Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا لم تحقق هوليوود سيناريو فوكنر عن الجنرال ديغول؟

يوم تخيل صاحب "الصخب والعنف" القائد الفرنسي قديساً مقاوماً من الجنوب الأميركي

شارل ديغول المقاوم: صورة أميركية غير متوقعة (غيتي)

هناك بالتأكيد نوع من سوء الطالع يعتري العلاقات السينمائية الفرنسية - الأميركية، ولو على مستوى الكتابة وما يتعلق بالأسماء الكبرى في الأقل. وحسبنا للتمثيل على هذا أن نذكر مشروعين كان من المفترض أن يكونا كبيرين لكنهما لم يصلا إلى خواتيمهما السعيدة، بل بقي كل منهما عند حدود الكتابة، مشروع السيناريو الذي كتبه جان بول سارتر عن حياة سيغموند فرويد للمخرج الأميركي الكبير جون هستون خلال النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين، والسيناريو الذي كتبه ويليام فوكنر عن الجنرال الفرنسي شارل ديغول خلال الحرب العالمية الثانية، وكان من المفترض أن تنتجه استوديوهات وارنر ويخرجه هاوارد هاوكس الذي كان من كبار المعلمين الهوليووديين في تلك الأزمنة.

ولئن كنا نعرف كثيراً عن سيناريو فرويد الذي رفضه هستون غاضباً محققاً فيلمه عن سيناريو مختلف تماماً كتبه أميركي ليكتفي سارتر لاحقاً بنشره في كتاب، فإننا نعرف أقل كثيراً من ذلك عن "سيناريو ديغول" الذي بعد أن اختفى من التداول عقوداً طويلة عاد ليظهر على شكل كتاب ويكشف عن أنه كان من غير الممكن القبول به كنص من كتابة صاحب "الصخب والغضب" و"فيما أنا ممددة أحتضر" و"نور في أغسطس"، لسبب بسيط هو أنه لا يليق لا بديغول ولا طبعاً بفوكنر.

حماس ساذج

لقد كان من الواضح أن كاتب ولاية ميسيسيبي في الجنوب الأميركي، الذي كان حينها يتهيأ للفوز بجائزة "بوليتزر" استعداداً لاحقاً لنيل جائزة "نوبل"، والذي سيقر بعض كبار روائيي العالم وصولاً إلى ماركيز وبارغاس يوسا بأستاذيته لهم، كتب ذلك السيناريو على عجل انطلاقاً من حماس ساذج، ومن دون أن يكون عارفاً بشيء لا عن فرنسا ولا عن ديغول ولا عن التاريخ. كل ما في الأمر أنه كان في ذلك الحين مقيماً في باربانك بكاليفورنيا يحصل رزقه من خوض تجربة كتابة سينمائية لن يعلن رضاه عنها أبداً على رغم أنها ستتواصل طويلاً، بل أطول كثيراً مما تواصلت تجارب مماثلة خاضها في تلك الأزمنة بالذات (بين أواسط الثلاثينيات وأواسط الأربعينيات) زملاء له من كبار الكتاب الأميركيين والعالميين، من سكوت فيتزجيرالد إلى برتولد بريخت، ومن رايموند تشندلر إلى داشيل هاميت لكي لا نذكر سوى أشهر الأسماء. وهم جميعاً سيبدون نفورهم من تلك التجربة الهوليوودية لاحقاً، نادمين على خوضها مع استوديوهات كانت قد فوجئت بظهور السينما الناطقة فرأت أن من الأفضل أن "تعطي العيش لخبازه" وتعاقدت مع كتاب كبار ليشتغلوا وفق قوانينها فكانت من أتعس لحظات حياتهم.

 

لكن فوكنر كان محظوظاً أكثر من رفاقه على ما يبدو. ولا سيما إذ أتيح له أن يعمل مع المخرج هاوارد هاوكس، فكتب له عدداً من السيناريوهات من بينها "اليوم نعيش" و"طريق المجد" و"أن نملك أو لا نملك" و"السبات العميق"، بل إنه وبعد أن طلق هوليوود سيعود ويتعاون مع هاوكس في كتابة سيناريو "أرض الفراعنة" الذي صور عام 1955 في مصر.

ما يطلبه الهوليووديون

من هنا كان طبيعياً عام 1942 والحرب العالمية الثانية على أشدها أن يتحمس فوكنر وهاوكس معاً لتحقيق فيلم عن "بطل الساعة" وزعيم المقاومة الفرنسية شارل ديغول الذي كانت قد باتت له شعبية كبيرة في العالم وفي أميركا بصورة خاصة. وهكذا في وقت كان فيه فوكنر قد عقد العزم، أمام ما يطلبه منه الهوليووديون، على الهرب من عاصمة السينما تحت جنح الظلام ذات ليلة مضحياً بأن يطارده القضاء لإخلاله بعقوده، التقاه هاوكس وحدثه عن المشروع فلم يتردد، بل إنه لم يسأل نفسه حتى عما يعرف عن ديغول أو عن فرنسا. وربما كان السبب بسيطاً فهو، ومنذ كتب روايته "سارتوريس" حيث بدأ يربط أدبه بذلك الجنوب الخيالي الذي اخترعه وراح يخطط لأن يموضع فيه رواياته التالية أكثر وأكثر، آل على نفسه أن تدور رواياته التاريخية المقبلة حول مفاهيم البطولة والشرف ولا سيما منها تلك التي يعزز خوض الحروب من تألقها. ولقد رأينا ذلك ولو في ثنايا "سارتوريس" كما سنراه في نصوص تالية عدة له تدور معاً إما حول حرب الانفصال وإما حول الحرب العالمية الأولى. وفي تلك الأحوال جميعاً ستكون المعادلة بسيطة، الشمال الأميركي قد احتل الجنوب وفرض عليه حرباً غير متكافئة يحتاج الصمود فيها إلى قدرات بطولية ومآثر فردية وإلى أبطال مرسلين من السماء لقيادة المقاومة ضد المحتل.

التاريخ يعيد نفسه

من هنا وجد فوكنر موضوعه من دون كبير عناء متناسياً إنجازاته الأدبية الكبرى التي عانى كثيراً قبل أن يقبل الناشرون بها، وغضب هؤلاء كثيراً قبل أن يقبل القراء على قراءتها، وانتظر الأمر كثيراً قبل أن تصبح من ذرى الأدب العالمي. وهكذا في عام 1942 بكاليفورنيا، كان ويليام فوكنر راغباً في التمسك بأي أمل شرط أن يمكنه من التعبير عن أفكاره التبسيطية حول الحرب والبطولة والمقاومة. وهكذا تحقق له ما رغب به من خلال مشروع ديغول أو هكذا خيل إليه في الأقل. وكما قلنا تبدت له المعادلة بسيطة، بدل الشماليين الذي احتلوا جنوبه الأميركي هازمين الكونفيدراليين في حرب الانفصال، ها هم أولاء النازيون الألمان يطلون برأسهم ويهزمون الفرنسيين، وإذ كان جدوده العسكريون الشجعان قد قادوا المقاومة الجنوبية ضد الشمال فلا شك أن ديغول يمكنه أن يكون هنا وريثاً لهم كزعيم للمقاومة. والتاريخ يعيد نفسه، أليس كذلك؟ فما الحاجة إلى معرفة مزيد عن فرنسا وعن ديغول؟.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وراح فوكنر يكتب السيناريو مشيداً بما منحه من انتصارات للقائد الفرنسي المقاوم، كما راح يصور المجتمع الفرنسي من خلال حكاية شقيقين أحدهما مقاوم من أنصار ديغول، والثاني شرير متعاون مع النازيين. وفي هذه الحبكة من نافل القول إن ديغول إنما يوجد من خلال الآخرين سواء كانوا مناصرين له أو من أشرس أعدائه، لكن الصراع الحقيقي يدور داخل المجتمع الفرنسي نفسه، بل حتى نكون هنا أكثر وضوحاً داخل مجتمع الجنوب الأميركي الذي كان فوكنر يعرفه بشكل أفضل. وفي خضم ذلك كله لا شك أن ديغول لن يبدو لدى قراءة السيناريو، وطبعاً منذ نشر بالإنجليزية أولاً ثم مترجماً إلى الفرنسية بعد ذلك، لن يبدو أقل من شخصية روحية من المستحيل أن تكون لها علاقة بديغول الحقيقي.

مسيح معاصر

بشيء من الاختصار رسم فوكنر في هذا السيناريو فرنسا متخيلة من غير الممكن لمختار فرنسي حقيقي أو خباز حقيقي أو فلاحين فرنسيين حقيقيين أو نساء فرنسيات حقيقيات أن يتعرفوا فيها إلى أنفسهم ولا بالطبع يكتشفون كيف كانوا يعيشون في فرنسا المقاومة تحت الاحتلال الألماني. ولعل في إمكاننا هنا أن نتساءل عما كان سيبدو عليه رأي شارل ديغول نفسه وقد رسمه فوكنر في صورة مستقاة من السيد المسيح المقاوم هنا بدلاً من أن يدير خده الأيسر لمن ضربه على خده الأيمن، بل بالأحرى رسمتها له سينما هوليوودية معينة على شكل مشروع لم تتمكن هي نفسها من هضمه بالتالي من أفلمته. مشروع سيعلق عليه الناشر الفرنسي الذي أصدر كتاباً حول الموضوع والسيناريو بقوله "إن في مقدورنا أن نقول إن هذا النص إنما هو ابن هجين لنوع من اللقاء غير الخلاق بين الكيتش الهوليوودي المبتذل والموضوعات الفوكنرية، وهو ما يجعل من ديغول كما صوره قلم فوكنر طرفة أدبية". ويقيناً أن الفيلم كان سيبدو بدوره، لو أنه تحقق بالفعل، طرفة سينمائية.

كاتب كبير مع ذلك

ولم يكن ذلك طبعاً في صالح ويليام فوكنر (1897 – 1962) الذي لا شك أنه كان ويبقى، على رغم كل ما كاد يقترفه في حق السينما وحق ديغول، واحداً من كبار كتاب القرن العشرين ولا سيما بفضل رواياته المتموضعة في مسقط رأسه في ولاية ميسيسيبي الجنوبية الأميركية التي كان تحويله إياها إلى عالمه المتخيل، مدينة ياكناباتاوفا في مقاطعة لافاييت، مما سيلهم غابريال غارسيا ماركيز اختراع مدينة ماكوندو التي سيجعلها بدوره المكان الذي تدور فيه بعض أقوى رواياته ولا سيما منها "مئة عام من العزلة" التي سيعترف دائماً بما تدين به لفوكنر بـ"ديغول" أو من دونه.

المزيد من ثقافة