بعد نحو 25 عاماً ظل فيها التمثيل الدبلوماسي بين البلدين على مستوى القائم بالأعمال بالإنابة، تسلم وزير الخارجية السوداني المكلف علي الصادق نسخة من أوراق اعتماد السفير الأميركي لدى السودان جون غودفري في جلسة تبادل فيها الطرفان عبارات الترحيب الدبلوماسية مع الأمنيات الطيبة والحرص على علاقات ثنائية متميزة.
وقدم الصادق شرحاً عن الأوضاع السياسية الراهنة في السودان وجهود الحكومة لتحقيق السلام والأمن والاستقرار والتوافق بين المكونات السياسية الوطنية في البلاد، تمهيداً لتشكيل حكومة مدنية تتولى إدارة البلاد خلال ما تبقى من الفترة الانتقالية، وصولاً لإجراء الانتخابات العامة، مؤكداً رغبة السودان وحرصه على علاقات ثنائية متينة مع الولايات المتحدة في المجالات كافة.
مفتاح التعاون
وأكد السفير غودفري، من جهته، سعادته بالعمل في السودان، واعداً ببذل أقصى ما في وسعه لترقية العلاقات بما يحقق مصلحة البلدين والشعبين وتطلعه للعمل الجاد والمخلص لتحقيق هذه الغاية.
وأعلنت السفارة الأميركية في البلاد، الأربعاء الـ24 من أغسطس (آب) وصول غودفري إلى الخرطوم ليكون أول سفير لبلاده في السودان منذ ما يقارب 25 عاماً، وذكر تعميم صادر عن السفارة أن غودفري سيعمل بصفته ممثلاً بارزاً للحكومة الأميركية على تعزيز العلاقات بين (الشعبين) الأميركي والسوداني ودعم تطلعاتهما إلى الحرية والسلام والعدالة والانتقال الديمقراطي. أضاف أنه يتطلع إلى النهوض بالأولويات المتعلقة بالسلام والأمن والتنمية الاقتصادية والأمن الغذائي.
وغرد السفير الأميركي على "تويتر" شارحاً أن لقاءه وزير الخارجية المكلف تناول تعميق العلاقات بين شعبي البلدين، إلى جانب أهمية تكوين حكومة جديدة بقيادة مدنية معتبراً تكوينها المفتاح لتسهيل تعاون أكبر بين الحكومات، وإطلاق مزيد من المساعدات الأميركية والدولية التنموية، ومؤكداً التزام الولايات المتحدة بالمساعدات الإنسانية إلى ذلك الحين.
بدورها قالت السفارة الأميركية بالخرطوم، في تعميم قصير، إن الولايات المتحدة ستظل شريكة ثابتة لشعب السودان، وستستمر في تقديم المساعدات الإنسانية لمكافحة ما وصفته بالآثار المدمرة لانعدام الأمن الغذائي والعنف والفيضانات.
ماذا تعني العودة؟
فكيف يرى المتخصصون والمتابعون عودة السفير الأميركي إلى الخرطوم في ظل هذه الظروف المعقدة والأزمة السياسية المستفحلة التي تعيشها البلاد؟
في السياق، أوضح الدبلوماسي السابق علي يوسف أن عودة السفير الأميركي إلى الخرطوم بعد كل هذه السنوات تنطوي على دلالتين مهمتين، الأولى أن الولايات المتحدة ما زالت حريصة على أن يكون مستوى التمثيل بين البلدين على مستوى السفير، من خلال موافقتها على ترشيح سفير السودان في واشنطن وترشيحها غودفري في وقت سابق، والثانية أنها تعكس اهتمام واشنطن أن تكون علاقاتها بالخرطوم على مستوى دبلوماسي عال بإنهاء حال رئاسة البعثة بواسطة القائم الأعمال بالإنابة، ما يؤكد اهتمام واشنطن بأهمية السودان في المنطقة العربية والأفريقية والبحر الأحمر على وجه الخصوص.
اعتراف ورغبة
واعتبر يوسف الخطوة الأميركية دليلاً على أنها تتعامل بواقعية في ما خص التطورات السياسية التي تعيشها البلاد، مع رغبتها في أن تتواصل الجهود لإيصال الفترة الانتقالية إلى مرحلة التحول الديمقراطي الكامل في نهايتها، وتود أن تكون مشاركتها في ذلك على مستوى عال وبسفير متخصص ومتمرس، مضيفاً أن "الخطوة الأميركية بعودة التمثيل الدبلوماسي الكامل تأتي أيضاً في سياق اهتمام الولايات المتحدة بالعلاقات مع أفريقيا بشكل عام في إطار ما تقوم به من جهود بدأتها بإطلاق استراتيجية جديدة لعلاقاتها الأفريقية، من خلال مبادرات اقتصادية وتجارية في تطوير هذه العلاقات، ولا شك أن السودان دوله مهمة في الإطارين العربي والأفريقي، بخاصة في ما يتعلق بأمن البحر الأحمر وأيضاً حول التوجهات الأميركية في مقاومة الهيمنة الإيرانية على بعض المناطق المحيطة بالسودان، مثل ما يجري في كل من اليمن وسوريا ولبنان، وغيرها، فضلاً عن علاقة الأمر كذلك باتجاه تطبيع العلاقات مع إسرائيل". وقال إن كل ذلك يؤكد أن واشنطن بدأت قرارها بإعادة ترفيع تمثيلها الدبلوماسي بالخرطوم، ومضت فيه بناءً على مصالحها الاستراتيجية وأهداف سياساتها في المنطقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونوه الدبلوماسي السابق بأن العلاقات السودانية الأميركية كانت بالأساس كاملة في درجة السفير في كلا البلدين، غير أنه، قبل نحو 25 عاماً، تم تخفيض التمثيل الدبلوماسي بينهما وسحب السفراء، كمؤشر على تدهور العلاقات بينهما بسبب اتهامات أميركا السودان وقتها بالضلوع في أعمال إرهابية.
تحديات وتحولات
وأعرب أستاذ العلاقات الخارجية والتحليل السياسي عبد الرحمن أبو خريس عن اعتقاده أن عودة ترفيع التمثيل الدبلوماسي الأميركي إلى درجة السفير مرة أخرى، تعني أن هناك مهام كبيرة تعتزم الولايات المتحدة القيام بها في السودان ودول الجوار الإقليمي في المرحلة المقبلة، لأن المهام الدبلوماسية الاستراتيجية تتطلب مبعوثين كباراً بتفويض أوسع، ما يعني أن الولايات المتحدة تدرك حجم التحديات والتحولات التي تمر بها المنطقة والتي اقتضت في تقديرها ترفيع تمثيلها الدبلوماسي بالخرطوم بما يحافظ على مصالحها في البلاد وكل المنطقة.
ولفت أبو خريس إلى أن سفارة الولايات المتحدة بالخرطوم باتت أكبر السفارات في الشرق الأوسط وأفريقيا من حيث المباني والتجهيزات، مما يشير إلى تطلعها لأن تلعب الخرطوم دوراً استراتيجياً بالقرن الأفريقي في المرحلة المقبلة، من حيث التبادل الأمني والاستخباراتي في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية وسعي الولايات المتحدة لكبح التمدد الروسي في أفريقيا بعد مؤشرات الانفتاح السوداني شرقاً، فضلاً عن إنشاء مظلة إقليمية ضد النشاط الإيراني، وكل ذلك يتطلب تمثيلاً دبلوماسياً رفيعاً قادراً على لعب الدور المنتظر، كما نوه أستاذ العلاقات الخارجية بأن حسابات البعد الداخلي في السودان تبقى حاضرة بقوة في ذهن الولايات المتحدة وتبنيها قضية التحول المدني الديمقراطي، لا سيما أن حماية الديمقراطية هي التي شكلت أساس برنامج الرئيس جو بايدن.
هل هي العصا؟
على نحو متصل، ذكر الدبلوماسي السابق الصادق المقلي بالتصريحات السابقة التي رصدت للسفير غودفري وهو في الخارجية الأميركية في شأن ما يجري في السودان، ولا سيما قوله إن "العقوبات هي أداة مهمة في حوزتنا لدعم الاتجاه لتغيير المواقف"، ودعوته إلى ضرورة اتخاذ خطوات لتسهيل الحوار السياسي ووقف العنف ضد المتظاهرين، وضرورة دراسة العقوبات المحتملة ووطأتها على تصرفات قادة الجيش ومواردهم المالية، وقوله أيضاً "من المهم تجميد الإعفاءات من الديون والمساعدات التنموية، والحكم العسكري أدى إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والأمنية والسياسية"، وتصريحه أنه "غير مستعد لتجاهل مطالب الشعب السوداني في الديمقراطية والحكم المدني"، مشيراً أيضاً إلى أنه على خلفية كل ذلك رب سؤال عما إذا كانت واشنطن ستتحول إلى سياسة العصا في تعاطيها مع النظام العسكري في السودان في المرحلة المقبلة بعد وصول السفير الجديد إلى الخرطوم.
ويلاحظ المقلي أن تصريحات السفير الأميركي السابقة تبدو كأنها رسائل في بريد المكون العسكري الحاكم في السودان، وأهم ما ورد فيها رهن الولايات المتحدة بالتالي حلفائها عملية استئناف التعاون الدولي مع النظام في الخرطوم باستعادة مسار التحول الديمقراطي واحترام الحريات العامة وعلى رأسها حرية التعبير والتظاهر السلمي.
القانون البوصلة
يضيف المقلي، "ظلت الولايات المتحدة مهتمة بالشأن السوداني منذ سقوط حكومة عمر البشير ونجاح ثورة ديسمبر (كانون الأول)، وقد كانت العلاقة فاترة، على الرغم من وجود التمثيل الدبلوماسي على مستوى القائم بالأعمال"، ولفت إلى أن قانون دعم التحول الديمقراطي والمحاسبة والشفافية المالية لعام 2020 من أهم بنوده قضية استدامة التحول الديمقراطي وفق ما نصت عليه الوثيقة الدستورية، وهو القانون الذي شكل بوصلة العلاقات بين الولايات المتحدة والسودان، وصادق مجلس الشيوخ الأميركي على تعيين غودفري سفيراً للولايات المتحدة لدى الخرطوم منذ يوليو (تموز) الماضي.
ويعتبر غودفري من الدبلوماسيين القدامى بالخارجية الأميركية، وعمل في دول عربية عدة وفي وبعثة بلاده الدائمة بالأمم المتحدة في فيينا، ومبعوثاً خاصاً للتحالف العالمي لدحر تنظيم "داعش" ومنسقاً لمكافحة الإرهاب بوزارة الخارجية الأميركية.
مخاوف إرهابية
وعام 1993 قلصت واشنطن بعثتها الدبلوماسية في الخرطوم إلى أقل من 30 عضواً خوفاً على سلامتهم، إلا أن العلاقات بين البلدين ظلت على مستوى السفراء حتى أواخر عام 1996، وقررت بعدها واشنطن، مطلع 1997، إغلاق سفارتها بالخرطوم بسبب مخاوف إرهابية، لكنها أعادت افتتاحها في 2002 مع تقليص التمثيل الدبلوماسي إلى القائم بالأعمال بالإنابة، وأصدر الرئيس الأميركي بيل كلينتون في 1997 أمراً تنفيذياً يقضي بموجبه بتطبيق العقوبات الاقتصادية ضد السودان ووصفه بأنه الدولة الوحيدة في أفريقيا التي تهدد المصالح الأميركية جنوب الصحراء.
وفي الـ20 من أغسطس 1998 قصفت الولايات المتحدة مصنع الشفاء للأدوية بالسودان بحجة علاقته بزعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن، المتهم بالضلوع في تفجير سفارتي الولايات المتحدة في كل من دار السلام ونيروبي، واحتجاجاً على قصف مصنع الشفاء سحب السودان سفارته من واشنطن في 1998.
وكان رئيس وزراء السودان السابق عبد الله حمدوك أول مسؤول سوداني يزور واشنطن طوال تلك السنوات، وعينت الخرطوم أول سفير لها هناك بعد نحو 23 عاماً هو نور الدين ساتي في 2020، الذي استقال من منصبه بعد إجراءات 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي احتجاجاً على الانقلاب، ووافقت واشنطن على اعتماد محمد عبد الله بديلاً منه.