Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل بات اقتصاد روسيا على شفير الهاوية؟

تتكبد موسكو مصاعب جمة في سعيها إلى توطيد حربها بأوكرانيا

(ورشة للمصنوعات المعدنية في مونشيغورسك، روسيا، فبراير 2021 إفغينيا نوفوجينينا (رويترز

في أبريل (نيسان) وبعد مجرد أسابيع من غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا، أكد الأخير أن الغرب لن يستطيع أبداً أن يخنق اقتصاد روسيا. فوابل العقوبات الأميركية والأوروبية لم ينجح وما كان لينجح في تركيع بلاده. وأبلغ مسؤولين في حكومته "بوسعنا أن نقول بكل ثقة إن هذه السياسة في التعامل مع روسيا فشلت. لقد فشلت استراتيجية الحرب الاقتصادية الصاعقة".

من الممكن توقع مواقف متحدية كهذه من بوتين وغيره من القادة الروس. لكن الآن، وبعد ستة أشهر من بداية الحرب وفرض العقوبات، يشكك عدد من المراقبين في ما إذا كانت العقوبات الغربية تسببت بالآثار القاسية التي وعد بها مهندسوها. قام مراقبون دوليون مثل صندوق النقد الدولي بمراجعة توقعاتهم للناتج المحلي الإجمالي الروسي، فزادتها بالمقارنة مع وقت سابق من هذا العالم. وبالمقارنة مع التوقعات الأولية التي تم التوصل إليها بعد فرض العقوبات مباشرة، كان أداء الاقتصاد الروسي أفضل من المتوقع ويرجع ذلك جزئياً إلى صنع السياسة الروسية التكنوقراطية الماهرة وجزئياً بسبب أسواق الطاقة العالمية الضيقة التي أبقت أسعار النفط والغاز مرتفعة.

لكن الأداء الاقتصادي المتفوق الخاص بروسيا يجب أن يوضع في سياقه الصحيح. توقعت قلة من المراقبين وواضعي السياسات أن تتسبب العقوبات في إحداث القدر الكافي من الألم لإرغام روسيا على الخروج من النزاع في غضون أشهر، لذلك فالحرب الروسية المستمرة لا ينبغي لها أن تكون مفاجئة. وعلى الرغم من هذا لا يزال الاقتصاد الروسي يعاني ويشهد أيضاً تباطؤاً في النمو أشد حدة مما كانت عليه الحال أثناء الأزمة المالية عام 2008، ومن غير المرجح أن يعقبه تعاف بعد انتهاء الأزمة الحالية. وتنال مستويات المعيشة دعماً من إنفاق اجتماعي سيكون من الصعب الحفاظ عليه ومن المرجح أن يفرض اتخاذ قرارات صعبة في شأن موازنة الحكومة على مدى العام المقبل. وحتى الآن، وعد بوتين الروس بأنه يخوض "عملية عسكرية خاصة" وليس حرباً قد تفرض تضحيات قاسية على السكان. لكن بمرور الوقت، لن تزداد كلف الحرب وآثار العقوبات في الروس العاديين إلا تضخماً.

شد الأحزمة في روسيا

من أجل إجراء فحص لصحة الاقتصاد الروسي، فلنبدأ ببعض بيانات الاقتصاد الكلي. تقلص الناتج المحلي الإجمالي الروسي بنحو خمسة في المئة مقارنة بالعام الماضي مع تزايد وتيرة التراجع كل شهر منذ بدأت الحرب. وتراجع الإنتاج الصناعي الذي يتضمن قطاعي النفط والغاز الروسيين بنسبة اثنين في المئة فقط مقارنة بالعام الماضي (ما يعكس ارتفاع أسعار الطاقة)، على الرغم من تقلص شريحة التصنيع في قطاع الصناعة الروسي بنسبة 4.5 في المئة. ويسجل معدل التضخم ما يزيد قليلاً على 15 في المئة بتراجع بعض الشيء عن الذروة التي وصل إليها عند حوالى 18 في المئة بعد انخفاض الروبل ثم انتعاشه في مارس (آذار). وبعد احتساب معدل التضخم، هوت قيمة الأجور الشهرية بنحو ستة في المئة مقارنة بالعام الماضي. (أعرب بعض المحللين عن تشكيكهم في البيانات الرسمية الروسية، وعلى الرغم من ذلك لا دليل يشير إلى أن هيئة الإحصاء التابعة للدولة منهمكة في عملية تلاعب واسعة النطاق).

قد لا تتمكن إحصاءات التضخم الروسية من أن ترصد في شكل كامل حقيقة أن شراء بعض المنتجات أصبح الآن صعباً في بعض الأحيان (في حال هواتف "آيفون") أو يكاد يكون مستحيلاً (في حال سيارات "لكزس"). وعلى نحو مماثل، لا تستطيع البيانات الخاصة بالتضخم أن تحدد بسهولة حجم الأثر المترتب على انخفاض الجودة. فالحكومة الروسية، مثلاً، تغير التنظيمات بغرض السماح ببيع مركبات لا تتضمن وسائد هوائية أو مكابح محمية من الانغلاق، وهي مركبات بات من الصعب إنتاجها الآن بسبب مشكلات في سلاسل الإمداد ناتجة من العقوبات. لن يظهر هذا التدهور في الجودة في بيانات التضخم، لكن الروس سيشعرون به في نهاية المطاف، بخاصة الروس المقيمون في المناطق الحضرية والأكثر ثراء الذين يستهلكون مزيداً من السلع المستوردة التي أصبح الحصول عليها الآن أكثر صعوبة.

وحتى مع احتساب التضخم الذي رصدته الإحصاءات الحكومية تميل الأجور إلى هبوط حاد، فهي تقل بنحو ستة في المئة عنها العام الماضي. وبسبب التضخم تتآكل منذ بدأت الحرب مدفوعات الرعاية الاجتماعية مثل معاشات التقاعد التي تعد المصدر الرئيس للدخل للروس الأكبر سناً. وزادت الحكومة معاشات التقاعد بأكثر من ثمانية في المئة في يونيو (حزيران) للتعويض عن التراجع، لكن بغياب زيادات أكثر كلفة في الإنفاق الاجتماعي كهذه خلال الأشهر المقبلة، ستنخفض قيمة دخل المواطن الروسي العادي في النصف الثاني من العام. ويشير تدني مبيعات التجزئة بنحو 10 في المئة إلى أن المستهلكين بدأوا بالفعل في الادخار تحسباً لاضطرارهم إلى وضع موازنات أكثر إحكاماً في المستقبل.

النفط يواصل التدفق

على الرغم من أن الأسر بدأت للتو تستشعر أثر انخفاض مستويات المعيشة، تضررت بعض القطاعات بشدة بالفعل. بدلاً من النظر في بيانات الإنتاج الصناعي الكلية التي تتضمن كلاً من شركات المواد الخام وشركات التصنيع، يقدم تحليل كل قطاع على حدة معطيات أكثر. لم يتأثر قطاع المواد الخام إلا تأثراً طفيفاً، وهو أمر ليس مستغرباً نظراً إلى ارتفاع الأسعار ولأن العقوبات الغربية صممت للحفاظ على التدفق الحر لمعظم السلع، بما فيها النفط حتى الآن.

يدين الاقتصاد الروسي بكثير من مرونته لتجارته في الموارد الطبيعية. بدعم دبلوماسي هادئ من الولايات المتحدة، خففت المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي العقوبات التي كان من المفترض أن تدخل حيز التنفيذ ضد صادرات النفط الروسية في وقت لاحق من هذا العام. لمنع ارتفاع أسعار الطاقة، تراجع الغرب عن بعض الجهود لمنع روسيا من إعادة توجيه صادرات النفط إلى عملاء آخرين مثل الصين والهند. الآن، بموجب التعديلات الأخيرة على العقوبات، سيسمح للشركات الأوروبية بشحن النفط الروسي إلى أطراف ثالثة.

لأن الغرب فرض قليلاً من العقوبات المهمة على صادرات روسيا من النفط والغاز، ولأن حظر استيراد الاتحاد الأوروبي النفط الروسي لن يدخل حيز التنفيذ حتى ديسمبر (كانون الأول)، لم يتغير حجم صادرات روسيا من النفط في الأساس منذ فرض العقوبات. والآن ترغم العقوبات روسيا على بيع النفط بسعر يقل بنحو 20 دولاراً للبرميل عن الأسعار القياسية العالمية. وعلى الرغم من ذلك، تشير أحدث البيانات الشهرية التي أصدرتها الحكومة الروسية في شأن عوائدها الضريبية من النفط إلى أن البلاد تحقق القدر ذاته من عوائد التصدير التي حققتها في يناير (كانون الثاني). وعلى النقيض من هذا، انخفضت عوائد تصدير الغاز الطبيعي، وهي أقل أهمية لروسيا مقارنة بعوائد تصدير النفط، بعدما قيد الكرملين مبيعات الغاز إلى أوروبا.

مشكلات صناعية

خلافاً لصناعة الطاقة في روسيا، كانت بقية القطاع الصناعي في البلاد الأكثر معاناة. ومن بين القطاعات الأكثر تضرراً السيارات والشاحنات والقاطرات وكابلات الألياف الضوئية التي شهد كل منها انخفاضاً في الإنتاج بأكثر من النصف. وفي قطاعات أخرى ذات تأثر أقل بالملكية الأجنبية أو سلاسل الإمداد المعقدة، مثل المنسوجات أو معالجة الأغذية، استقر الإنتاج أو ازداد في بعض الحالات مقارنة بالعام الماضي.

ومن بين الأسباب التي أدت إلى هذا التعطل الصناعي انسحاب الشركات اليابانية والأميركية والأوروبية التي كانت لديها مصانع في روسيا. وستعيد بعض هذه المصانع فتح أبوابها بملكية روسية جديدة، لكن تشغيلها باستقلالية قد يكون صعباً. ويعاني المصنعون أيضاً من أجل الحصول على المواد الضرورية. والآن أصبح الحصول على المكونات المستوردة أكثر صعوبة، ذلك لأن حتى المنتجات التي لا تخضع لقيود رسمية أصبح الحصول عليها وشحنها بحراً وتسديد ثمنها أصعب من ذي قبل. في حديث إلى وسائل الإعلام الروسية، قال المدير التنفيذي لـ"ترانس ماش هولدينغ"، وهي شركة تعمل في مجال معدات السكك الحديدية تتخذ من موسكو مقراً لها، "لا أستطيع أن أقول إننا نواجه حصاراً شاملاً"، في إشارة إلى الصعوبات التي تواجهها شركته في شحن المكونات المستوردة ودفع ثمنها، "لكننا نواجه احتكاكاً متزايداً".

يتعلق أحد الأسئلة الرئيسة حول الأشهر المقبلة بما إذا كانت هذه التعطلات الصناعية ستشتد أو ستحل. فمن ناحية، أتيح لروسيا الآن ما يقرب من نصف سنة لإنشاء شبكات بديلة للمدفوعات والخدمات اللوجستية، وهذا من شأنه أن يسمح لبعض الواردات المهمة غير المصرح بها بالوصول إلى البلاد. ومن ناحية أخرى، تزعم الشركات الروسية في استطلاع أنها ستواصل السحب من المخزونات القائمة، مما يعني أنها لا تزال تعاني من أجل الحصول على المكونات الضرورية. وتظهر البيانات الشهرية أن الواردات الروسية من السلع والمكونات الصناعية لا تزال أقل بكثير من مستويات ما قبل الحرب.

يشكل مصير القطاع الصناعي الروسي أهمية كبرى لأسباب عدة. فالصناعة تشكل مصدراً مهماً للتوظيف، لا سيما في ما تسميه روسيا "مونوغرودات" أو البلدات الواقعة بمعظمها في جبال الأورال أو سيبيريا التي تعتمد كل منها في كثير من الأحيان على مصنع واحد أو صناعة واحدة. في الماضي، تسبب تسريح العاملين في مدن كهذه باحتجاجات كبرى واضطرابات اجتماعية أثبتت قدرتها على زعزعة الاستقرار السياسي. وتوصلت بحوث حديثة أجراها مركز بحثي روسي إلى أن نصف سكان الـ"مونوغرودات" كلها سيواجهون أثراً سلبياً مباشراً نتيجة للعقوبات. وستعاني الحكومة الروسية للحصول على الأموال اللازمة لدعم الصناعات المحاصرة في ضوء الموازنة الحكومية المشددة.

يصبح تحليل الموارد المالية الحكومية في روسيا أكثر صعوبة الآن بعدما توقف الكرملين عن نشر تفاصيل تتعلق بالإنفاق، ربما بهدف إخفاء كلف الحرب. في أبريل وهو آخر شهر نشرت روسيا بيانات تفصيلية عنه، زاد الإنفاق على الدفاع بنسبة 40 في المئة على ما كان قبل عام. وإضافة إلى ارتفاع الرواتب وكلف التشغيل اللازمة لتمويل الهجوم على أوكرانيا، سيكون لزاماً على الكرملين أيضاً أن يخصص قدراً كبيراً من الموارد في المستقبل لإعادة بناء المخزون الهائل من المعدات المتضررة أو المدمرة في ساحات المعارك الأوكرانية. وتضاف كلف الحرب ليس فقط إلى الموازنة العمومية للحكومة المركزية بل أيضاً إلى الموازنات العمومية الخاصة بالحكومات الإقليمية التي يطلب منها جمع كتائب المتطوعين.

وهذا الانهماك في الإنفاق من شأنه أن يحفز الضغوط التضخمية على مدى العام المقبل. لا تحقق الحكومة القدر ذاته من العوائد كما كانت تفعل قبلاً. وأدى الهبوط المتواضع الذي شهدته أسعار النفط العالمية منذ يونيو، فضلاً عن التخفيضات الكبيرة التي بات لزاماً على روسيا الآن أن تبيع نفطها وفقها، إلى تراجع عوائدها الضريبية من النفط إلى مستويات أكثر طبيعية مقارنة بالعوائد الكبيرة التي كانت تحققها في الأشهر الأولى بعد الغزو. لكن العوائد الضريبية غير النفطية هبطت في شكل كبير. فبعد التعديل لأخذ معدل التضخم في الاعتبار، انخفضت العوائد غير النفطية خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2022 بنحو 15 في المئة وهو رقم من المرجح أن يزداد أكثر خلال الفترة المتبقية من العام.

نتيجة لهذا تتجه موازنة روسيا نحو عجز كبير إذا استمرت الاتجاهات الحالية. وربما يتغير هذا الموقف في الأشهر المقبلة، لا سيما إذا ارتفعت أسعار النفط، بالتالي العوائد الضريبية. لكن متطلبات الإنفاق من غير المرجح أن تختفي ما دامت الحرب مستمرة وما دامت مستويات المعيشة في انحدار.

وإذا تزايد حجم العجز في الموازنة سيجد الكرملين نفسه في وضع معقد. لقد دخل الحرب من دون أي ديون تقريباً، لكن العقوبات الغربية أعاقت قدرته على إصدار سندات جديدة يمكن بيعها إلى معظم المستثمرين الأجانب. وقد يسمح هذا الوضع بانخفاض الروبل في مقابل الدولار، وهذا من شأنه أن يساعد في معادلة الموازنة لأن الإنفاق الحكومي الروسي مقوم بالروبل. لكن هبوط الروبل من شأنه أن يدفع معدل التضخم إلى الارتفاع، وفي خضم هذه العملية أن يخفض مستويات المعيشة ويقوض سرد الكرملين الذي يزعم أن العقوبات لا تنجح وأن الاقتصاد الروسي مستقر.

كلف متزايدة

في حال ما، كان الكرملين محقاً في إصراره على استقرار الاقتصاد الروسي ذلك أن مصارفه تتمتع بالملاءة ومعظم الصناعات تعمل في شكل شبه طبيعي ويواصل قطاع الطاقة المهم ضخ النفط. وثمة كثير من الأغذية على رفوف المحال، حتى في حين يعاني المعروض من السيارات الفاخرة نقصاً. وسيكون إنتاج السيارات والغسالات أقل كثيراً من المتوقع، وهذا يعني أن المستهلكين سيؤجلون المشتريات الكبرى إذا كان بوسعهم ذلك. والسيناريو المتفائل للكرملين هو أن الروس يشدون أحزمتهم ويتدبرون أمورهم كيفما اتفق.

لكن كلف الحرب والعقوبات بدأت بالارتفاع، حتى ولو كان الأثر الأولي أقل دراماتيكية مما كان الغرب يأمل أو كانت روسيا تخشى. وفي الوقت الحالي، يسعد قادة روسيا أنهم تجاوزوا ستة أشهر من العقوبات الغربية. لكن على مدى العام المقبل، ستستمر الصناعة الروسية بالمعاناة في التكيف مع عالم يخلو من المكونات الغربية المستوردة. وإذا لم ترتفع أسعار النفط، ستواجه الحكومة الروسية مفاضلات أكثر صرامة بين الإنفاق الاجتماعي المستمر وتحمل العجز في الموازنة ومعدل التضخم المرتفع. لن ينهار الاقتصاد الروسي على نحو يفرض وقف الجهود الحربية التي يبذلها الكرملين. لكن البلاد تواجه ركوداً حاداً وإرهاقاً طويلاً على صعيد مستويات المعيشة المنخفضة، فضلاً عن تضاؤل الأمل في تعاف سريع.

* كريس ميلر أستاذ مشارك في مدرسة فليتشر بجامعة تافتس، وزميل زائر يتولى كرسي جين كيركباتريك في معهد المشروع الأميركي، ومؤلف "حرب الشرائح: القتال على التكنولوجيا الأكثر أهمية عالمياً"

مترجم من فورين افيرز، سبتمبر (أيلول) 2022

المزيد من تحلیل