Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"شمسان على النيل" رواية سودانية عن الهوية المنفصمة

شخصيات عاطف سعيد عاجزة عن استعادة الماضي والتوجه إلى المستقبل

على ضفتي النيل في السودان (صفحة النيل - فيسبوك)

لطالما تجنبت الرواية العربية الغوص في المسكوت عنه واكتفت بالعوم على سطح الواقع إيثاراً لغنيمة السلامة وتجنباً لوجع الرأس في مجتمع محافظ ينطوي على كثير من الأسرار وتترتب على الإفشاء بها عواقب وخيمة. غير أننا بدأنا نشهد في الآونة الأخيرة محاولات روائية جريئة لاقتحام المسكوت عنه ونشر الأسرار المطوية بلا خوف من حسيب أو رقيب. ولعل رواية "شمسان على النيل" للروائي السوداني عاطف الحاج سعيد (دار نوفل) هي إحدى هذه المحاولات الجريئة.

وسعيد روائي وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي سوداني صدر له "عاصف يا بحر" 2016، و"ربيع وشتاء" 2019، و"نورس يهجره السرب" 2021. وفي هذه الروايات الثلاث يطرح أسئلة الهجرة واللجوء واضطرابات الهوية الجنسية والدينية والوطنية، مما يزخر به العالم المرجعي الذي يرجع إليه في هذه اللحظة التاريخية. على أن الرواية الأخيرة التي أصدرها في طبعة خاصة ومحدودة في عام 2021 هي نفسها "شمسان على النيل"، موضوع هذه العجالة. ولعل ما حدا به إلى تغيير العنوان على شعريته هو تمحور الأحداث حول شخصية ملتبسة الهوية الجنسية في تحولها الناقص من "شمس الدين" الذكر المزعوم في بداية الرواية إلى "شمس" الأنثى غير المكتملة في نهايتها، مما يجعلنا إزاء شمسين اثنتين، ويأتي الجار والمجرور "على النيل" لتحديد جغرافيا الرواية بشقيها السوداني والمصري. ومن هنا يأتي العنوان الجديد للرواية.

 أسئلة الرواية

 في روايته جديدة العنوان قديمة المتن يطرح سعيد سؤالاً محورياً، هو سؤال الهوية الجنسية واضطراباتها. وتحف به أسئلة أخرى تتعالق معه بشكل أو بآخر هي أسئلة الاستعمار والاستبداد والهجرة واللجوء. وهو يفعل ذلك من خلال الأحداث التي تعيشها الشخصية المحورية في الرواية والشخصيات الأخرى المتعالقة معها. ويرصد فيها التحولات المختلفة التي تخضع لها ولا تبلغ خواتيمها المنشودة، مما يجعل التحولات ناقصة والشخصيات معلقة والمسارات متعرجة والمصائر مفتوحة على شتى الاحتمالات.

 

الفضاء المكاني الذي تدور فيه الأحداث هو فضاء مديني ذو جذور ريفية يتوزع على مدينتي الخرطوم والقاهرة. والخلفية التاريخية لها تتراوح بين مرحلة الاستعمار البريطاني للسودان في الشق المتذكر من الرواية وعهد الرئيس الأسبق جعفر النميري في الشق المعيش منها، مما يجعل الأسئلة التي تطرحها تنتمي إلى مرحلة تاريخية سابقة، ولعل طرح سؤال الهوية الجنسية الملتبسة في تلك المرحلة المبكرة يمنح الرواية ريادة في المضمون من حيث شاء كاتبها ذلك أو لم يشأ. وفي هذا الفضاء المكاني وتلك الخلفية التاريخية يرصد سعيد اضطراب الهوية الجنسية في مجتمع محافظ يغرق في ذكوريته وبداوته وغيبياته، مما يفاقم من معاناة المضطرب جنسياً ويزيد من غربته الجسدية والنفسية والاجتماعية. وهو يفعل ذلك من خلال شخصية شمس الدين/ شمس الشخصية المحورية في الرواية، وتحولها الناقص من ذكر إلى أنثى.

الهوية المفقودة

منذ الطفولة تعيش هذه الشخصية التباساً جسدياً وانفصاماً بين روح الأنثى وجسد الذكر تغذي الأولى الجدة مريم ذات التاريخ الحافل بالتمرد على المواضعات والأعراف ويغذي الثاني الأب المتطلب الذي يضيق ذرعاً بميول شمس الدين الأنثوية ويريد منه أن يكون الذكر القوي في مجتمع ذكوري. وبين هذين الحدين تتنازع الشخصية ميول متضاربة ومشاعر متناقضة وتعيش اغتراباً عن الذات والمجتمع. وترغب في الصميم استعادة هويتها الأنثوية المفقودة، وتتخذ خطوات فعلية في هذا الاتجاه، ما يثير غضب الأب ويدفع به إلى التخلي عنها، ويثير ريبة المجتمع ويدفع به إلى إنكار حقها في التحول أو العودة للأصل. وهو ما يجر على الشخصية عواقب وخيمة تتراوح بين السخرية والتنمر والتحرش والرفض والغربة والعزلة والقطيعة والاغتصاب. ومع هذا تستمر الشخصية في خيار استعادة هويتها المفقودة، وتدفع ثمن هذا الخيار. وتكون الرواية هذه الرحلة المحفوفة بالمتاعب، بين شمس الدين/ الذكر وشمس/ الأنثى، في عالم مرجعي يرفض الظواهر الشاذة، ويعاقب أصحابها.

 

على رغم الاغتراب المركب الذي تعيشه الشخصية بفعل افتضاح هويتها الجنسية المضطربة، فإن مجرى الأحداث، سواء المتذكرة أو المعيشة يتمخض عن شخصيات أخرى تعاني المثلية الجنسية وتخفي هوياتها الحقيقية عن الآخرين، ولكنها ما تلبث أن تطفو على سطح الأحداث، بفعل الصدفة أو السببية الروائية، فالجدة مريم تكتشف بالصدفة مثلية الموظف البريطاني بيتر كلارك وتضبطه يتعاطى اللواط مع بستاني السراي عباس، والعم مختار يقوم باغتصاب شمس الدين ذات نهار حار من شهر مايو، ونصر الدين زوربا يقوم بتقبيله في حالة سكر، وهجو موسى يعبر عن رغبته فيه من دون مواربة، وسيد عبدالشافي يرغب من شمس أن تضاجعه بعد أن علم أن بين رجليها عضواً ذكرياً. وهكذا، لا تعود المثلية مجرد حالة فردية تقتصر على الشخصية المحورية في الرواية، بل تتعداها لتشمل الشخصيات الأخرى التي تخفي ميولها الجنسية، في إطار المسكوت عنه.

علاقات مختلفة

خلال رحلة الشخصية المحورية من شمس الدين الذكر إلى شمس الأنثى، وفي غمرة الاغتراب المركب الذي تعيش، الجسدي والنفسي والاجتماعي، تنخرط في علاقات عابرة أو قارة مع شخصيات أخرى تخفف من اغترابها بشكل أو بآخر، ففي الطفولة تأنس إلى عيسى الأمهق. وفي الصبا يحنو عليها العم مختار، لكنه حين يقوم باغتصابها ويهددها بعدم إفشاء الأمر تتحول علاقتها به إلى مجرد ذكرى أليمة. وفي المراهقة تطمئن إلى فرصة العمل التي منحها إياها سيد عبدالشافي وتنصرف عنه حين تكتشف نياته نحوها. وفي الشباب تنجذب إلى زميل الدراسة الجامعية نصر الدين زوربا، لكن انقطاعه المفاجئ عنها يحوله إلى ذكرى جميلة. وفي مرحلة لاحقة تقوم علاقة صداقة مع طلعت نبيل جرجس في القاهرة، وهو الباحث عن فرصة للتخفف من الشعور بالذنب بعد غدره برفاقه في سجن النميري، مما أدى إلى إعدام أحدهم والحكم على الآخرين، فيجد في شمس بغيته، ويفضي أحدهما إلى الآخر بما يعتمل في صدره.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على أن الشخصية الأكثر تخفيفاً لاغتراب شمس المركب هي شخصية الجدة مريم الشخصية الثانية في الرواية من حيث الحضور والأهمية، مع العلم أن حضورها في النص يتراوح بين الحضور غير المباشر، من خلال ذكريات الحفيدة عنها والحضور المباشر من خلال إسناد فعل الروي إليها، فتروي حكايتها التي تتمخض عن شخصية متمردة صلبة تعرف هدفها وتسعى إلى تحقيقه وتشكل عنصر دعم للشخصية المحورية تستمد منها القوة للاستمرار في خيار استعادة هويتها الجنسية المفقودة. على أن قيام الجدة بفعل الروي يندرج ضمن ما يقوم به الراوي الأصلي، ويدخل في تقنية الاحتواء التي يحتوي فيها الراوي الأصلي رواة فرعيين.

تحولات ناقصة

في رحلة التحول الجنسي التي تقوم بها الشخصية المحورية في الرواية تنتقل إلى القاهرة طلباً للعلاج، نزولاً عند مشورة النذير قسم الله، المعالج النفسي الذي تتعرف إليه في الكومونة، وتخضع للعلاج النفسي والهرموني ما يؤدي إلى تقدم كبير في تحقيق هدفها. غير أن الحاجة إلى عمل جراحي لا يتوافر في القاهرة، وتعذر السفر إلى الخارج لأسباب سياسية يحولان دون تحقق التحول الكامل أو استعادة الهوية المفقودة. وهنا تلتقي بطلة الرواية مع الآلاف من بني وطنها الهاربين من الاستبداد والباحثين عن فرصة أخرى تحت الشمس في تمنع مفوضية اللاجئين عن منحهم حق اللجوء إلى بلد أوروبي، وتطرح الرواية سؤال اللجوء بقوة.

في "شمسان على النيل" تتموضع الشخصيات بين ماض لا يمكنها العودة إليه ومستقبل لا تستطيع الوصول إليه على المستويين الفردي والجماعي. فعلى المستوى الأول الشخصية المحورية لم تعد شمس الدين ولم تصبح شمساً، والجدة مريم عالقة بين هويتها الضائعة وإنجليزيتها غير المعترف بها، وطلعت جرجس عالق بين العار الذي يلازمه وعجزه عن الانتحار، وبيتر كلارك عالق بين مثليته وأبوته المفقودة، والأستاذ كمال عالق بين الواقع الاستبدادي والحلم الاشتراكي. وعلى المستوى الثاني، يعلق اللاجئون بين وطن هربوا منه ويخشون العودة إليه وآخر يحلمون به ولا يستطيعون بلوغه. وهكذا نكون إزاء شخصيات معلقة وتحولات ناقصة ومسارات متعرجة ومصائر مفتوحة على شتى الاحتمالات. أليست هذه هي حالنا في العالم العربي؟    

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة