Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

انتخابات الصحافيين السودانيين... درس في الحرية

لن تكون عواقب النصر سهلةً في ظل تشبث العسكر بالسلطة وسنرى في مستقبل الأيام معارك شرسة بانتظاره

عبد المنعم أبو إدريس نقيب الصحافيين السودانيين المنتخب (أ ف ب)

لم يكن يوم السبت الماضي يوماً عادياً مر كغيره في حياة الصحافيين السودانيين، بل كان يوماً مجدياً من أيام الانتفاضة السودانية، لما أسفرت عنه نتائج الانتخابات الشفافة لمنصب نقيب الصحافيين السودانيين الذي فاز به عبد المنعم أبو إدريس – مراسل قناة "فرنسا 24"- ولمجلس النقابة، والجهود الجبارة التي بذلت لترتيب مقدمات كثيرة في العمل التنظيمي للصحافيين، كلها تشبه شيئاً مختلفاً وغير عادي. لهذا كان ذلك اليوم عرساً للديمقراطية وعيداً للصحافيين بعد انقطاع قسري لنقابتهم الحرة دام 33 عاماً من التغييب والقمع والمنع، الذي ظلوا يتعرضون له خلال الحكم الطويل من عمر نظام الإخوان المسلمين منذ عام 1989.

توقيت بالغ الأهمية

ويأتي هذا الفوز الانتخابي في توقيت بالغ الأهمية حيال الظرف السياسي الذي يمر به السودان، والانسدادات التي تكتنف مصيره الوجودي. فذلك الفوز، من ناحية، سيكون ضوءاً باقياً لحرية الكلمة في آخر النفق، ومن ناحية ثانية، سيغري نقابات كثيرة وعلى رأسها نقابة المحامين، وغيرها، بالشروع قدماً في طريق ممارسة الديمقراطية الطويل عبر هذا التقليد، الذي أرسته نقابة الصحافيين لتنتزع حقوقها كاملةً، وتضع الأسس المتينة لقوتها المستمدة من قاعدتها الكبرى – الجمعية العمومية – التي التأمت عبر جهود مضنية بذلها صحافيون مخلصون، ليخرجوا جميعاً ويتفقوا على وضع قواعد ولوائح ودستور النقابة أولاً، ثم ليمارسوا بعد ذلك حقهم المشروع في انتخاب نقيب ومجلس حر للنقابة، بكل حرية.

إن أهمية انتخابات نقابة الصحافيين تتمثل في أنها، وبعد 30 عاماً، تنتخب لتعبر عن قوتها وصلابتها المستمدة من جمعيتها العمومية التي ستحميها من أي تغول، مهما بلغت قوته وسطوته. وبهذا السند القوي ستضمن نقابة الصحافيين مساندة المنتفضين، لأنها ستمنحهم الكثير وستلهمهم بالمضي على طريق الانتفاضة والحرية بإنجازها التاريخي ذاك.

ولعل ما يثير الإعجاب حقاً تلك الجهود التي بذلها الصحافيون السودانيون في ظروف سياسية بالغة السوء والتعقيد. فقد كانت جهوداً من طبيعة تأسيسية على نحوٍ جذري صحبه في الوقت ذاته عمل إجرائي موازٍ ودؤوب، بدأ بحشد للجمعية العمومية والمفاوضات التي تكثفت بروح الفريق لإجازة النظام الأساسي وقانون النقابة، وحصر العضوية، والسهر على تأليف قواعد صلبة للشرعية التأسيسية التي قام عليها هذا الجسم، حتى تم تتويج تلك الجهود بهذا العرس الانتخابي التاريخي والمستحق لنقابة الصحافيين السودانيين. إنه جهد يعكس روح الانتفاضة، وزخم الانتفاضة التي تغيرت معها أوضاع كثيرة وذهنيات كثيرة وأحوال كثيرة. لقد جاء هذا الفعل التأسيسي بمثابة انتفاضة في بنية العمل الصحافي في السودان سواءً لناحية التأسيس، أو لناحية الجودة والقوة، أو لناحية المعرفة بطبيعة مشاق الطريق ورفع سقف التحدي عالياً في المضي عليه، واستئناف العمل بهذا الجسم بعد انقطاع دام 33 سنة.

ثمن الحرية

لم تكن الصحافة الحرة في هذه المنطقة عملاً عادياً أو سهلاً، في يوم من الأيام من دون أن تدفع ثمن حريتها، لأن مهمة التأسيس للأطر التي تجتهد في الرهان على عمل صحافي حر حيال مستهلكي الحقيقة في المجال العام من المواطنين، مهمة ستظل أشبه بصخرة سيزيف. فلا الكواليس والمنعرجات، ولا حجم الفساد الذي غمر السودان في ظل حكم الإخوان المسلمين وأزكم النفوس، ولا الملفات المعقدة لجرائم الحرب الأهلية وانتهاكات حقوق الإنسان وما تم من ممارسات عنف ومجازر بحق المنتفضين، وفساد جهاز الدولة العام، وما وراء كل هذه الملفات من تعقيدات وصعوبات وعراقيل، يمكن أن يكون سهلاً، فتلك المهام الشاقة هي مجال لا يمكن الخوض فيه ما لم يستند فيه العمل الصحافي إلى جسم صحافي صلب، وإلى إرادة صلبة وقواعد مهنية قوية.

إن حرية الصحافة تعتبر أهم الركائز التي بقيت من مكتسبات الانتفاضة. وعلى الرغم من ضياع الكثير في المرحلة الانتقالية المغدورة بانقلاب العسكر، إلا أنه لم يتم التمكن من إمضاء قانون النقابة الذي كان جاهزاً، آنذاك، لكن هذه النقابة الجسورة يأتي نصرها الاستثنائي اليوم في ظل هذا الانسداد، ليشكل ضربة قوية للانقلاب، وفي أحلك اللحظات الحرجة، ما سيجعل من هذه النقابة ومن نجاحها في تنظيم العمل الصحافي الصحافيين عبر كل الجهود، وصولاً إلى انتخاب حر لنقيب الصحافيين، بمثابة صفعة في وجه الانقلابيين. فذلك العرس الانتخابي للصحافيين لن يكون النصر الوحيد بلا شك، ولكنه بكل تأكيد نصر رائد سترتاد من ورائه الطريق بقية الأجسام النقابية السودانية في سبيل استرداد حقها النقابي المشروع، الذي ظل ضائعاً لأكثر من 30 عاماً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"عرس ديمقراطي"

ولم يكن صدفةً أن تتوج نقابة الصحافيين هذا العرس الديمقراطي للانتخابات، لأن ما سيترتب عن ذلك سيعني الكثير جداً لأبناء الشعب السوداني كافة. ذلك أن حرية الصحافة هي في الأساس، المنبر المسؤول في تمليك الحقائق للناس من خلال صحافة نزيهة، تجعل من الحرية والمصداقية رأسمالها المهني، الذي يليق بها في ظل أوضاع سياسية وأمنية توشك أن تغلق على المواطنين كل منافذ استهلاك الحقيقة في قضايا الشأن العام. ولهذا فإن المهام التي سيضطلع بها الصحافيون في ظل هذا الوضع المعقد والخطير، مهام كبيرة وترتبط جوهرياً بالقدرة على مواصلة العمل الصحافي النزيه، كمكسب حققته انتفاضة 19 ديسمبر (كانون الأول)، التي مهر ضحاياها ثمن الحرية التي وصل إليها الصحافيون اليوم، واستطاعوا بفضلها أن ينتزعوا حقوقهم في إعادة انتخاب نقابة صحافية حرة تسهر على حماية الحقيقة واستهلاكها في المجال العام، وتكون مرآةً صادقةً لما يجري في الواقع السياسي والاقتصادي والإعلامي عبر كافة فنون العمل الصحافي.

لقد كان مشهد الصحافيين والصحافيات عرساً ديمقراطياً حقيقياً، وهم يحتفلون على وقع أنغام نشيد "أكتوبر الأخضر"، مشهداً مؤثراً للفرح باستعادة نقابتهم الحرة بعد 33 عاماً من التغييب. فتلك القدرة على إنجاز هذا النصر التاريخي، يبعث على الكثير من الآمال والتطلعات التي تليق بحرية الصحافة.

لم يكن هذا الإنجاز سهلاً بعد 30 سنة من إفساد الحياة السوية في كل المجالات تقريباً، وإلحاق الأذى الجسيم بالصحافة. لذا فإن السواد العام من الصحافيين، وهم في غالبيتهم جيل نشأ في زمن نظام الإنقاذ، وجدوا للمرة الأولى فرصةً للاجتماع الحر والعمل المشترك مع صحافيين كبار ومخضرمين، تفاعلوا معهم بروح حرة من أجل إنجاز تاريخي، فكان لهم ما أرادوا.

مهام مستحقة

إن انطلاقة هذا الجسم الصحافي الحر في ظل الأوضاع الخطيرة التي تعاني البلاد من انهيار غير مسبوق، سيتعين عليه الكثير من إنجاز المهام المستحقة، بعد أن أصبح له سند قوي وسمعة طيبة بين المنتفضين والمواطنين، الأمر الذي سيحفزه على مواصلة العمل لضمان حرية الصحافة وخلق بيئة عمل للصحافيين السودانيين تليق بإنجاز ثورة 19 ديسمبر 2018.

هناك الكثير جداً لإنجازه، فهذا النصر الذي حدث، ذات مرة، في العرس الانتخابي لنقابة الصحافيين، لن تكون عواقبه سهلةً في ظل تشبث العسكر بالسلطة، وسنرى في مستقبل الأيام والأشهر المقبلة، معارك شرسة بانتظاره من قبل الممالئين للعسكر من صحافيي زمن نظام البشير بهدف وضع العراقيل في طريق حرية الصحافة، لكن هيهات!

إن الروح التي بدت تجلياتها عرساً ديمقراطياً في انتخابات نقابة الصحافيين هي روح الانتفاضة والشباب، وهذه الروح بهذا الزخم الذي بدت عليه في نقابة الصحافيين، ستكون معديةً لبقية النقابات التي سنجد لها ردود فعل قوية آتية في الأيام المقبلة، ما سيعني أننا سنكون أمام ظاهرة أخرى لاستئناف التحركات في جبهة الأجسام المطلبية.

ذات مرة، قال الشاعر والمسرحي الألماني الكبير برتولد بريخت، واصفاً أولوية الذين سيتعين عليهم رفع صوتهم ضد القمع في ذروة الحكم النازي عبارته الخالدة: "لن يقول الناس كانت الأزمنة رديئةً، ولكنهم سيتساءلون  لماذا سكت الشعراء؟"، لذا فإنه، بوجه أو بآخر، ستبدو انتخابات نقابة الصحافيين بالنجاح العظيم الذي عبروا فيه عن وعيها الديمقراطي، كما لو أنها الكتيبة الأولى التي ستضطلع باختبار هوية العمل الصحافي الجديد في ظل تحديات جدية، وإثبات قدرته على التعبير عن روح الانتفاضة والتغيير الذي سيظل باستمرار هو رهان الشعب السوداني في مواجهة العسكر بأساليب المقاومة كافة.

بعد هذا الإنجاز التاريخي لنقابة الصحافيين، لن تجدي أساليب القمع والمنع أمام أقوى سلطة يتحصن بها الصحافيون، وهي سلطة الشرعية والحرية التي تمنحهم ضمانة المواجهة المستمرة للظلم والاستبداد.

يمكن القول، إنه بنجاح انتخابات نقابة الصحافيين على هذا النحو الاستثنائي، سيشهد العمل الصحافي فصلاً جديداً حافلاً بالمفاجآت والمواجهات والقدرة على قول الحقيقة في المجال العام، وبذلها لمستهلكي الحقيقة من المنتفضين والمواطنين، بأسلوب سيفتح الطريق واسعاً أمام انتفاضة حقيقية في الجسم النقابي للجماعات المختلفة، عبر تنافس حميم سيشكل بذاته ثورةً موازيةً في الأجسام المطلبية، التي سوف لن تتأخر في الاستجابة للتحدي الثوري. وسنرى ذلك بالضرورة في نقابات أخرى مرشحة لهذا الدور كنقابة المحامين وغيرها من النقابات.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل