فرت بعض القوات الروسية بعد إخراجها من منطقة خاركيف الأوكرانية وعادت أدراجها عبر الحدود، فيما انسحبت عناصر النخبة في فوج الدبابات المكلف تنفيذ الضربات الأولى على حلف الشمال الأطلسي (الناتو) والدفاع عن موسكو حتى دونيتسك. وقد سقط المعقل الرئيس للكرملين في الشمال الشرقي، واستعادت أوكرانيا السيطرة على الطريق المؤدي إلى دونباس.
أما القوات الروسية التي بقيت في الجبهتين الشرقية والجنوبية في أوكرانيا، فمحطمة أو "منهكة" بحسب التعبير العسكري، والمعنويات منخفضة. أدت المكاسب الكاسحة التي أحرزتها القوات الأوكرانية إلى استرجاع أكثر من ستة آلاف كيلومتر مربع (2300 ميل مربع) من الأراضي خلال 12 يوماً- أي ما يعادل أربعة أضعاف مساحة لندن الكبرى أو مساحة أكبر من الدنمارك، وفقاً لمقارنات مختلفة.
يتغير زمن الصراع ومجراه، وقد تكون بداية النهاية قد أزفت. ناشدت حكومة فولوديمير زيلينسكي الغرب أن يسرع في إمداد البلاد بالسلاح، كي يتسنى لها الحفاظ على زخم هجومها. وأشار مسؤولون أميركيون من جهتهم إلى محادثات جارية في شأن تزويد كييف بطائرات حربية، غير أن ذلك لن يحدث في القريب العاجل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما خصص الناتو أكثر من ثمانية مليارات دولار (6.9 مليار جنيه استرليني) للتجهيزات العسكرية لأوكرانيا، قدمت الولايات المتحدة 4.6 مليار منها. وأكد مسؤولون غربيون رفيعو المستوى شاركوا في مؤتمر عقد في كييف خلال عطلة نهاية الأسبوع أن عدداً من حكومات الناتو تجري مفاوضات مع المصنعين لكي يزيدوا إنتاجهم.
لا شك في أن وصول معدات مثل نظام راجمة الصواريخ عالية السرعة (هيمارس) ونظام راجمة الصواريخ المتعددة، قد غير شكل المعركة وأوقف تقدم الروس الذي بدا أنه من غير الممكن إيقافه في دونباس، شرق البلاد.
ولكن حتى باللجوء إلى أسلحة متقدمة، لن ينتهي الأمر سريعاً وسوف تبقى المرحلة المقبلة من استرجاع الأراضي المحتلة على نفس الحال من الدموية والقسوة، وليس من الضروري أن تحصل باتجاه واحد فقط.
منذ ثلاثة أشهر، مع دخول القوات الأوكرانية البلدات والمدن المحررة حديثاً في محيط خاركيف بعد أشهر من القصف، ساد جو من الفرح العارم المفهوم.
وقد تلقت إحدى الوحدات صوراً من زملاء وصلوا إلى الحدود الروسية، وانتشرت الصور على وسائل التواصل الاجتماعي. وشهد يوم الإثنين فورة حماس مشابهة مع إعلان الحكومة الأوكرانية وصول بعض قواتها إلى الحدود الشمالية الشرقية مع روسيا.
لكن الفريق الأول أوليكساندر سيرسكي قائد القوات البرية الأوكرانية، حذر منذ ثلاثة أشهر من المبالغة في التفاؤل. وأظهرت الضربات الروسية في بعض القرى المحررة، أثناء وجودنا فيها، أنهم لم يبتعدوا كثيراً. وعادوا في وقت لاحق إلى مسافة تسمح لهم بقصف خاركيف، وبدؤوا بضرب المدينة مجدداً.
والأسبوع الماضي، كان الفريق الأول سيرسكي في بلدة بلاكاليا التي استعيدت السيطرة عليها. وصرح أثناء رفع العلم الأوكراني في ساحة المدينة الرئيسة، بقوله، "ننهي اليوم تحرير بلاكاليا، أول مدينة كبيرة في هجومنا. وأنا على يقين من أنها لن تكون المدينة الأخيرة. أمامنا كوبيانسك وإيزيوم ومدن كثيرة غيرها".
بعد أيام قليلة، استرجعت كوبيانسك، وهي نقطة أساسية على طريق الإمداد الروسي يلتقي فيها عدد من خطوط سكك الحديد، وتبعتها إيزيون، المعقل العسكري الرئيس للروس على تلك الجبهة، وعلى الطريق إلى دونباس.
ويشاع أن الفريق الأول- وهي رتبة سوفياتية قديمة ألغتها أوكرانيا عامة، لكنها أبقت عليها لسيرسكي وحده- واثق أكثر بكثير هذه المرة من أن الروس لن يتمكنوا من العودة إلى إقليم خاركيف.
يخدم النقيب نيكولاي في فوج المشاة، وقد شارك في الهجوم المضاد السابق في خاركيف. وشعر ببعض الاختلافات هذه المرة. ويقول، "وجدنا مزيداً من العناصر من جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، وعدداً أقل من الروس، وكانوا على القدر المعتاد من سوء التدريب والتسلح".
"أسرنا عدداً لا بأس به منهم وكانوا بحال سيئة. قال بعضهم إنهم اقتيدوا من الشوارع والمتاجر إلى ساحات القتال. مهما كانت حقيقة هذه التصريحات، لم يرغبوا بالمجيء إلى هنا".
وأضاف عسكري آخر هو الملازم أوليكسي، "إجمالاً، كان عددهم أقل. ووجدنا أنهم يحاولون إخفاء عددهم الحقيقي في بعض المواقع، لكي يبينوا أنه أكبر من الواقع. عندما استولينا على المواقع، وجدنا أنه لا تنقصهم الأسلحة أو الذخيرة، ولكن عدد الجنود أقل مما توقعنا".
قال فيتالي غانشيف، مسؤول رفيع المستوى عينه الروس في إقليم خاركيف، إن القوات الأوكرانية فاقت الروسية عدداً بواقع ثمانية جنود لكل جندي خلال الهجوم المضاد، لكن المسؤولين الأوكرانيين ينفون أن يكون الفارق كبيراً لهذا الحد فيما يقرون بأن الروس نقلوا عدداً كبيراً من عناصرهم إلى الجنوب، رداً على هجوم آخر يشنه الأوكرانيون باتجاه مدينة خيرسون.
وزعم بعض المسؤولين الأوكرانيين، والغربيين بالنيابة عنهم، أن "عملية" خيرسون كانت خدعة هدفها تضليل الروس، بينما تلك التي استهدفت إيزيوم من خاركيف هي العملية الحقيقية منذ البداية.
لكن يبدو أن هذه المزاعم محاولة لاستغلال عدم الاستعداد الروسي إلى أقصى الدرجات، فقد قال أحد المسؤولين في الإدارة الرئاسية، "لا تدع أي أزمة روسية تذهب سدى، تسود درجة كبيرة من الاستياء في أوساط الجيش الروسي بسبب الأحداث. من نقص في التنظيم إلى نقص في المعلومات الاستخباراتية ونحن نحاول استغلال ذلك".
إن خيرسون عملية حقيقية فعلاً، لكن تقدم الأوكرانيين على تلك الجبهة بطيء. والحكومة تبعد الإعلام، الأوكراني والعالمي على حد سواء، عن الجبهة، لذلك كان من الصعب تقييم الوضع بشكل مستقل، لكن لا شك في أن المؤشرات على وجود خلافات في روسيا بسبب الأحداث الجارية في أوكرانيا في ازدياد، وقد أصبحت أكثر علانية.
في هذا السياق، قال المدون الأوكراني الموالي لروسيا يوري بودولياكا، الذي يتابعه 2.2 مليون شخص على "تيليغرام"، "علينا أن نكون صادقين، لقد تفوقت علينا القيادة الأوكرانية هنا" وقد حذر من "هزيمة نكراء في القتال" ما لم يتمكن الكرملين من "وقف الاختراق الأوكراني".
ومن جهته، أعلن المدون العسكري الروسي، ماكسيم فومين، أن القوات الروسية انهزمت. وقال، "إن الوضع شائك للغاية، فلنتنفس ونقل إننا هزمنا". وطالب فومين بفتح تحقيق في سبب عدم استعداد القوات الروسية الظاهر للهجوم الأوكراني، الذي أدى إلى وقوع هذه الكارثة.
ولا بد أن الكرملين قلق الآن بعد أن انقلب رمضان قديروف، الحليف المخلص، على القيادة الروسية على خلفية الهزيمة. وقال الزعيم الشيشاني، الذي يشارك الآلاف من مقاتليه في الحرب الأوكرانية، إن "الوضع الحقيقي" في الميدان "صاعق" وقد اتهم القيادة العسكرية بارتكاب أخطاء جسيمة.
كما أرسلت مجموعة مرتزقة فاغنر الروسية التي يديرها الأوليغارشي يفغيني بريغوزين، وهو أيضاً من حلفاء فلاديمير بوتين، هي الأخرى إلى أوكرانيا. وازدادت أعداد عناصر فاغنر هناك فيما يكابد الجيش الروسي الصعوبات لكي يستبدل الأعداد المتزايدة من القتلى والمصابين.
لكن فاغنر تتكبد هي الأخرى خسائر. الشهر الماضي، أصاب الأوكرانيون قاعدة المجموعة الأمامية في بوبازنا، وقتلوا عدداً كبيراً من المقاتلين، باستخدام منظومة هيمارس وتفيد بعض التقارير عن مواجهة المجموعة صعوبات في تجنيد عناصر للذهاب إلى أوكرانيا.
وقال متعاقد سابق مع فاغنر، قاتل في سوريا وليبيا إن أصدقاءه الموجودين في أوكرانيا يخبرونه بأنها مسألة وقت ليس إلا قبل أن تخترق الدفاعات الروسية.
وأشار مراد عثمانوف الذي يعيش الآن في إحدى دول آسيا الوسطى، "يعلم الجميع أن الوضع ضعيف جداً وكثيرون لا يريدون الذهاب إلى هناك. أخبرت بكل أنواع المشكلات، من نقص التنسيق والتخطيط إلى وجود جنود غير مدربين يشكلون خطراً على كل من عداهم. فكرت في أوكرانيا، وذهبت لكي ألقي نظرة في دونيتسك، لكنني لم أذهب في النهاية، ومن المؤكد أنني لن أذهب الآن".
"كما أن نوعية عمل (فاغنر) قد تدهورت، إذ إنهم يرسلون أشخاصاً دون المستوى. وقد أساء الروس تقدير الأوكرانيين الأفضل تدريباً وتسليحاً. مع اقتراب الشتاء، لن يكون لدى كثيرين في الجانب الروسي الملابس المناسبة ولا المعدات المناسبة أو الأسلحة المناسبة. سيتدهور وضعهم أكثر بعد".
© The Independent