Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الوصاية الأميركية الناعمة تقع في فخ "التقاليد البريطانية"

واجهت صحيفة "نيويورك تايمز" رد فعل عنيف من المملكة المتحدة لاستنكارها بذخ الجنازة الملكية

اجتذبت طقوس تشييع الملكة إليزابيث الثانية ملايين المشاهدات من مختلف دول العالم (غيتي)

تجاوز الاهتمام العالمي بوفاة الملكة إليزابيث الثانية ما كان متوقعاً، فعلى الرغم من كون الراحلة إحدى أشهر الشخصيات السياسية في العالم وأقدم حكامه، إلا أن حجم التغطية الدقيقة للجنازة الملكية لم يقتصر في حدود بريطانيا وتوابع التاج والنفوذ، بل تجاوزها حتى إلى المستعمرات التي ثارت ضد التاج البريطاني في حقبة سابقة.

هذا الاهتمام الذي بلغ حد الاحتفاء والتكريم استفز الصحافة الأميركية وهي تجد نفسها محاطة بصور العاهل البريطاني، وصلوات الكنائس، والأعلام التي تدلت حتى منتصف السواري في كل البلاد حداداً عليها، وضغط المتابعين الذي يتوقعون منها أن تبث لهم مسيرة التابوت والعائلة الملكية محاطة بجنود الشرف في شوارع أغلقت خصيصاً للاحتفاء بالملكة على الهواء مباشرةً.

إذ نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريراً استغربت فيه هذا الاحتفاء الباذخ لحاكم في القرن الـ21، واستنكرت "الهدر" الذي يمكن أن تسببه المناسبة في مثل هذه الظروف الاقتصادية في بريطانيا، وهو ما استفز البريطانيين الذين رأوا ذلك تقليلاً من كيان بات جزءاً من الثقافة البريطانية "الأسرة الملكية" لصالح مفاهيم رأسمالية.

"نيويورك تايمز" وأموال الضرائب

ما نشرته الصحيفة يعد سلوكاً معتاداً بالنسبة إلى الصحف الدولية في أميركا، إذ تحرص وسائل الإعلام الليبرالية في الولايات المتحدة على التعاطي مع قضايا العالم وفق قيمها (اليسارية غالباً) في الاقتصاد والسياسة وحقوق الإنسان.

ففي المضمر تناولت "نيويورك تايمز" في مقالتين التشييع من زاوية الامتياز الذي يناله من هم في السلطة، أما في الجلي فقد تناولت الكلفة العالية المتوقعة للطقوس الجنائزية الملكية "غير المعلنة" على الرغم من أنها تمول من جيوب دافعي الضرائب.

وبحسب تقرير صادر من مجلس العموم، فمن المتوقع أن تكلف الجنازة 945 ألف دولار، فيما ستمول الدولة طقوس تسجية الملكة وإدارة عملية توديع العامة لها خمسة ملايين دولار، إلا أن القصر لم يعلن بعد التكلفة الفعلية.

استثارت هذه الكلفة الصحيفة قائلةً "هذه التكلفة المرتفعة تأتي في وقت يعاني فيه البريطانيون من أسعار غير مسبوقة مع تجاوز التضخم 10 في المئة، في وقت يشعرون فيه بالقلق من عدم قدرتهم على دفع تكلفة التدفئة في الشتاء".

وبرر التقرير موقفه بأنه ينطلق من نقطة "الافتقار للشفافية" حين يتعلق الأمر بثروة العائلة المالكة التي تبلغ ثروتها 28 مليار دولار، والاستثناءات التي تحصل عليها مثل الإعفاء من ضريبة الميراث والمنح السيادية التي تستخدمها الأسرة في زياراتها ودفع رواتبها وتدبير القصر وتكاليف الأمن.

"نيويورك تايمز" تغذي الكراهية تجاه البريطانيين!

وعلى الرغم من أن المقالة الأولى التي نشرت يوم الأربعاء، بعنوان "دافعي الضرائب سيمولون جنازة الملكة" انطلقت من حجة الدفاع عن ضرائب المواطنين، إلا أن رد الفعل على المستوى الشعبي في مواقع التواصل الاجتماعي كان غاضباً.

إذ كتب جو آرميتاج، الصحافي في "ذي غارديان"، قائلاً "تتضاءل تكلفة جنازة رئيستنا إذا ما وضعناها في مقارنة مع ما سيتكبده دافعو الضرائب الأميركيون بسبب تكلفة رحلة بايدن لحضور عزاء الملكة، من مواكب وطائرات رئاسية ومروحياته و400 عميل للخدمة السرية جندوا للزيارة، إضافة إلى رحلة العودة التي لن تكون رخصية أيضاً".

فيما رد آخرون بشرح الكلفة الفعلية على دافعي الضرائب، إذ سيدفع كل فرد بريطاني 0.37 جنيهاً استريلينياً (0.43 سنتاً) فقط لتمويل الطقوس الجنائزية إذا ما كانت التكلفة الفعلية خمسة – ستة ملايين دولار كما أشيع.

وكتب دوغلاس موراي، في صحيفة "تلغراف" رداً على ما عده جزءاً من حملة تشنها الصحيفة لتغذية الكراهية تجاه البريطانيين "بشكل مهووس"، سرد بشكل مفصل حوادث ومنشورات استهدفت فيها الصحيفة البريطانيين عبر التقليل من ثقافتهم الاجتماعية، مضيفاً "وفقاً لما تنشره الصحيفة منذ 2016، فقد أظهرت أن بريطانيا عدو للنموذج الليبرالي العالمي الأميركي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقال إن الصحيفة تستهدف التقليل من الحراك في بريطانيا، "كان هذا واضحاً عندما ربطت توجه الناس للتصويت لصالح (بريكست) على أنه نتيجة لانتخاب ترمب في أميركا وليس لمفاعيل داخلية".

وأضاف "روجت (نيويورك تايمز) منذ (بريكست) بأن بريطانيا غارقة في حنين الماضي والعودة للغطرسة الاستعمارية والشوفينية الحالمة، واتهمتها أيضاً في مقال آخر بأنها قلب العنصرية".

ولم ترد الصحيفة على الحملة التي تعرضت لها في بريطانيا.

القوى الناعمة البريطانية تتسلل في غفلة أميركية

وعلى الرغم من الاستياء، أتبعت "نيويورك تايمز" مقالتها الأولى بأخرى تساءلت فيها "هل كانت إليزابيث تحكم أميركا؟"، استعرض كاتبها حضور وجهها في كل مكان، من شاشة ملعب لوس أنجليس الذي حمل وجهها الباسم في افتتاح دوري كرة القدم الأميركي، إلى إلزام المشجعين بدقيقة صمت قبل المباراة، وصولاً إلى قلاع الثورة الأميركية ضد الاستعمار البريطاني كـ"الكنيسة الشمالية" في بوسطن التي وضعت كتاباً للتعزية أمام زوارها.

وختم تعليقه "بعد أكثر من قرنين من إعلان الولايات المتحدة استقلالها عن التاج البريطاني، استحوذت العائلة المالكة على البلاد مرة أخرى".

واستعرضت الصحيفة شكلاً من القوى الناعمة البريطانية التي تنبهت لها، أسهمت على الأرجح في تشكيل وعي أميركي جديد تجاه المستعمر القديم، مثل أميرات ديزني وسنو وايت التي تعود جذور كثير من قصصها إلى أوروبا والمملكة المتحدة، ومآسي مسرحيات شكسبير الملكية، واحتلال المؤلفين الإنجليز ذوي كتابات نخبوية أمثال هيلاري مانتيل رفوف الأكثر مبيعاً، وأعمال تلفزيونية قوائم الأكثر مشاهدة في "نتفلكس" مثل مسلسل "ذا كراون".

وبث خطاب الملك الجديد، تشارلز الثالث، مباشرةً في القنوات والوكالات الإخبارية في أميركا، وذكرت شبكة "سي بي أس" أن حصلت على 2.5 مليون مشاهد يوم الخميس، و 2.8 مليون يوم الجمعة بفضل تغطية مستجدات وفاة الملكة، في حين رفضت بث خطاب تلفزيوني للرئيس بايدن قبل أسبوع، بحسب الصحيفة.

وحرص البريطانون على تقديم مراسم التشييع الباذخة للملكة التاريخية بصفته يعبر عن الثقافة البريطانية الأصيلة في زمن باتت المظاهر التقليدية لا تشاهد إلا في الأعمال السينمائية، عبر الأزياء والموسيقى والاستعراض الذي يشبه مناسبات القرون القديمة، واجتذب ذلك كثيراً من الزوار لمشاهدته فيما حضي العالم بتصديره إعلامياً، بما فيها أميركا التي استهلكته أكثر من أي شئ آخر، إذ لا يعد محتوى وفاة الملكة هو الأول الذي تخترق فيه الشاشة الأميركية بشكل فج من الخارج، ففي 2011 استيقظ الأميركيون باكراً لمشاهدة الأمير وليام يتبادل القبلات مع كايت، فيما حظي زواج هاري وميغان بـ29 مليون مشاهدة، أكثر ممن باتوا يشاهدون حفل الأوسكار أخيراً.

ولم يعتد الأميركيون استيراد الثقافة، وهم الذين روجوا لثقافة عالمية استهلاكية ونموذجاً قيمياً قائماً على قيم حديثة عبر الدراما والأفلام والمؤسسات غير الحكومية، والحكومية أيضاً، على حساب ثقافات تقليدية ما زالت بعضها على رغم كل هذا قادرة على أن تحشد العالم لمتابعتها بشغف واهتمام، ومن أموال دافعي الضرائب أيضاً.

المزيد من تقارير