Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بلاد من المفقودين"... عن إخفاء روسيا آلاف الأوكرانيين قسرا

المفقودون: في آخر تحقيق لها تنقل لنا المراسلة الدولية بيل ترو الأحداث من مناطق سومي وخاركيف ودنيبرو وبولتافا حيث تجري مقابلات مع أوكرانيين وعائلات ضحايا اعتقلوا ورحلوا إلى روسيا في ما قد يعتبر جريمة حرب

كشفت "اندبندنت" عن دلائل جديدة عن ارتكاب الجنود الروس جرائم حرب في أوكرانيا (أليكس هيكسون/ بيل ترو)

إنه مطلع مارس (آذار). لم تمر سوى أسابيع قليلة على اجتياح الرئيس بوتين لأوكرانيا، وها هي مجموعة من المدنيين "تختفي" في ثلاث مناطق مختلفة من البلاد.

في تروستيانتس، البلدة القريبة من الحدود الشمالية الشرقية الأوكرانية، التي وقعت في ذلك الوقت في قبضة الاحتلال الروسي، يخرج أندريه (35 سنة)، وحماه في جولة من النادر أن يقوما بها للبحث عن بعض المؤن التي بدأت تشح. تتوقف مركبة عسكرية روسية بهدوء بالقرب منهما، ويأمرهما الجنود بركوبها.

على بعد نحو 140 كيلومتراً شرقاً، في مدينة خاركيف، يختتم إيغور (33 سنة)، يوماً من التطوع مع أشخاص تم إجلاؤهم إلى محطة القطار في المدينة، ثم يفطن إلى أنه نسي مفاتيح شقته. فيقرر اللجوء خلال ساعات حظر التجوال، إلى منزل صيفي تمتلكه عائلته خارج المدينة، لكن يطلب منه التوقف عند حاجز على الطريق.

في هذه الأثناء، على بعد 500 كيلومتر جنوباً، في نوفا كاخوفكا، إحدى المدن المحتلة على الساحل، يحاول سيرهي (60 عاماً)، وهو صحافي وناشط وجندي سابق، أن يعبر جسراً يسيطر عليه الروس لإيصال مؤن إلى أصدقائه المسنين، ويطلب منه التوقف جانباً بعد أن يتعرف إليه الرجال عند حاجز التفتيش.

في ثلاث نواحٍ من البلاد، وفي أحداث غير مترابطة وقعت في يوم عشوائي هو 12 مارس، يخفي الجنود الروس هؤلاء المدنيين من دون جلبة.

في نهاية المطاف، سيجد الثلاثة أنفسهم محتجزين داخل سجن في روسيا، وهو ما تعتبره المجموعات الحقوقية برهاناً على الاختفاء القسري كما الترحيل القسري، أي ما يعادل جرائم حرب محتملة. وسوف تقضي عائلاتهم أسابيع وأشهراً وهي تستميت في البحث عنهم، من دون جدوى. ولم يعد سوى أحدهم فقط، هو أندريه.

ويقول الأب لطفلين وهو يصف اللحظة التي بدأ فيها كابوسه، "قال الجنود (ادخلوا السيارة). وضعوا أكياساً على رؤوسنا وأصفاداً على أيدينا وأرادوا (التحري) عنا". أخبرونا أنهم سوف يقتادوننا إلى روسيا، حيث سيقرر شخص أعلى رتبة منهم ماذا يفعل بنا".

"عندما وضعونا داخل شاحنة من تروستيانتس وانطلقوا إلى خارج البلدة، كان الوضع مرعباً. جلست بجانب حماي، وقلت إنها النهاية، لن نعود أبداً إلى منازلنا".

تعرض أندريه وحماه إلى عمليات إعدام وهمية وإلى الضرب والاستجواب، ونقلا من مركز اعتقال إلى آخر، بما فيهم مخيم في بلدة شيبكنيو الروسية القريبة من الحدود. وقد احتجز هناك مع عشرات الجنود المعتقلين من جزيرة الثعبان.

وأودع في النهاية سجناً في ستاري أوكسول، على بعد 180 كيلومتراً تقريباً شرق الحدود الأوكرانية، حيث وضع في زنزانة مع مدنيين قبض عليهم في منطقته، سومي، كما في خاركيف وكييف أيضاً. وقال إنه بدا كما لو أن السجن قد أفرغ من النزلاء الروس ليملأ بـ500 أوكراني على الأقل.

"أوشكوا على قتلنا خلال الرحلة. اتهمنا أحد الجنود بأننا عناصر في الجيش وهجم على حماي بالرفش، كما أطلقوا النار مرتين قرب رأس واحدنا".

ظل معتقلاً داخل ستاري أوسكول حتى منتصف أبريل (نيسان) حين وقع عليه الاختيار لسبب غير مفهوم وأدرج اسمه ضمن عملية تبادل للأسرى. وهو لا يزال يجهل السبب إلى اليوم. بعد رحلة طويلة وشاقة حول روسيا، جمع خلالها 66 معتقلاً من مدنيين وأسرى الحرب من عدة سجون مختلفة، ألقي به [أفرج عنه] في أوكرانيا مجدداً، لكن حماه وستة أشخاص آخرين شاركوه زنزانته - من بينهم إيغور - لا يزالون قيد الاعتقال.

في المقابل، تؤكد رواية آخر شاهد عيان، أن سيرهي اعتقل في سجن يديره الروس في شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو إليها بطريقة غير شرعية في عام 2014، لكن زوجته تقول إن بعض التقارير الجديدة تشير إلى نقله باتجاه فورونيز، إحدى مقاطعات جنوب غربي روسيا قرب ستاري أوسكول.

وهذا ما يضاعف رعب هذه المحنة بالنسبة إلى المدنيين، برأي أندريه، الذي عاد إلى بلدته تروستيانتس. ويقول أندريه بصوت مرتجف "لم يوجه لي أبداً أي اتهام. ولم يسمح لي بإطلاع عائلتي عن مكاني. وبحسب علمي، أنا الوحيد الذي خرج من المعتقل حياً من بين الأشخاص الذين اعتقلوا معي".

ويتابع كلامه بهدوء فيضيف، "ما زالت الكوابيس تلاحقني. وأجفل من أي صوت، مهما كان خافتاً. أصحو معظم الأيام والعرق يتصبب مني".

 

بحسب تقديرات المسؤولين الأوكرانيين والروس على حد سواء، نقل نحو مليوني مواطن أوكراني تقريباً إلى روسيا منذ بداية الحرب. تزعم موسكو أن هذه الخطوة تندرج في إطار جهود إجلاء الأشخاص لإنقاذهم، فيما اتهم مسؤولون أوكرانيون، إضافة إلى دول من بينها الولايات المتحدة في حديث مع اندبندنت موسكو بترحيلهم قسراً.

نفت روسيا المرة تلو الأخرى ارتكابها أي جرائم في أوكرانيا منذ شن الرئيس بوتين غزوه في فبراير (شباط). ولم ترد السفارة في لندن على طلب التعليق على هذه الادعاءات تحديداً أو على الشهادات التي جمعت، لكن في إطار تحقيق استغرق أشهراً في عشرات آلاف المفقودين الأوكرانيين منذ بداية القتال، وجدت "اندبندنت" دليلاً جديداً على ما يرجح أنه انتهاكات للقانون الدولي، وجرائم قد ترقى إلى مستوى جرائم الحرب، تشمل ترحيل المدنيين بطريقة غير قانونية وعلى نطاق واسع وإخفائهم قسراً في سجون داخل روسيا، إضافة إلى أخذ رهائن.

وفقاً لأدلة قدمها الضحايا وأفراد من أسر المفقودين، ومسؤولون محليون ومجموعات حقوقية دولية، يبدو أن المدنيين رحلوا إلى سجون في روسيا عبر ثلاثة مسالك منظمة، إذ نقلوا إما من المناطق الشمالية الغربية في البلاد عبر بيلاروس، أو عبر الحدود الشمالية الشرقية باتجاه مخيمات عسكرية انتقالية أو من الجنوب عبر شبه جزيرة القرم التي ألحقت بروسيا.

وفي سياق تحقيقها الصحافي، تابعت اندبندنت قصة ستة أوكرانيين مختلفين رحلوا قسراً إلى روسيا واختفوا داخل سجونها. وخلال هذه العملية، تمكنت من تحديد مكان وجود رجلين من بينهم وإعلام عائلتيهما بموقعيهما.

كما تحدثت إلى مدنيين لم يحتجزوا داخل السجون الروسية، ولكنهم نقلوا رغماً عنهم - وأحياناً من دون علم منهم حتى - من أوكرانيا إلى أقاصي روسيا كجزء من عملية "الفرز" [التطهير] الجدلية التي يطبقها الجنود الروس ووكلاؤهم بعد إجلائهم السكان من المدن التي احتلوها حديثاً. وقد تشكل هذه الممارسة كذلك انتهاكاً خطراً لاتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين وتعد جريمة حرب.

وأجرت "اندبندنت" كذلك حديثاً مع سكان بلدات محتلة يقولون إن الجنود الروس أخبروهم أن المدنيين يجمعون بصورة متعمدة لاستخدامهم كورقة ضغط في عمليات تبادل الأسرى المستقبلية، وهذه الممارسة أيضاً قد ترقى إلى أخذ رهائن، وهي جريمة حرب. وقال أندريه إنه اعتبر جندياً بالفعل، وهو ما حصل مع مدنيين آخرين معه كذلك، خلال عملية تبادل للأسرى في أبريل، حين أطلق سراحه في النهاية (ولم يتسن لاندبندنت التأكد من ذلك).

وتعليقاً على هذه النقطة، قال آلان هوغارث من منظمة العفو الدولية، بعد تلقيه الشهادات التي جمعتها اندبندنت، إنه على السلطات الروسية أن تفتح تحقيقاً "فورياً" في هذه التقارير وأي تقاعس من جانبها "يجب أن يعزز إصرار المجتمع الدولي على التدخل واستخدام آليات دولية من أجل التحقيق في الموضوع وإحقاق العدالة".

وأضاف آلان هوغارث، "يجب حماية المدنيين الواقعين تحت سلطة القوات المعادية من أي اعتداء في كل الأوقات. ويرقى ترحيلهم القسري من الأراضي المحتلة وتعذيبهم أو تعريضهم لأي نوع من إساءة المعاملة إلى مستوى الجرائم بموجب القانون الدولي".

ومن جانبها، أضافت بلقيس والي من منظمة "هيومن رايتس ووتش" أن هذه "الادعاءات المقلقة" تتطابق مع مجموعة من الاعتداءات التي وثقتها المنظمة ومن بينها الإعدام والتعذيب والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والاغتصاب.  

المسلك الشمالي الشرقي

كان الجندي الشيشاني الجالس في منزل ماريا قد حاول لتوه اغتصابها لكنه تخلى عن الفكرة على مضض بعد اكتشافه أنها تعاني إعاقة ظن خطأً بأنها مرض، ولذلك، جلس قرب موقدتها ليدفئ نفسه وأخذ يلهو بمسدسه لقضاء الوقت [لتزجية الوقت]. وأخبرها في هذه الأثناء كيف يتعمدون القبض على المدنيين الأوكرانيين لاستخدامهم كورقة ضغط في عمليات مبادلة الأسرى بجنود روس.

تسمرت ماريا في مكانها من الخوف. كانت وحدها مع ابنها البالغ من العمر 12 عاماً بعد أن أخذ الجنود زوجها قبل ذلك بساعات قليلة. لم تقوَ على فعل أي شيء سوى البقاء جالسة ومراقبة هذا الرجل وهو يخرج الذخيرة من سلاحه ويعيدها إليه بحركة متواصلة.

وتقول ماريا وهي ترتجف من شدة البكاء، "قال لي (نحتاج إلى مزيد منكم أنتم الأوكرانيين لكي نتمكن من استعادة عدد أكبر من جنودنا). واتهم زوجي بأنه نازي. وقال إننا جميعاً نازيون".

جرت هذه الوقائع بتاريخ 17 مارس، أي بعد خمسة أيام من إلقاء القبض على الآخرين، في قرية صغيرة خارج تروستيانتس.

في وقت سابق من بعد ظهر ذلك اليوم، اقتحم الجنود المنزل بسبب قلقهم على ما يبدو من تقارير تفيد بأن زوج ماريا، رومان (39 عاماً) الذي يعمل في مجال البناء، ويقضي جزءاً من وقته في الصيد، يمتلك بندقية صيد. كسروا السلاح واقتادوه. علمت بعدها أن رومان كان واحداً من بين ثلاثة رجال اختطفوا من قريتها ذلك اليوم فقط. اختفى 10 رجال بالمجمل من المنطقة قسراً خلال الاحتلال الروسي، وما زالوا مفقودي الأثر.

وتقول بصوت يائس، "خشيت أن يرغم على القتال، وخفت أن يلقى حتفه. سألت عنه عند كل حواجز التفتيش. وبعد ذلك، عندما غادر الروس، قصدت الشرطة الأوكرانية والقوات الأمنية وقدمت طلبات إلى كل المنظمات الممكنة لكي أعثر عليه". حتى إنها قدمت طلب مساعدة من الإدارة العسكرية في منطقة سومي، حيث تقع قريتها، والعاصمة كييف، "لكننا لم نعرف شيئاً. لم أتلق أي خبر عن زوجي سوى بعد إطلاق سراح أندريه في أبريل، واتصاله المفاجئ بي".

قبل إخراج أندريه من ستاري أوسكول بقليل، كتب زملاؤه في الزنزانة أرقام هواتف أقربائهم على قصاصة ورق هربها إلى الخارج. أصبحت هذه عادة الأوكرانيين الذين يختفون قسراً داخل السجون الروسية أو سجون وكلاء الروس.

وفور عودته إلى تروستيانتس - مثل كثيرين غيره - اتصل بكل الأرقام الممكنة لإعلام الأسر بأن أحباءها على قيد الحياة. وكان رقم هاتف ماريا أحد تلك الأرقام.

واستطاع أن يخبرها الأحداث التي كانت تجهلها، اقتيد رومان إلى قرية قريبة في بورومليا وعذب لمدة عشرة أيام قبل ترحيله إلى روسيا، حيث انتهى به المطاف في ستاري أوسكول.

خلال زيارة سابقة إلى تروستيانتس فور انسحاب الجنود الروس منها، اطلعت "اندبندنت" على صور جثث وجدت عليها آثار التعذيب قبل قتلها في بروموليا، حيث أنشأ الروس مقراً غير رسمي لهم. وأخبرنا عن حالات اختفاء قسري لعديد من الرجال من منطقة تروستيانتس، ومن بينهم أندريه.

ويبدو أن أحد الرجال، وهو كولونيل متقاعد اعتقل لفترة قصيرة داخل غرفة تعذيب تحت الأرض كشفنا وجودها أسفل محطة القطار في تروستيانتس، اقتيد هو الآخر إلى ستاري أوسكول. تحولت هذه الطريق إلى مسار اعتيادي من شمال شرقي أوكرانيا إلى مخيمات روسيا وسجونها.

وتتابع ماريا حديثها وهي تجهش بالبكاء، "عندما سمعت بأن زوجي على قيد الحياة أخذت أصيح [أولول] وأبكي في الوقت نفسه. لم أعرف كيف أتصرف. انتظرنا الحصول على أي خبر لفترة طويلة جداً، ولم يخطر لي أبداً أنه قد لا يكون في أوكرانيا. ماذا الآن؟ ماذا يمكننا أن نفعل؟ كيف نعيده إلى الوطن؟".

لكنها عرفت مكانه على الأقل.

 

كان إيغور الشخص الذي أوكلت إليه مهمة كتابة أرقام هواتف أقرباء زملاء الزنزانة على قصاصة ورق أخرجها أندريه سراً من السجن، ولكن بسبب العجلة، ظهر أنه نسي أن يكتب أرقام أقربائه. ولم يدرك أندريه ذلك سوى بعد وصوله إلى منزله ومباشرته بالاتصالات الهاتفية، أي بعد فوات الأوان، لكن في سياق تحقيقاتنا والتدقيق في كل المنشورات الإلكترونية حول المفقودين، وجدنا عائلة إيغور في خاركيف. بعد التأكد من صورة إيغور والتفاصيل المتعلقة به مع أندريه، تمكنا من الاتصال بوالديه، وأكدنا للأسف مخاوفهما في شأن وجود نجلهما داخل السجن في روسيا، وتحديداً في ستاري أوسكول.

قال والدا إيغور إن [ابنهما] فني الكهرباء فقد أثره في 12 مارس بعد أن فرغ من عمله التطوعي في محطة القطار الرئيسة في خاركيف، التي كانت تتعرض لقصف عنيف. وقد وصلتهما أخباره للمرة الأخيرة حين اتصل بهما ليقول إنه أضاع مفاتيح شقة العائلة في شمال سالتيفكا، إحدى أكثر مناطق خاركيف تضرراً في القصف.

وتخبرنا أمه من المدينة التي تتعرض حتى اليوم لإطلاق نيران كثيف، "قلنا له أن ينام في أحد الملاجئ المحلية. كان وقت حظر التجوال وشيك إنما يبدو أنه تجاهل ذلك لسبب ما".

أخبرنا أندريه باقي القصة - قرر إيغور أن يقود سيارته عدة أميال شمالاً لكي يبقى في منزل العائلة الصيفي في تسيركوني.

ولم يدرك أن هذه المنطقة أشبه بجبهة متحركة تحتلها القوات الروسية جزئياً ولذلك قبض عليه عند وصوله إلى أحد حواجز التفتيش. أودع في النهاية الزنزانة نفسها مع أندريه في ستاري أوسكول، حيث قضيا أياماً وليالي في الغناء وإلقاء القصائد من أجل الحفاظ على روح معنوية عالية [التماسك].

تتابع والدته قولها والحزن يخنق صوتها، "ارتحت عندما علمت أنه على قيد الحياة ويلقى معاملة حسنة، ولكن معلومات أندريه تعود إلى عدة أشهر مضت ونأمل أنه لا يزال بخير حتى الآن".

وتضيف أنه حتى بعد حصولهما على هذه المعلومات "ما عادا يعرفان أي جهة يمكنهما أن قصداها للمساعدة. وبدلاً من ذلك، أسأل ربي كل يوم أن يعيد لي ابني، هذا كل ما يمكنني فعله".

المسلك الشمالي الغربي

أطللق الروس عليه اسم الطريق الروسي السريع، وسرعان ما فهم سكان المنطقة الأوكرانيون أن الرغبة بعبوره بمثابة تمني الموت.

يقع هذا المكان في الطرف الشمالي لمنطقة كييف، حيث أظهرت صور الأقمار الصناعية خلال أسابيع الحرب الأولى موكباً بطول 64 كيلومتراً يضم جنوداً ودبابات وسيارات مصفحة وأسلحة روسية يتقدم وهو يهتز باتجاه العاصمة.

وهذا هو الطريق الذي كان يقع عليه منزل ناتاشا وزوجها قنسطنطين، المواطن الروسي المقيم في أوكرانيا منذ فترة طويلة. في يوم 5 مارس، بسبب خشيته من انقطاع المؤن عن أقربائه المقيمين في قرية أوبوخوفيتشي المجاورة، قرر قنسطنطين أن يخاطر بعبور "الطريق الروسي السريع" لإيصال الطعام إليهم. فخرج، ولم يعد.

 

بعد مرور شهر على هذه الحادثة، شنت القوات الأوكرانية هجوماً مضاداً ناجحاً فانسحبت القوات الروسية، وحينها فقط تمكنت ناتاشا من الوصول إلى أوبوخوفيتشي لكي تفهم ما حصل مع زوجها الذي اختفى. إنما كل ما عثرت عليه هو سيارة قنسطنطين وقد اخترقتها رشقات من الرصاص.

تقدمت بعدها، شأنها في ذلك شأن كثير من الأسر، بطلب الحصول على أي معلومات من الشرطة واللجنة الدولية للصليب الأحمر. تمنح اتفاقية جنيف الثالثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر الحق في دخول أي مكان قد يكون فيه أسرى حرب وإجراء مقابلات معهم، لكن اللجنة قالت إن مسؤوليها لم يمنحوا الإذن الكامل بدخول جميع المنشآت.

ولذلك، قصدت ناتاشا "فيسبوك" على أمل الحصول على المعلومات. وتقول، "ثم في مايو (أيار)، رأى رجل أفرج عنه للتو من سجن كورسك في روسيا منشوراتي على (فيسبوك)، وكتب لي رسالة يقول فيها إنه سجن مع قنسطنطين هناك". تبعد كورسك عن خاركيف 120 ميلاً إلى الشمال.

ولأن عائلة قنسطنطين روسية، كانت في وضع يسمح لها بالذهاب إلى السجن وتوظيف محامين والمطالبة بالتأكد من وجوده في السجن فعلاً. بعدها، عملت على التصدي للتهم الموجهة إليه، وهي مزاعم بعمله ضد جنود وكلاء للروس في أراض محتلة تبعد أكثر من ألف كيلومتر عن مكان إقامته في أوكرانيا.

وفي نهاية يونيو (حزيران)، أطلق سراحه وروى ما خفي من تفاصيل قصته.

وتشرح ناتاشا، "طعنه جندي روسي في رجله أثناء التحقيق معه، فخلف فيها جرحاً لم يلتئم جيداً، ثم جردوه من حذائه وسرقوه، وكانت قدماه متجمدتين في ظل تدني درجات الحرارة تحت الصفر".

وتابعت بقولها إنه سمح فقط لمن يرتدون أحذية رديئة النوعية لم يرغب بها أحد بأن يحتفظوا بأحذيتهم، لكن الجنود بللوها بمياه تجمدت بعدها، إمعاناً في تعذيبهم.

تبين أن قنسطنطين تعرض لهجوم مفاجئ فيما كان داخل سيارته. ونقل في البداية إلى مطار هوستوميل بعد أن استولى عليه الجنود الروس ثم اقتيد إلى تشرنوبيل، موقع المفاعل النووي الذي انفجر في عام 1986. أوثقوا رباط يديه وقدميه وجروه بقوة لدرجة أنه أصيب بمزق في العضلات.

بتاريخ 8 مارس، اصطحب برفقة 120 سجيناً آخر، إلى بيلاروس بالطائرات المروحية وبعدها إلى كورسك بالطائرة. وقال إن 12 شخصاً كانوا معتقلين هناك في زنزانة واحدة، من دون أن يسمح لهم بالتريض أو التعرض لأشعة الشمس. كانوا جميعاً أوكرانيين من منطقة كييف، نقلوا عبر الطريق نفسه، إلى كورسك، عبر بيلاروس.

عندما أفرج عنه، حفظ هو الآخر، مثل أندريه، قائمة بأرقام عائلات الأشخاص الذين شاركوه زنزانته وأطلع الأقرباء على مصير أحبائهم. وتضيف ناتاشا بنبرة يائسة، "أشعر حقاً أن المسألة قضية حظ، وصدفة، أن يرى أحدهم منشورك [على فيسبوك]. إن العثور على الأشخاص أمر متروك لنا نحن، العائلات".

وبهذه الطريقة، علمت مارينا (39 سنة)، مصير ابنها أوليكساندر (20 سنة)، الذي كان يؤدي خدمته العسكرية وصدف أنه كان متمركزاً في مطار هوستوميل لحظة الغزو الروسي.

فقدت الاتصال معه أول يوم من الحرب إذ علق في إحدى أعنف المعارك في القتال. وقضت العائلة التي تقيم خارج إيفانكيف المجاورة شهر مارس بأكمله داخل قبو دار الأيتام الذي تعمل فيه مارينا، من دون كهرباء أو شبكة اتصالات أو مياه.

وتشرح الوضع قائلة، "لم نستعد الاتصال بالإنترنت قبل منتصف أبريل وحينها فقط تمكنا من العثور على مجموعة على (فيسبوك) للأشخاص الذين فقدوا أبناءهم في هوستوميل وعلمنا ما حصل".

نشر جندي أطلق سراحه في 28 مارس قائمة بأسماء الأشخاص الذين شاركوه السجن. ونقلوا جميعاً إلى كورسك عن طريق بيلاروس، تماماً كما حدث مع قنسطنطين، لكنها لا تعرف إن كان أوليكساندر لا يزال هناك.

قال مدني من قريبة مجاورة اعتقل أيضاً في سجن كورسك وأطلق سراحه لاحقاً إنه رأى أوليكساندر قبل يوم من الإفراج عنه إنما سمع بأن أوليكساندر على وشك الانتقال إلى مكان آخر. "حصل ذلك في منتصف أبريل، ولا نعلم أين يحتجزونه، وإلى أين نقل. والأسوأ أنه لا يعرف حتى إن كنا أحياء"، بالتالي تضطر أسر المفقودين للاعتماد على "العامل البشري" هذا، كما تقول غايدة ريزاييفا، وهي أيضاً معتقلة سابقة كلفتها السلطات بالتنسيق بين الجهود الحكومية والمنظمات غير الحكومية والمدنيين لمحاولة تحديد مكان آلاف المدنيين والجنود الذين اختفوا.

وتتابع بقولها إن الموضوع لا يعدو كونه صدفة عشوائية أحياناً. وتشرح ذلك، "قد يكون أحدهم يبحث عن ابنه ويعثر بالصدفة على شخص آخر، وهذا بدوره يساعدنا على العثور على شخص ثالث. ولو أطلق سراح أي شخص نسأله - هل كان معك نزلاء في الزنزانة؟ ونريه صور المفقودين".

"لكن ذلك يعتمد على إبلاغ الأشخاص عن فقدان أحبائهم، أو على الأشخاص القليلين الذين يفرج عنهم".

المسلك الجنوبي

بعد أكثر من شهر على اختفائه الفجائي، ظهر سيرهي، الصحافي والناشط، خلال فقرة إخبارية على قناة تلفزيونية روسية. صعقت زوجته أولينا لرؤيته، فقد انقطعت أخباره منذ ذهابه لإيصال المؤن لمسنين معرضين للخطر في 12 مارس.

وها هو يظهر مرتدياً قميصاً مزرراً بياقة ليس من عادته ارتداؤه أبداً، ويداه ترتجفان قليلاً، وهو يجلس في مكان غير معروف ويدين الجيش الأوكراني.

قدم الجندي الأوكراني السابق والناشط والصحافي دعمه في السابق لمسيرات تندد باحتلال روسيا للمنطقة الجنوبية من خيرسون، مكان إقامته. ولم يتوان عن إشهار آرائه في شأن غزو بوتين، لكن ها هي هذه القناة تقول الآن إنه يتعاون مع السلطات الروسية.

تستطيع زوجته، التي تعرف حركاته العصبية جيداً، أن تلحظ مدى توتره. وتعتقد أنه لا يرتدي قميصاً بياقة وأكمام طويلة سوى ليخفي آثار الكدمات.

وتردف قائلة بنبرة غير انفعالية، "يقال في الفيديو إنه موجود داخل روسيا، لكننا لا نعلم أين بالتحديد. يبدو أنه يعاني إصابات في رأسه، وأن أصابع يديه مكسورة، كما يظهر أن رئتيه متضررتان لأنه يجد صعوبة في الكلام في مرحلة معينة".

"أنا على يقين أنه تكلم بالإكراه. إنه يتهم الأوكرانيين باستهداف المدنيين. أحب أوكرانيا بكل جوارحه".

اختفى صباح يوم 12 مارس - اليوم نفسه مثل أندريه وإيغور. في تمام الساعة الرابعة من بعد ظهر ذاك اليوم، قال أوليه باتورين، مدير تحرير وسيلة إعلامية معروفة موالية لأوكرانيا، وزميل سيرهي، إنه تلقى اتصالاً هاتفياً من سيرهي يطلب فيه أن يلتقيه، لكن اللقاء كان فخاً، كما أوضح باتورين لاحقاً لأولينا، وهو ما كرره في مقابلات مع وسائل الإعلام الأوكرانية.

كان سيرهي عندها قيد الاعتقال أساساً، وأرغم على إجراء الاتصال الهاتفي. وقال باتورين إنه وسيرهي تعرضا للتعذيب.

وتضيف أولينا، "لا نملك حتى الآن أي معلومات مؤكدة عن مكانه، أو حالته أو عن شكل المعاملة التي يتعرض إليها. نعتقد أنه مسجون في سيمفيروبول في شبه جزيرة القرم، أو أنه الآن في فورونيز، لكننا لا نعرف". وهي تخشى من وقوع أسوأ الاحتمالات.

يروي النشاطون المناهضون للاحتلال الذين أطلق سراحهم من السجون في جنوب أوكرانيا تفاصيل تعرضهم لمعاملة مريعة. قال ماكسيم، 29 عاماً، الخبير البيئي الذي اعتقل في مارس في أعقاب تظاهرة مضادة للاحتلال في مدينة خيرسون إنه احتجز لمدة عشرة أيام داخل قبو تحت الأرض كان مزدحماً وضيقاً لدرجة أن الجميع اضطروا أن يجلسوا القرفصاء. ولم يسمح لهم بالخروج من القبو إلا أثناء الخضوع للاستجواب. ويرينا صور الأشعة التي تبين الكسور في ضلوعه ورجليه.

وما زال عديد من أصدقائه الذين اختفوا في الوقت نفسه مفقودين، ومن بينهم مواطن إسباني.

ويضيف وهو يرتجف، "إنه أسوأ من الجحيم لأن الثانية [هناك] تدوم إلى الأبد [تبدو مديدة]. لا يقتصر الأمر على خوفك مما يحدث معك الآن، بل ما قد يحدث لك لاحقاً. في جنوب أوكرانيا المحتل، تجد في كل عائلة شخصاً واحداً على الأقل من دائرة الأشخاص المقربين، إما واقع في الأسر أو كان مأسوراً. كأنه بلد صغير من المفقودين".

الفرز- معسكرات الاعتقال

لم تعِ نادية (71 عاماً) أنها في روسيا إلا بعد أن أرغمها جندي على ركوب قطار أخبرها أنه سيأخذها إلى وسط البلد.

تمكنت قبل ذلك من النجاة من أشد مراحل القصف على ماريوبول، جنوب البلاد، بعد اختبائها في قبو ملعب رياضي مجاور. عندما سقطت المدينة، وصل جنود من جمهورية دونيتسك الشعبية المدعومة من الروس والتي أعلنت قيامها من طرف واحد، وأمروا جميع الموجودين داخل الملجأ المؤقت أن يسيروا باتجاه قرية قريبة.

ما كان باستطاعتها هي المسنة التي ترعى ابناً بالغاً يعاني إعاقة، سوى الامتثال للأوامر. نقلت بعدها من قرية إلى أخرى على الساحل، وانتهى بها المطاف في قرية دوكوتشيفسك الشرقية التي خصصت لعملية "الفرز". وقد شددت الأمم المتحدة على أن هذه العملية تؤدي إلى اختفاء الأشخاص واعتقالهم التعسفي، محذرة من أنهم معرضون بسببها لخطر التعذيب أو سوء المعاملة.

ومع أنها "نجحت" في العملية، أخبرت الجنود مرة تلو الأخرى عن رغبتها في البقاء داخل أوكرانيا، ولكنها وضعت على متن باص آخر. ولم تدرك أنها غادرت البلاد سوى حين وجدت نفسها في محطة تاغانروغ، على بعد 60 كيلومتراً داخل العمق الروسي.

وتتابع حديثها عبر الهاتف من فرنسا حيث تقيم الآن، "ثم قال لي جندي (اذهبي يا جدتي، اركبي القطار أو ستبقين هنا في المحطة برفقة المشردين). على متن القطار، سألت المضيف عن وجهتنا وأخبرني أنها سامارا (منطقة تبعد أكثر من ألف كيلومتر شمال شرقي ماريوبول) وسط روسيا".

في تلك المرحلة، دب الذعر في جميع ركاب القطار، إذ حتى الذين قبلوا بالترحيل إلى روسيا لم يرغبوا بالذهاب إلى مكان بعيد كهذا. وتضيف ناديا أنها علمت بعد ذلك عن اصطحاب بعض المدنيين إلى أطراف سيبيريا الشرقية وإلى بلدات قريبة من القطب الشمالي. وتلقت "اندبندنت" تقارير تفيد بأن بعضهم يرغمون على القتال في صفوف الجيش الروسي.

وتكرر، "قلت لهم المرة تلو الأخرى أنني لا أرغب أن أبارح مكاني".

في نهاية المطاف، وصلت إلى بلدية سيزران في سامارا بتاريخ 15 أبريل، حيث تقول إنها وضعت داخل "فندق" حرسته عناصر شرطة مسلحة على مدار الساعة. إنما بعد أن ساعدها سكان روس وأعضاء في المجتمع المحلي على شراء تذكرة تأخذها إلى موسكو، تمكنت أن تشق طريق العودة الطويل إلى عائلتها.

وتتابع بقولها، "صادقت رجلاً التقيته في محطة القطار الرئيسة في موسكو كان يغادر قاصداً إحدى دول البلطيق، وفسر لي الطريق. نجحت في [البقاء على قيد الحياة] النجاة من هذا الجحيم بسبب هدفي الوحيد وهو رؤية ابنتي التي أحبها كثيراً مرة أخرى".

الرحلة الطويلة والشاقة

كانت رحلة العودة إلى المنزل مساراً طويلاً وشاقاً يمر بسجون روسيا، ذلك الصباح، أمر الحارس في ستاري أوسكول أندريه أن يوضب أمتعته، وقد كتب على عجل أرقام هواتف عائلات شركائه في الزنزانة، ثم حفظ عن ظهر قلب رسائل التحية. وصلوا، ثم تعانقوا.

نقل في البداية بالطائرة إلى كورسك، ثم فورونيز، وبعدها تغانروغ، وفي كل نقطة، كانوا يأخذون مزيداً من المعتقلين المدنيين الأوكرانيين ومن بينهم شرطيات من ماريوبول.

أما وجهتهم الأخيرة، فمنشأة من ثلاث طوابق في سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم الملحقة بروسيا، حيث تحدث أندريه عن وجود 200 أوكراني ينامون على أسرة بطابقين وهم ينتظرون بفارغ الصبر ويأملون أن تدرج أسماؤهم على قوائم الصليب الأحمر لتبادل الأسرى.

أيقظوه من النوم ذات يوم عند الفجر. وضعت مجموعة من 16 مدنياً و60 جندي، إصابات معظمهم شديدة، على متن باصات وأخذت إلى أرض محايدة في منطقة زابوريزيا [زابوريجيا]. استرق أندريه النظر عبر ضباب الفجر الكئيب ورأى جندياً أوكرانياً يلوح بعلم أبيض على الجانب الآخر. عندها فقط صدق أنه قد يكون بأمان في نهاية المطاف.

نادوهم بأسمائهم، الواحد تلو الآخر، ثم قطعوا الجسر المحطم وهم يرتجفون. قام ثلاثون جندياً روسياً بالرحلة نفسها إياباً، مبادلة اثنين مقابل كل واحد.

ويقول وهو مصعوق، "لم أكن لأصدق، خلال سنواتي الـ35 على وجه هذا الكوكب، أن هذا سيحصل معي. لم أكن لأصدق وجود هذا العدد من الأوكرانيين، سواء مدنيين أو عسكريين، في الأسر. وكيف أسرنا عشوائياً".

يقضي أندريه، مثل جميع عائلات الأوكرانيين الآخرين المخفيين قسراً، كل يوم في محاولة تقصي أخبار حماه الذي لا يزال مسجوناً. أما ماريا، التي تنتظر أخباراً عن زوج لا يزال هو الآخر في ستاري أوسكول، فتقول إن حياتها توقفت لحظة أسره وإن أيامها كلها متشابهة: مطاردة عقيمة لأي نبأ.

وتضيف وقد خط الحزن علاماته على وجهها، "بعد 17 مارس، انهارت حياتي واستحالت عدماً. حتى الآن، لم أنجح في النوم ولا ليلة. أمضي ليالي طويلة أبحث على هاتفي عن معلومات تتعلق بزوجي المفقود وبعمليات تبادل أسرى".

"خسرت كل شيء. انتزع كل شيء من بين يدي، فقدت حياتي بأسرها".

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات