Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل باتت نشرات الأخبار "ذكرى" من الزمن الجميل؟

السوشيال ميديا سرقت الأضواء الخبرية والعلاقة الحميمة بين البشر وهواتفهم المحمولة أصابتهم بـ"تخمة إخبارية"

في زمن السوشيال ميديا هناك نسبة ضئيلة لا تزال تشاهد نشرات الأخبار التلفزيونية أغلبهم من كبار السن (مواقع التواصل)

بابا يحرص على أن يكون موجوداً في البيت قبل التاسعة بخمس دقائق على الأقل. يتخذ موقعه في منتصف الأريكة، يقضم سندويش العشاء ويمنع الجميع من الصوت العالي أو الحركة الزائدة، بحيث لا صوت يعلو على صوت نشرة أخبار التاسعة.

وقبله حرص "جدو" على طقوس شبيهة لكن بقيود أكبر وعراقيل أعتى. فنشرة أخبار التاسعة مساء وقت حظر تجوال. يحظر على الصغار الخروج من غرفهم، وكيف يخرجون وهم نائمون؟ أما الكبار، فيلتزمون الصمت التام ويفضل عدم الوجود في محيط شاشة التلفزيون.

المصدر الوحيد

شاشة التلفزيون كانت المصدر الوحيد ليطل من خلاله البشر على ما يجري حولهم من أخبار وأحداث وحوادث وكذلك عجائب وطرائف وذلك عبر "نشرات الأخبار" الرئيسة التي كانت تبث مرة أو مرتين أو ثلاث على مدار اليوم مع هامش تحديث للمحتوى في حالات الضرورة القصوى والكوارث العظمى وبين النشرة والأخرى عدد محدود من "موجز لأهم الأنباء" حيث تذكرة بعناوين الأخبار الواردة في النشرة.

وسبق شاشة التلفزيون بنشرات أخبارها ومواجز أنبائها، المذياع بنشراته وإفاداته الخبرية منذ كان صندوقاً ضخماً مهيباً يتوسط غرفة الصالون وتجري تغطيته بمفرش خاص تصنعه الأم أو الجدة للحفاظ على "صندوق الدنيا" ومروراً بنشوئه وارتقائه إلى جهاز ترانزستور صغير يمكن اصطحابه في الباص والعمل والحقل والشاطئ وذلك ليبقى حامله على اتصال بما يجري من أخبار.

الأخبار في النشرة

الأخبار لم تكن تأتي إلا في نشرة. وسؤال: كيف عرفت ما جرى؟ لم تكن له إلا إجابتان لا ثالث لهما: إما سمعته في نشرة الأخبار أو أخبرني فلان الذي سمعه في نشرة الأخبار.

نشرات الأخبار أو بالأحرى أشكال بدائية من نشرات الأخبار المسموعة ظهرت في محطات إذاعية بدول عدة بين عامي 1920 و1945، ربما لم يتم بث الأخبار كنشرة دورية أو محتوى ينتظره المستمعون في مواعيد محددة، لكن عدداً كبيراً من المحطات الإذاعية كان يبث نشرات إخبارية عبارة عن العناوين الواردة في الصحف.

ترفيه وأخبار وتوعية

وبتطور الإذاعة وتوسع المحطات الإذاعية وتحولها إلى وسيط بالغ الأهمية للترفيه والأخبار ونشر الوعي، أصبحت للمحطات الإذاعية قطاعاتها وفرقها الإخبارية الخاصة بها التي حرص الملايين على متابعتها والوجود في مكان حيث هناك "راديو" وقت النشرة.

لكن أتت الحرب العالمية الثانية بصورها الإخبارية المتحركة والمثيرة والحاجة الماسة إلى نشر الأخبار ونثرها وفي أقوال أخرى "بروباغندا" الحرب في دول عدة، وعبر السنوات أصبحت نشرات الأخبار في الإذاعة وعلى شاشات التلفزيون المصادر الوحيدة للأخبار، حتى شاشات دور العرض السينمائي كان بعضها يتفاخر بـ"الجريدة الناطقة" قبل عرض الفيلم وكان الاسم على مسمى.

وعلى الرغم من أن "الجريدة الناطقة" في دور العرض السينمائي المصرية التي يعود تاريخها إلى ثمانية عقود مضت، كانت نشرة ناطقة لإنجازات الحكومة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تهدف إلى تقوية الشعور بالوطنية والانتماء لدى المواطن وبث روح الأمل فيه وذلك على مدار نحو تسع دقائق كاملة (تبدو بمقاييس العصر دهور وليست دقائق)، إلا أن الحضور كانوا يتوقون إليها ويتمتعون بمتابعتها ويحكون ويتحاكون عن الأخبار التي وردت فيها مصحوبة ببعض الصور للأهل والأصدقاء.

رحيل الأهل

الأهل والأصدقاء الذين كانوا ينتظرون نشرات الأخبار اليومية، لا سيما النشرة الرئيسة على شاشة التلفزيون، منهم من رحل عن دنيانا ومنهم من بلغ من السن أرذله. صحيح أن هناك نسبة ما لا تزال تشاهد نشرات الأخبار التلفزيونية، لكن النسبة صارت ضئيلة وأغراض المتابعة لم تعد تقف عند حدود معرفة ما يجري، بل صار معظم الباقين على عهد النشرات يتحدثون عن "التحقق" و"التأكد" و"التيقن" بديلاً عن المعرفة والاطلاع والعلم بالشيء.

ومن باب العلم بالشيء فإن "أوفكوم" (الهيئة التنظيمية للاتصالات) البريطانية أشارت عام 2002 إلى حدوث انخفاض كبير بعدد الساعات التي يمضيها البريطانيون في متابعة نشرات الأخبار الرئيسة، إذ إنها تراجعت للشخص الواحد من 108 ساعات سنوياً عام 1994 إلى 94 ساعة عام 2000.

النسب المئوية الواردة من بريطانيا للفئات العمرية الأكثر متابعة للأخبار على شاشات التلفزيون تشير إلى أن معظم البالغة أعمارهم 65 سنة وأكثر يتابعون الأخبار على شاشات التلفزيون، وتقل النسبة كلما انخفضت الفئة العمرية حتى تكاد تلتصق بالأرض في الفئة العمرية بين 16 و24 سنة.

خفوت النشرات

لكن عدم مشاهدة أو متابعة نشرات الأخبار على شاشات التلفزيون أو عبر أثير الإذاعة أو حتى عبر المواقع الخبرية التي صار لمعظمها نشرات إخبارية يمكن متابعتها "أونلاين" لا يعني عدم متابعة الأخبار.

فمتابعة الأخبار يومياً وربما بينما تحدث لم تعد مرتبطة بهذه المقدمة الموسيقية التي تنبئ بالحدث الجلل ولا بظهور مذيع متجهم الملامح تقترب منه الكاميرا تدريجاً وهو يتظاهر بأنه يقرأ الأوراق بالغة الأهمية بين يديه، ثم فجأة يرتفع رأسه ليلقي على الجميع تحية المساء قبل أن يتفوه ممطراً الجميع بالمآسي الإنسانية والكوارث العسكرية والتوترات الطائفية وغيرها من مآسي الكون وكوارث الكوكب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فكل ما يدور حول البشرية من مآس وكوارث وأحداث وحوادث يصل إليها لكن عبر منصات مختلفة وهذه المنصات آخذة في التغير والتبدل وهذه التغيرات تنبئ بأن العصر الحالي ربما يكون "عصر زوال نشرات الأخبار".

في يوليو (تموز) الماضي وصل عدد مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي في العالم بحسب "سمارت إينسايتس" (المتخصصة في بحوث السوق على الإنترنت) نحو 4.7 مليار شخص، أي نحو 59 في المئة من سكان الأرض وبلغ عدد المنضمين الجدد إلى تعداد مستخدمي هذه المنصات على مدار 12 شهراً فقط نحو 227 مليون شخص.

الإنهاك الخبري

التقرير السنوي عن "الأخبار الرقمية" الصادر عن "رويترز" في يونيو (حزيران) الماضي يشير إلى أن الاهتمام بالأخبار واستهلاكها انخفضا بشكل عام في معظم دول العالم. كما تراجعت الثقة بالأخبار "التقليدية" في كل مكان تقريباً ورصد التقرير ما عرفه بظاهرة "الإنهاك الخبري" مع تزايد عدد الأشخاص الذين باتوا يتفادون متابعة الأخبار بشكل عام.

إلا أن "الإنهاك الخبري" الذي يشير إليه تقرير "رويترز" يتعلق بقرارات يتخذها المتلقي بعدم متابعة نشرة الأخبار التي يجري بثها في وقت بعينه أو حتى تلك التي يقدمها الموقع الخبري "أونلاين"، لكن الـ4.7 مليار شخص المتصلين بمنصات التواصل الاجتماعي يجدون أنفسهم أمام قدر كبير من الفيديوهات والتدوينات والتغريدات "الإخبارية" على هذه المنصات وهو المحتوى "الخبري" المحترف المصنوع في مؤسسات إعلامية أو المنتج من قبل هواة سواء كانوا مؤثرين فاعلين عنكبوتياً أو عابري سبيل يصنعون خبراً أو يعيدون تشاركه أو يحللون محتواه.

التعرض اللاإرادي للأخبار

هذا التعرض اللاإرادي للأخبار على مدار ساعات الالتصاق بالشاشات العنكبوتية يخلق حالاً من "الإشباع الخبري" التي تصل أحياناً إلى حد التخمة الخبرية وحتى في حال أكد المستخدم أنه لا يتابع نشرات الأخبار أو لا يهتم بها أو لا يعلم بوجودها أصلاً يظل متابعاً لشكل ما من أشكال الأخبار حتى لو لم يدرك ذلك.

إدراك المؤسسات الإعلامية المحترفة ابتعاد أو صعوبة وصول أو ضياع الفئة العمرية الأصغر سناً، تحديداً أولئك الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة بعيداً منها جعلها تقطع أشواطاً طويلة في محاولات حثيثة لتجديد محتواها الخبري وتحديثه، إلا أن تقرير "رويترز" يشير إلى أن هذه الفئة العمرية العصية على المؤسسات الإعلامية، لا سيما قطاعاتها الخبرية، لم تنشأ فقط في كنف منصات التواصل الاجتماعي، بل أنماط استخدامها لهذه المنصات آخذ في التغير وبسرعة رهيبة، بخاصة عبر منصتي "إنستغرام" و"تيك توك".

الأخبار والصغار

الأعوام الخمسة الماضية شهدت انخفاضاً مستمراً في إقبال الفئات الأصغر سناً على نشرات الأخبار التقليدية، بما في ذلك المقدمة غبر المواقع الخبرية "أونلاين" وشهدت في الوقت ذاته قدراً متصاعداً من اعتماد الشباب على منصات التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار، حتى لو لم يسعوا إليها، لكنهم يحصلون عليها لا إرادياً. هؤلاء يبتعدون بسرعة الصاروخ من القنوات الإخبارية الكبرى والأسماء الإعلامية المشهورة في مجال تقديم الجرعات الخبرية.

هذه الفئة العمرية تنأى بنفسها "إرادياً" بعيداً من أخبار العنف والاقتتال والصراعات السياسية وتتجه بشكل أكبر وأسرع صوب القضايا الاجتماعية والمناخية وتلك المتعلقة بالعدالة الاجتماعية وفي ما يختص بالمصدر والمنصة فإن "إنستغرام" و"تيك توك" يهيمنان.

وبعيداً من هيمنة أخبار "كوفيد-19" على مدار عامين، ثم حرب روسيا في أوكرانيا منذ فبراير (شباط) الماضي،  الملاحظ في دول عدة حول العالم هو ابتعاد كثيرين من نشرات الأخبار وغيرها من البرامج التقليدية ذات المحتوى الخبري، وبلغة الأرقام انخفض الاهتمام بالأخبار عالمياً من 63 في المئة عام 2017 إلى 51 في المئة عام 2022.

لحظات استثنائية

وتبقى الأحداث الكبرى مثل بدايات الإعلان عن الوباء وحرب أوكرانيا نقاطاً فارقة تشهد ارتفاعاً في منحنى متابعة نشرات الأخبار، لكن المنحنى سرعان ما يهبط بعد هدوء الأوضاع أو مرور وقت طويل بحيث ينهك المتابعون خبرياً فيبتعدون.

ويشير واقع الحال إلى أن الأزمات الكبرى التي شهدها العالم على مدار الأعوام الثلاثة الماضية أدت إلى حدوث تحولات كبرى في البيئة الإعلامية وذلك في ظل بحث المتلقين عن بيئة إعلامية رقمية ومتنقلة ومستقلة ومنزهة عن التحيزات السياسية والألوان الأيديولوجية.

أيديولوجياً لا يمكن وصف نشرة أخبار في أي من شاشات المعمورة بـ"المستقلة" تماماً أو "الحيادية" مئة في المئة. جنسية الشاشة وهوية مالكها (سواء كان شخصاً أو دولة) والمصلحة العامة لجمهورها المستهدف الذي يكون مختلفاً عن غيره من الجماهير وغيرها أمور تجعل من نشرة الأخبار، أي نشرة ذات هوى وغير منزهة عن الميول.

في المقابل، تدفع منصات التواصل الاجتماعي مستخدميها إلى "تفصيل" جرعاتهم الخبرية بناء على مذاقاتهم وأهوائهم وانتماءاتهم، لكنها تبقى في نهاية الأمر نشرات أخبار مناسبة لهم.

البشر وهواتفهم المحمولة

من جهة أخرى يجب الإشارة إلى أن العلاقة الحميمة بين مليارات البشر وهواتفهم المحمولة، لا سيما المتصلة بالإنترنت، آخذة في التجذر والتعمق والانتشار، كما أن هذا الاتصال يحمل محتوى خبرياً يحل محل نشرات الأخبار في كل أنحاء العالم ويشار إلى أن عدد الهواتف المحمولة المستخدمة في العالم بلغ نحو 7.72 مليار هاتف في العام الحالي.

المؤكد أن منصات التواصل الاجتماعي فتحت أبواب الأخبار الكاذبة والمفبركة والمنحازة على مصاريعها، لكن المؤكد أيضاً أن "نشرات الأخبار" بمواعيدها الثابتة ومحتوياتها الجامدة وانتظارها "دقائق" لحين التحقق من الخبر يدفعها صوب "الزمن الجميل". و"الزمن الجميل" عبارة تعني كل ما تمت إحالته أو تجري إحالته إلى التقاعد وكان ينعم في زمنه بمكانة تحظى باحترام وجديرة بالاهتمام.

ما زال هناك اهتمام بنشرات الأخبار. هناك من يتابعها عن كثب وإن كانت أعدادهم تتضاءل، وهناك من يلجأ إليها وقت الحاجة للتأكد من خبر نقله صديق على "فيسبوك" أو فيديو حمله قريب على "يوتيوب" أو مقطع "تيك توك" ينتشر بشكل فيروسي فيه أخبار تبدو مريبة أو صادمة أو مربكة أو من شأنها أن تؤثر سلباً أو إيجاباً بشكل مباشر في تفاصيل الحياة.

الأخبار في الحمام

الحياة في العقد الثالث من القرن الـ21 تمنح البشرية القدرة على متابعة الأخبار أثناء الاستحمام أو قبل النوم أو في الباص أو أثناء تحضير الطعام. لسان حال البشرية الباحثة عن الأخبار هو "نشرتك عندنا وقتما تحب". أما نشرة الأخبار ذات المقدمة الموسيقية المأخوذة من سيمفونية عالمية تنذر بحرب في الأفق أو مأساة على الأبواب ومذيعها المتجهم ببدلته الكلاسيكية وحركاته الروبوتية ومحتوى النشرة المكتوب باستفاضة والمراجع بعناية، فستظل متاحة على الشاشات بأنواعها وقت الحاجة لمن يحتاج إليها.

المزيد من تحقيقات ومطولات