسكو الرسمية من قرارات حول "الحرب".

وننقل عن وكالة أنباء "إنترفاكس" ما نشرته حول أن "مسرح البولشوي أرجأ إلى موعد لاحق العرض الأول لباليه (فن الفوج) لمصمم الرقصات أليكسي راتمانسكي بسبب الأحداث الجارية"، فضلاً عما أعلنه راتمانسكي من خلال الخدمة الصحافية للمسرح حول أنه "عندما يحين الوقت، فإنه يعرب عن أمله في أن يعود إلى موسكو لاستكمال هذا الإنتاج" ومن المعروف أن عائلة راتمانسكي تعيش في كييف.

وذكرت الخدمة الصحافية لمسرح البولشوي أن "هذا المشروع مهم جداً وتم إنجاز قسط كبير منه حتى الآن ونأمل أن نتمكن من استكمال تنفيذه في وقت لاحق"، وأضافت أنه كان من المقرر أن يكون العرض الأول في 30 مارس (آذار) الماضي وبيعت جميع التذاكر الخاصة به بالفعل. كما أشارت صحيفة "موسكوفسكي كومسوموليتس" إلى أن العرض الأول لـThe Pharaoh’s Daughter، "ابنة فرعون" من إخراج ماريوس بيتيبا الفرنسي ظل محل تساؤلات كثيرة إذ كان من المتوقع أن يباشر راتمانسكي العمل على إخراجه بعدما استغرقت عملية الإعداد لذلك ما يقرب من عامين.

ومن اللافت أن حركة الاستقالات التي شهدتها مسارح موسكو لم تتوقف عند الأسماء السابقة، بل وتجاوزتها إلى أسماء مخرجين "أجانب" آخرين كانوا وفدوا إلى موسكو بحكم علاقاتهم القديمة منذ سنوات الاتحاد السوفياتي السابق، لا سيما من بلدان البلطيق ومن هؤلاء كان مينداوغاس كارباوسكيس الذي كان بادر بتقديم استقالته من منصب المدير الفني لمسرح "ماياكوفسكي" وسلمها إلى دائرة الثقافة في مدينة موسكو وهي الاستقالة التي بادرت وزارة الثقافة بقبولها بموجب قانون العمل الروسي الذي ينص على وجوب إنهاء العقد معه في غضون أسبوعين.

كما تقدم المخرج الليتواني ريماس توميناس الذي كان يشغل هذا المنصب في مسرح "فاختانغوف"، أحد أهم وأقدم مسارح الدراما في العاصمة الروسية، باستقالة مماثلة وأفادت مصادر المسرح بأنه أقدم عليها بعدما تلقى اتصالاً هاتفياً من ابنته قالت خلاله إن وزير الثقافة الليتواني سيموناس كايريس يطالبه بذلك وليس فقط من مسرح "فاختانغوف"، لكن أيضاً من مسرح "مالي" الذي أسسه في فيلنيوس عاصمة ليتوانيا.

وننقل عن بوابة المعلومات الحقوقية التابعة للحكومة الروسية ما نشرته حول قرار ميخائيل ميشوستين رئيس الحكومة الروسية في شأن استبعاد المخرج المسرحي الليتواني ريماس توميناس من قائمة الفنانين المستحقين لجائزة الحكومة الروسية في مجال الثقافة. 

وفي سياق مماثل بدأ عدد من ممثلي الأوساط الإعلامية المعروفة بعلاقاتها الوثيقة مع الكرملين الترويج لحملات تنادي بإلغاء الألقاب وسحب الأوسمة التي حصل عليها الفنانون الذي اتخذوا مواقف مناوئة لسياسات الدولة وأقدموا على إدانة "العملية العسكرية الروسية الخاصة" بما قد يؤدي إلى الانزلاق لما لا تحمد عقباه.

المزيد من فنون