لا يعد "حجر رشيد" مجرد واحد من كنوز مصر القديمة التي توالى اكتشافها على مر العصور، لكنه كان مفتاحاً لحل لغز الكتابة المصرية القديمة، مما شكل تحولاً كبيراً في دراسة الحضارة المصرية وقراءة تلك الرموز الغامضة المنقوشة على جدران المعابد والمكتوبة على البرديات لآلاف السنين من دون أن يستطيع أحد اكتشاف معناها .
الحجر الذي يحمل اسم مدينة رشيد حيث تم اكتشافه فيها والمعروض حالياً في المتحف البريطاني بالعاصمة لندن يعد واحداً من أهم القطع الأثرية في العالم، وتمر هذا العام الذكرى الـ200 على استطاعة العالم الفرنسي الشهير جان شامبليون فك رموزه واكتشاف سر اللغة المصرية القديمة مما نتج عنه تأسيس علم المصريات الذي أصبح واحداً من أهم فروع العلوم التاريخية.
وحمل "حجر رشيد" نصوصاً لثلاث كتابات هي اللغة المصرية القديمة والهيراطيقية واليونانية القديمة، والمكتوب عليه يمثل مرسوماً ملكياً نقش عام 196 قبل الميلاد صدر في مدينة منف من الكهنة كرسالة شكر لبطليموس الخامس، والمقارنة بين الكتابات الثلاث مكنت من حل اللغز وفك شفرة الكتابة المصرية القديمة.
واحد من أهم الاكتشافات الأثرية في العالم
عن "حجر رشيد" وقيمته التاريخية يقول عالم الآثار المصرية، مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية حسين عبدالبصير لـ"اندبندنت عربية"، "يعتبر اكتشاف حجر رشيد واحداً من أهم الاكتشافات الأثرية في تاريخ الإنسانية، فمحاولات عدة جرت للكشف عن أسرار الحضارة المصرية لم تنجح إلا على يد الفرنسي جان فرانسوا شامبليون الذي قاد اكتشافه إلى تأسيس علم المصريات بشكل أكاديمي مما زاد من ولع الفرنسيين بالحضارة المصرية القديمة وجعله يمتد إلى العالم الغربي كله في ما عرف بالإيجيبتومانيا". ويضيف "نحت حجر رشيد من لوح حجري اختير من حجر عالي الجودة وقوي الصلابة هو الحجر الديوريتى الجرانيتي، ولهذا الحجر لونان هما الوردي والرمادي، ويبلغ طول الحجر نحو 112 سنتيمتراً وعرضه نحو 75 سنتيمتراً، وسمكه نحو 28 سنتيمتراً، ووزنه نحو 762 كيلوغراماً، ويحمل رقم 24 بالمتحف البريطاني ".
كيف خرج "حجر رشيد" من مصر؟
وعن قصة اكتشاف "حجر رشيد" وخروجه من مصر يقول عبدالبصير "اكتشف حجر رشيد الضابط الفرنسي بيير فرانسوا أكسافييه بوشار في 15 يوليو (تموز) 1799 أثناء قيام قواته بتوسعة قلعة جوليان (قلعة قايتباي الثانية من عصر المماليك الشراكسة) في مدينة رشيد في دلتا النيل، وأطلق عليه (حجر رشيد) نسبة إلى المدينة التي اكتشف بها، وتم إرساله إلى القائد الفرنسي الشهير نابليون بونابرت الذي أرسله بدوره إلى مقر المعهد العلمي المصري في القاهرة حتى يتمكن علماء الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801) من دراسته، ثم أخذه القائد مينو (جام فرانسوا مينو) إلى مقر إقامته في الإسكندرية، وقد كان القائد الإنجليزي نيلسون (هوراتيو نيلسون) حريصاً كل الحرص على الحصول على هذا الحجر النفيس من براثن الفرنسيين، على رغم أن عظمته وأهميته لم تكن اكتشفت بشكل كامل ". ويضيف "بعد اتفاق الجلاء عن مصر بين الفرنسيين والبريطانيين أو ما يعرف باتفاق العريش في عام 1801 صادرت القوات البريطانية حجر رشيد وتم شحنه على إحدى السفن البريطانية إلى لندن حيث وضع في مقر جمعية الآثار المصرية هناك، ومثل الحصول على حجر رشيد مفخرة للإنجليز بعد انتصارهم المدوي على الفرنسيين على حواف الأرض المصرية بالقرب من البحر المتوسط، ودخل هذا الحجر إلى المتحف البريطاني في نهايات عام 1802 بعد أن أهداه ملك المملكة المتحدة جورج الثالث للمتحف البريطاني، ومن الجدير بالذكر أنه بين عامي 2010 و2011 تم عرض حجر رشيد من قبل المتحف البريطاني وهيئة الإذاعة البريطانية ضمن معرض تاريخ العالم في مئة قطعة".
الآثار المصرية المعروضة بالخارج
دائماً ما كانت قضية الآثار المصرية المعروضة في متاحف عالمية إضافة إلى القطع الأثرية الموجودة خارج مصر بطرق غير مشروعة تثير سجالاً وتفتح نقاشاً حول استعادتها ومدى أحقية الدول أو الهيئات أو حتى الأشخاص الذين يمتلكونها في حيازتها. ومع مرور السنوات حدث كثير من التطورات حول القوانين المتعلقة بهذا الأمر، فمنذ سنوات طويلة كانت تجارة الآثار مشروعة وخرج عديد من القطع الأثرية بهذا الشكل سواء في مصر أو غيرها، وفي حالات أخرى في مراحل لاحقة سرقت قطع أثرية أو خرجت بشكل غير مشروع من البلاد بطرق ووسائل مختلفة.
ومع تنامي الاهتمام بهذا الأمر من قبل الدول بدأ ظهور قوانين للحد من سرقة الآثار وتداولها بشكل غير مشروع، ويعتبر أشهرها اتفاق "اليونسكو" الموقع عام 1972 الذي نتج عنه أن أي قطعة أثرية تمت سرقتها أو تهريبها أو تداولها بأي شكل غير مشروع من بعد هذا العام تتم إعادتها للدولة التي سرقت منها، إلا أنها لا تتضمن القطع الأثرية التي خرجت إلى دول أخرى قبل هذا التاريخ .
فعاليات بالتواكب مع الحدث
وبالتواكب مع الاحتفال بفك رموز الكتابة المصرية القديمة من خلال فعاليات متعددة تنظمها وزارة الآثار يعرض المتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط نسخة من "حجر رشيد" إضافة إلى عديد من الفعاليات المتنوعة ما بين تراثية وثقافية وتعليمية لزائري المتحف من مختلف الفئات العمرية، في إطار الاحتفال بمرور 200 عام على فك رموز الكتابة المصرية القديمة ونشأة علم المصريات للتعريف بـ"حجر رشيد" وأهميته وإلقاء الضوء عليه لزوار المتحف من المصريين والأجانب على السواء.
وكان ميسرة عبدالله نائب رئيس هيئة المتحف للشؤون الأثرية قد أوضح في بيان صحافي أن المتحف يعرض حالياً وللمرة الأولى نسخة طبق الأصل من "حجر رشيد" لإتاحة الفرصة لزائري المتحف للتعرف إلى قصة اكتشافه، والقيمة الأثرية والتاريخية للحجر كأحد المفاتيح الرئيسة التي ساعدت على فك رموز اللغة المصرية القديمة ونشأة علم الآثار المصرية.
حملات للمطالبة بإعادة "حجر رشيد"
ولزمن طويل توالت المطالبات باستعادة الآثار المصرية من الخارج بأشكال مختلفة، وفي السنوات الأخيرة نجحت مصر في استعادة عدد من القطع الأثرية من أماكن متفرقة من العالم بفضل الجهود المكثفة التي توليها لهذا الأمر، وفي الفترة الأخيرة وبالتواكب مع مرور 200 عام على فك رموز الكتابة الهيروغليفية من طريق "حجر رشيد" خرجت حملات عدة تدعو إلى المطالبة بعودته لمصر بخاصة مع قرب افتتاح المتحف المصري الكبير الذي سيكون واحداً من أهم المتاحف في العالم، وقد أطلق عالم الآثار الشهير زاهي حواس حملة تتضمن عريضة يتم توجيهها للمتحف البريطاني ومتاحف أوروبية للمطالبة بعودة "حجر رشيد" يوقع عليها كثيرون من المهتمين بالآثار والتراث من المصريين والأجانب على السواء .
وأطلق الأثري والمرشد السياحي بسام الشماع حملة أخرى من خلال صفحته على الإنترنت داعياً المصريين إلى إرسال رسائل للمتحف البريطاني تحت عنوان "أعيدوا إلينا حجر رشيد"، في دلالة على أن للمطلب بعداً شعبياً من المصريين وأن الأمر لا يقتصر على التحركات الرسمية من الأثريين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحملة أخرى تبنتها الأثرية والأكاديمية مونيكا حنا عميدة كلية الآثار والتراث الحضاري بأسوان بجمع توقيعات توجه لرئيس الوزراء المصري لتقديم طلب رسمي بناء على رغبة الشعب المصري لاسترداد "حجر رشيد" والـ16 قطعة الأخرى التي خرجت معه، مستندة إلى بعض الأسانيد الجديرة بالانتباه، وبالفعل تم إطلاق موقع يتضمن تاريخ "حجر رشيد" ومعلومات متكاملة إضافة إلى إمكانية التوقيع على العريضة المطروحة.
وتقول مونيكا حنا "خروج حجر رشيد وهذه القطع استند إلى مواد استسلام الإسكندرية (1801)، وهي معاهدة تم التفاوض عليها وتوقيعها من قبل القوات العثمانية والفرنسية والإنجليزية، وبموجبها تم تسليم حجر رشيد من قبل الفرنسيين إلى الجيش المشترك الذي تكون من القوات الأنجلو-عثمانية، وبعدها استولى الجيش الإنجليزي على هذه القطع من دون التنازل عنها من قبل الجيش العثماني مما يجعل الموقف القانوني ملتبساً حيال هذا الأمر. وتضيف "لا يمكن تغيير التاريخ لكن يمكن تصحيحه، وعلى رغم انسحاب الحكم السياسي والعسكري والحكومي للإمبراطورية البريطانية من مصر منذ أكثر من قرن فإن إنهاء الاستعمار الثقافي لم ينته بعد، فإبقاء الآثار والتحف التي انتزعت عنوة من أماكنها الأصلية من طريق المعاهدات غير القانونية دليل على أن إنهاء الاستعمار الثقافي ليس قصة بسيطة من الماضي ولكنه قضية معاصرة تحتاج إلى معالجة وتصحيح ".
دعوة لتوحيد الجهود
وانطلاقاً من الحملات الثلاث دعا البعض إلى تنظيم حملة كبيرة وتوحيد هذه الجهود تحت مظلة واحدة والتنسيق والسعي إلى إقامة مؤتمر صحافي عالمي على أرض مصر للإعلان عن المطالبة بشكل رسمي بإعادة "حجر رشيد" إلى مصر وتسليط الضوء على أهم القطع الأثرية المعروضة في متاحف عالمية والدعوة إلى أن تتم المطالبة بعودتها هي الأخرى إلى مصر، فملف الآثار المصرية بالخارج لا ينتهي، والأمر يحتاج إلى مزيد من الجهد للعمل على استرداد أكبر قدر من كنوز مصر المنتشرة في متاحف العالم، والقطع الأثرية كافة التي خرجت من مصر بشكل غير مشروع.