كلما حلت ذكرى الثورة أو ذكرى الاستقلال يستعيد الوسط الثقافي في الجزائر عزمه الحديث عن التاريخ الذي لا يزال يشهد كثيراً من الجرائم العالقة داخل المجهول، وبدلاً من أن يقدم موضوعاً بمثل هذه الأهمية على مدى الحياة الثقافية، أصبح المثقف نفسه يشارك الذكرى بكتابة رمزية، مثل مقالة عابرة أو بتغيير صورة على حسابه الـ "فيسبوكي"، متخلياً عن موقفه الثقافي الصارم تجاه كتابة التاريخ من الطرفين عوض طرف واحد.
وفي حين يستقبل الحدث ذاته في الضفة الأخرى، فرنسا، بكثير من الجهود من طرف الكتاب والمؤرخين الفرنسيين، تنشر أعداد خاصة في كبريات الصحف للحديث عن تاريخ الجزائر – فرنسا.هل تعاني الأوساط الثقافية الجزائرية أزمة مثقف يستطيع إحالة الكتابة عن موضوع ما إلى التقاعد، أو أن هذه الأوساط تخوض اليوم زوبعة تاريخية يريد الطرف الآخر الحديث مطولاً عنها حتى لا يمنح للآخر متسعاً من الوقت لقول ما لديه؟
إشكالية زيارة ماكرون
زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجزائر لمرة ثانية منذ توليه الحكم في عهديه، وضمن برنامجه لهذه الزيارة خصص للثقافة المشتركة بين البلدين جولة في البلاد، وهذا نوع من تليين العلاقة التي شابها تأزم خلال الفترة الأخيرة وصل حد غلق المجال الجوي على الطائرات الفرنسية العسكرية، أو محاولة من فرنسا مجدداً تقديم رومنسيتها بدلاً من اعتذارها.
ومن بين الأماكن التي زارها الرئيس الفرنسي "مقبرة سانت أوجين" أو ما يسمى بالمقبرة الأوروبية "ببلوغين" في أعالي باب الواد، حيث دفن مسيحيون ويهود خلال فترة الاستعمار، وقد رافقه إليها في يومه الثاني بالجزائر المخرج أركادي ألكسندر وهو من مواليد الجزائر، ومخرج الفيلم المقتبس عن رواية الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا "فضل الليل على النهار"، وبصحبتهما كان رجل الاقتصاد جاك أتالي وهو الآخر من مواليد الجزائر في زيارة كانت خصيصاً لقبر الممثل روجيه آلان.
وقام أيضا بزيارة المسجد الأعظم في العاصمة وواصل هذه الجولة الثقافية إلى حتى قلعة "سانتا كروز" في وهران ومحل إنتاج أشرطة موسيقى الراي "ديسكو مغراب"، ويبدو أن البرنامج الثقافي هذا ما هو إلا خطوة متممة لما باشرت به فرنسا منذ بداية السنة في موسمها الثقافي اللافت والمبرمج لسنة 2022، وهي السنة التي تحتفل فيها الجزائر بمرور الذكرى الـ 60 للاستقلال، وقد خصص قصر الـ "إليزيه" جدولاً لتكريم رموز المقاومة ضد الاستعمار وتقديم عشرات المنح للباحثين من البلدين لإنجاز أعمال حول الثورة، فتصدرت كبريات الصحف والمجلات الفرنسية عناوين صفحاتها "الثورة الجزائرية".
رحلة تاريخية وجغرافية
مجلة "الجغرافيا - التاريخ" عنونت عددها الصادر في شهر مارس (آذار) "حرب الجزائر: الوقائع، الرجال، الخلافات"، وعلى مدى 110 صفحات تقودنا الأسماء الكثيرة عبر مقالاتها وحواراتها والصور التي تنشر للمرة الأولى في رحلة تاريخية وجغرافية تستدعي التوقف عندها، والإنعام في ما يريد الآخر قوله لنا تارة وعنّا تارة أخرى، وافتتحت مجلة "لوبس" في عددها الذي خصصته عن تاريخ الاستعمار الفرنسي في الجزائر بفقرة حيادية لافتة للانتباه خلال تناولها موضوعا حساساً بين البلدين، وليس بغريب عنها موقف كهذا تجاه التاريخ إذا ما عرفنا أن هذه المجلة التي كانت يسارية وأيدت الثورة الجزائرية شأنها شأن مجلة "ليكسبرس" وقتها، حينما كان يترأسها مؤسسها الراحل الكاتب والإعلامي جان دانيال المعروف بمواقفه المؤيدة لاستقلال الجزائر، وقد جاء فيها "قد لا ننتبه كيف عاشت ستة أجيال من الجزائريين هذا الاحتلال الطويل من أوله إلى آخره، هذا الاستعمار الذي لم يقبله الجزائريون أبداً كان سرطاناً طويلاً وخبيثاً، لم يتوقف عن إنتاج العنف واللامساواة والاهانات، هذا الليل الاستعماري لا نتحدث عنه كثيراً، في غزوه الطويل، في دمويته وإجرامه، هذا الصمت المطبق على "الأنديجينا" (عن السكان الأصليين) الذين تمت مصادرة أراضيهم الفلاحية وحقوقهم وقد وضعوهم تحت رحمة الإدارة الاستعمارية التي أفقرتهم، وعلى عكس ما حاول إيهامنا "الكولونياليون" لم تكن هناك تهدئة، فالاستعمار عبارة عن حرب لم تنته أبداً، ويمكننا القول إن حرب الجزائر امتدت 132 سنة".
ومن الأحداث التاريخية الشنيعة التي تناولتها المجلة محرقة "جبال الظهرة" سنة 1845، وقد صنفت هذه المحرقة ضمن جرائم الحرب ضد الإنسانية، إذ قام على إثرها المجرم بيليسيه بإشعال النار في المغارة التي لجأ إليها سكان قبيلة أولاد رياح من شيوخ وأطفال ونساء ومواش، مأموراً من الماريشال السفاح بيجو. لقد اختفى يومها ما يقارب 700 إلى 1000 ضحية، والغريب، كتبت المجلة، أن جميع الضباط الفرنسيين المجرمين الذين قاموا بهذه المجازر وجرائم الحرب تمت ترقيتهم، فقد أصبح كافينياك الرجل القوي في الجمهورية الفرنسية الثانية، وبيليسيه الحاكم العام رقي ليصبح ماريشالاً.
الإستعمار المؤلم
وعلى النقيض تماماً جاء عدد مجلة "إيستوريا" الخاص بتاريخ الاستعمار الفرنسي في الجزائر غير محايد، وتعد هذه المجلة من أقدم المجلات الفرنسية التاريخية، وتضمن حوارات مع مؤرخين وكتاب جزائريين وفرنسيين منهم الكاتب ياسمينة خضرا، أما الملحق الأدبي لصحيفة "لوفيغارو" فلم يكن غائباً عن الحدث هو الآخر، إذ اهتم ملفه الأسبوعي في عدده الخاص المعنون" فرنسا - الجزائر: التمزق" بقراءة عشرة أعمال تاريخية صدرت حديثاً في فرنسا وتناولت مواضيعها قضية الاستعمار الفرنسي انطلاقاً من زوايا مختلفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واهتم بجمع هذا الملف الكبير الكاتب الجزائري بوداوود عمير، ومن خلال هذه الإضاءة استطاع أن يوصل للقراء والكتاب على السواء فكرة مهمة، وهي أهمية النبش داخل توابيت التاريخ المغلقة بالسلاسل السياسية والمرممة، وتجاوز كل أولئك الذين يروجون لفكرة "أن الكتابة عن تاريخ الجزائر في الفترة الاستعمارية أصبح موضوعاً مستهلكاً"، إذ لا يُمكن لموضوع خاص بمرحلة تاريخية كهذه امتلاك قابلية الاستهلاك أو التقادم، فالجرائم لا تسقط بالتقادم ومعها التاريخ.
ليس من المستغرب إذاً أن تكلل السنة الثقافية في فرنسا بالنجاح بعد مرور 60 سنة من خروجها من الجزائر، فقد كانت الأوساط الثقافية الفرنسية حافلة بالتاريخ الجزائري الفرنسي على عكس الأوساط الثقافية الجزائرية التي لم نشهد لها حركة لافتة حول الموضوع، سواء في الصحف والملفات الخاصة أو من ناحية المنجز الأدبي، فالموسم الأدبي الفرنسي على سبيل المثال انطلق بـ 490 رواية جديدة ستصدر خلال هذه الفترة حتى منتصف أكتوبر (تشرين الأول) 2022، وتناول فيها الكتاب مواضيع عدة منها" تاريخ الجزائر" كما أشارت جريدة "لوموند". ومن بين الأعمال رواية "المتوسطيات" للكاتب إيمانويل روبن، وهي رواية يرصد فيها حياة عائلة فرنسية بأجيالها خلال الفترة الممتدة من سنة 1837 إلى غاية سنة 1962، رواية "الفضلاء" لياسمينة خضرا، رواية " رياح سيئة" للكاتبة كوثر عظيمي، لكن أكثر عمل لفت انتباه الإعلام والنقاد هو "هجوم الأرض والشمس" لماتيو بيليزي، وقد اختير على قصر حجمه البالغ 160 صفحة ضمن قائمة جائزة "لوموند 2022".