لماذا الجامعات في العالم العربي؟
هذا السؤال ليس أحجية ذهنية، بل هو سؤال استفهامي لا أكثر ولا أقل. فطيلة العقود الخمسة الماضية، كانت الجامعات، سواء منها الحكومية أو الخاصة، في أغلب الدول العربية، مكمن الداء ومقصد الدواء.
راهنت عليها الحكومات في خططها المستقبلية، وعقد الأهل عليها الرجاء بمستقبل واعد لأبنائهم، وانتمى إليها عشرات الألوف من الطلبة بدافع الشغف أو على غير هدى.
طيلة عقود، وبحسب تقارير وإحصاءات، أصبحت الجامعات العربية مصنعاً هائلاً لفرق المعطلين عن العمل. فأين يكمن الخلل؟ هل في البنية الأكاديمية للجامعات نفسها واختصاصاتها التقليدية؟ أم في تركيبة أسواق العمل، و"مزاجها" الاستقطابي الذي يعرض عن المكلف ويسعى وراء المجزي؟ أم أن العلة تكمن في المعلم والمتعلم؟
هذه القضية الملحة حاولت "اندبندنت عربية" استقصاء كوامنها وتمظهراتها في كل من: مصر، والأردن، والسعودية، والعراق، والجزائر، والسودان، ولبنان وتونس، وعادت بالحصيلة التالية:
يشكل الأطفال والشباب نحو نصف سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتسجل الفئة العمرية الأخيرة أعلى معدلات البطالة بين نظرائهم في العالم. فيما لا تتناسب أنظمة التعليم والمناهج الحالية مع تطور سوق العمل والتغييرات في طبيعة العمل كونها لا تزود الشباب بالمهارات الأساسية اللازمة للنجاح في اقتصاد اليوم. بحسب البيان الصادر عن منظمة العمل الدولية، فالتغيير الحاصل في سوق العمل لم يترافق مع التغييرات التي تتماشى معه على صعيد الأنظمة التعليمية والتوجيه.
مصر: سوق العمل وسوء الاختيار في الثورة الصناعية الخامسة
الخط البياني يقول كثيراً... في العام الدراسي 2019-2021، ضخت الجامعات المصرية ثلاثة ملايين و339 ألف خريج وخريجة. يفترض أن تكون عملية الضخ مآلها سوق العمل. لكن واقع الحال يشير إلى تعدد مصبات الضخ. المقاهي عامرة والبيوت متخمة وأسواق العمل الهامشية والمؤقتة المتحولة مزمنة، مأهولة بأمم وقبائل يتراكمون على مدار الأعوام.
من أيمن (32 سنة) خريج كلية الآداب الذي يعمل في حسابات مطعم صغير، إلى رانيا (28 سنة) خريجة كلية سياحة وفنادق التي تعمل مشرفة في حضانة خاصة، إلى مستر أحمد (40 سنة) الذي تخرج في كلية العلوم بعدما فشل في الالتحاق بكلية الطب وأصبح مدرس كيمياء في "سنتر" للدروس الخصوصية، يكاد ينضح كل بيت في مصر بقصة طويلة حزينة عن ابن عزيز وكلية عتيقة ومستقبل سار عكس الاتجاه.
كليات تناسب السوق
الاتجاه الحالي في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي هو تأسيس كليات في الجامعات تناسب متطلبات سوق العمل. في "منتدى شباب العالم" السنوي الذي يقام في مدينة شرم الشيخ، أطلق الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي فكرة إنشاء كليات لدراسة الذكاء الاصطناعي في الجامعات المصرية، وذلك استجابة لمتطلبات سوق العمل.
الفكرة رائعة كما أنه طال انتظارها. عقود طويلة ومنظومة التعليم الجامعي ودراسات المتخصصين وتوصيات الخبراء تؤكد ربط التعليم الجامعي بسوق العمل واستشرافها. لكن العقود مرت، وسوق العمل لم ترتبط بالتعليم ولم تحدث الاستشراف.
شارف مكتب تنسيق الثانوية العامة على سن أسنانه هذا العام بمفهوم جديد ورؤية، يصفها فريق الإصلاح بأنها الطريق إلى المستقبل حيث تقليص هامش الكليات، التي لا مجال للعمل بها في سوق العمل المتقزمة أصلاً، مثل التجارة والآداب والحقوق وغيرها. وتنعتها جبهة الرفض بقتل طموح الشباب الراغبين في الحصول على حقهم في تعليم جامعي.
طموح الملايين
لكن التعليم الجامعي في مصر على مدار عقود لا يحقق طموح الملايين في الالتحاق بالكليات، لكنه يزهقها عقب التخرج، إذ إن نسبة معتبرة من الشهادات لا علاقة لها بمتطلبات سوق العمل لا من قريب ولا من بعيد.
بعدما صرح رئيس قطاع الإحصاءات السكانية والتعدادات في "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" طاهر صالح قبل أسابيع، أن أكبر أعداد خريجي جامعات يأتون من كليات التجارة والحقوق والآداب، وأن هذه الكليات الثلاث تحتفظ لنفسها بمكانة الصدارة على قائمة الأعلى بطالة، اعتبر كثيرون ما قيل والعدم سواء.
فسواء أراد الطالب الالتحاق بكليات البطالة أو قاده حظه العاثر إليها أو أجبره مجموعه المتدني عليها، يبقى السؤال حول توقيت وتسريع وتوطيد العلاقة بين سوق العمل والدراسة الجامعية، ينتظر إجابات.
إجابة تحمل كثيراً من المعاني قالها وزير التعليم العالي خالد عبدالغفار قبل أيام قليلة، في لقاء عنوانه "الجامعات والطلبة الجدد: مستقبل مشترك". "يتوقع اختفاء 85 مليون وظيفة بحلول 2025. ومصر أمة شابة لديها مهارات يمكن تصديرها. وإذا تم استغلال هذه المهارات جيداً، فإن القوة السكانية لن تمثل أي عبء على الدولة. فغالبية المصريين شباب، وهذا ما تم وضعه في الاعتبار أثناء العمل على استراتيجية الوزارة (التعليم العالي)، التي تعتمد على التغييرات التي طرأت على طريقة العمل وآليات الإنتاج وعمل الموظفين في المؤسسات".
رسائل مبطنة
وأشار عبدالغفار، في ما يعتقد أنها رسائل مبطنة للجيش الجرار الذي أوشك على طرق باب مكتب التنسيق: "الوظائف الجديدة المتوقع نموها خلال عام 2025 هي: محلل بيانات، متخصصو ذكاء اصصناعي وبيانات ضخمة وتسويق رقمي وتطوير برمجيات وأمن معلومات".
في المقابل، سينخفض الطلب، أو انخفض بالفعل،على مدخلي البيانات والمراجعين والمحاسبين وموظفي المخازن وغيرها من الوظائف التي تزخر بها قائمة تغذيها كليات البطالة.
الوزير وجه كلامه إلى خريجي الثانوية العامة الجدد، قائلاً إن التدريب على المهن الجديدة لم يعد رفاهية أو اختياراً. فالقدرة على الابتكار وخوض مضمار التكنولوجيا عاملان محوريان في سوق العمل، "وهذه ملكات ومهارات لا تكتسب في التعليم الجامعي والمدرسي، ولكنها تتاح عبر دورات تدريبية موجودة في مواقع مختلفة على الإنترنت.
التباهي عبر الإطار
لكن لا دورات التدريب على المهارات على الإنترنت، أو خوض مضمار المهن والحرف مثل السباكة وأعمال البناء، يمكن التباهي بها عبر إطار ذهبي في مدخل صالون البيت، أو تضمن موقفاً قوياً لدى التقدم لخطبة ابنة الجيران الحاصلة على ليسانس أو بكالوريوس لا يحمله العريس، ولا تشفع له دوراته التدريبية أو مهاراته الابتكارية أو حرفته التي صقلتها الدراسة غير الجامعية.
وإذا كانت العوائق الاجتماعية في مصر ما زالت تحول دون كسر وصمة التعليم المهني أو تفعيل التحول نحو التدريب واكتساب مهارات، لا تتصل بالضرورة بقاعات التعليم الجامعي، فإن الثورة الصناعية الخامسة التي تدق أبواب العالم لن تستثني مصر وتعليمها الجامعي وسوق عملها.
وداعاً للوظائف الروتينية
وقبل نحو سبعة أعوام، كتبت مؤسسة "الابتكار والتميز في سياسات التعليم" (مركز فكري)، التي شغلت منصب مدير التعليم في "البنك الدولي" لسنوات عدة كلاوديا كوستين ورقة عنوانها "كيف يمكن للجامعات أن تلبي الحاجات الجديدة لسوق العمل والمجتمع؟". أشارت كوستين إلى أن المهارات عامل أساسي للمشاركة في قوة العمل وتعزيز إنتاجية العمالة، وأنه بسبب التأثير الكبير للوسائل التكنولوجية الوليدة والسريعة الانتشار، والمرتبطة بمجال المعلومات والاتصال وأثرها في تنظيم بيئة العمل، فإن الوظائف القائمة على مهمات روتينية يسهل القيام بها آلياً في طريقها إلى الاختفاء. وأضافت أن فرص العمل الجديدة تتطلب مهارات غير روتينية، مثل القدرات التحليلية والإبداعية والمتعلقة بمهارات التواصل مع الآخرين، وهي المهارات التي ما زال البشر يتفوقون فيها على الآلات.
وأشارت إلى أهمية ضلوع الجامعات في إعداد المهنيين، في وقت يقل الطلب كثيراً على الأعمال الروتينية التي أصبح في إمكان الآلات وتكنولوجيا المعلومات القيام بها. لذلك، فإن دور الجامعات المهم في التعليم والتدريب مستمر، إضافة إلى ضرورة التفاتها إلى أهمية دورها في تقديم منصات للتعلم مدى الحياة.
تقلب الحياة وحلم الميري
الحياة في مصر منذ أحداث يناير (كانون ثاني) عام 2011 تتقلب وتتبدل، ولم تترك مجالاً كبيراً للحاق بما فات من ضرورة لتطوير التعليم الجامعي وتحقيق الرابط المرجو بينه وسوق العمل. وأضاف عامان من الوباء قدراً أكبر من التباطؤ، ما أدى إلى استمرار منظومة حشو الجامعات بأكبر عدد ممكن من حاملي شهادة الثانوية العامة، من دون النظر إلى نوعية الحشو أو الغرض منه بقدر الانشغال بكميته.
وبحسب أطروحة ماجستير أعدها الباحث في كلية التربية أسامة محمد الجميل تحت عنوان "تطوير التعليم الجامعي لمواجهة تحديات سوق العمل المصرية" (2018)، فإن تلبية التعليم الجامعي المصري لمتطلبات سوق العمل لم تكن قضية مطروحة للنقاش أو تشغل البال، وقت كانت سوق العمل المصرية تستوعب جميع خريجي مؤسسات التعليم الجامعي، وتضمن لهم الوظيفة المناسبة، التغيرات والتحولات الاقتصادية في سوق العمل التي حدثت في الأعوام الأخيرة، جعلت من هذا الربط قضية جوهرية.
اللافت أن الحديث عن توظيف خريجي الجامعات في المصالح والمؤسسات الحكومية ما زال دائراً. وحلم "الميري" بدخله الضعيف ومميزاته المتراوحة بين ساعات عمل محدودة وتأمين صحي وكفاءة شبه معدومة وطموح سقفه أقرب ما يكون إلى الأرض، ما زال حلماً يراود البعض.
هذا البعض يشمل قطاعاً من الأهل وقدراً من الأبناء والبنات، الذين يطرحون حججاً وأسباباً تقف على طرف النقيض من حتمية تطوير محتوى الكليات الجامعية، وتطهير الشوائب العالقة بمفهوم الالتحاق بالجامعة من الأصل.
رئيس جامعة القاهرة محمد عثمان الخشت تحدث في ملتقى "الجامعات والطلاب الجدد: مستقبل مشترك"، عن أحدث كليات الجامعة، وهي كلية "النانو تكنولوجي". كما أشار إلى جهود الجامعة للالتحاق بركب الثورة الصناعية الخامسة، حيث العمل على إنشاء كلية للذكاء الاصطناعي والروبوت وكلية الطاقة الجديدة والمتجددة، وكذلك كلية علوم وتكنولوجيا الفضاء.
دمج البشر والتكنولوجيا، أو الشراكة بين الذكاء البشري والاصطناعي، أو التناغم المثمر والتعاون المشترك الذي يحترم حدود الطرفين: البشر والآلة حين يعبر عن نفسه في كليات جامعية مصرية، فهذا إنجاز عظيم. والإعلان قبل أيام عن اعتناق عشر جامعات مصرية أساليب الذكاء الاصطناعي في العام الدراسي المقبل، سواء عبر كليات جديدة أو تطوير كليات موجودة بالفعل ولكن طبقاً لقواعد التقنيات الحديثة، أو بتقديم دورات تدريبية في الذكاء الاصطناعي والروبوتات، أمر يدعو إلى التفاؤل.
لكن يبقى التفاؤل حذراً أمام سؤال أحد الطلاب المتفوقين ممن حصلوا على شهادة الثانوية العامة هذا العام: هل سوق العمل مهيأة لاستيعاب خريجي كليات الذكاء الاصطناعي وعلوم الروبوت وتكنولوجيا الفضاء؟ أم ستتحول الشهادة ورقة للتداول الاجتماعي، يبحث حاملها عن وظيفة في سوق العمل، ويعتبر التحاقه بالمستقبل سوء اختيار الحاضر؟!
الأردن: نصف الوظائف الحالية لن يكون متاحاً بعد 5 سنوات
تحوّلت الجامعات الأردنية منذ سنوات إلى آلة لتفريخ العاطلين عن العمل من حملة الشهادات، بخاصة مع ارتفاع نسبة البطالة في البلاد على نحو غير مسبوق، وبنسبة قاربت الـ30 في المئة.
وبسبب سياسات القبول الجامعية التي يصفها مراقبون بالخاطئة، يتكدس اليوم نحو 500 ألف طلب توظيف في ديوان الخدمة المدنية الذي بات عاجزاً أمام تزايد التخصصات الراكدة وغير المطلوبة، فضلاً عن الإصرار على التوجه نحو التعليم الأكاديمي بدلاً من التعليم المهني.
ويبلغ عدد الطلاب على مقاعد الدراسة الجامعية في الأردن نحو 400 ألف طالب وطالبة، وفقاً لوزارة التعليم العالي التي تقول إن أكثر من نصفهم يدرسون في الجامعات الحكومية الرسمية.
ويرسم وزير العمل الأردني نايف استيتية صورةً قاتمة بتأكيده أن نصف الوظائف الحالية في المملكة لن يكون متاحاً بعد خمس سنوات. ويشير إلى أن التخصصات التي استُحدثت خلال السنوات الماضية لم يتم ربطها بمتطلبات سوق العمل المحلية، مطالباً بالتركيز على المهارات بدلاً من الشهادات والدرجات العلمية. ويلفت وزير العمل الأردني إلى أن الطلب في سوق العمل كبير جداً لأصحاب المهارات الفنية والتقنية، منتقداً عدم إقبال الأردنيين على المهن المختلفة التي يحتلها اليوم العاملون الوافدون.
ويعتقد مراقبون أن التوسع في إنشاء الجامعات والشيخوخة المبكرة التي وصل إليها قطاع التعليم العالي والتضخم المفرط في قبول أعداد الطلبة في الجامعات أسهما بشكل أو بآخر في عدم حصول الخريجين على وظائف.
عاطلون من حملة الشهادات العليا
بدوره، تحدث وزير التعليم العالي والبحث العلمي وجيه عويس عن وجود نحو 400 ألف عاطل عن العمل من حملة الدراسات العليا، مُلقياً باللائمة على برامج القبول الجامعية كثيرة والمتعددة التي أسهمت بزيادة أعداد الطلبة الخريجين بشكل فاض عن الحاجة. وأضاف أن "نحو 95 في المئة من خريجي الثانوية العامة يتوجهون إلى الجامعات، بينما يتجه الباقون وهم قلة إلى التعليم المهني والتقني، فأصبحت الفجوة كبيرة بين العرض والطلب".
من جهة أخرى، يقول رئيس ديوان الخدمة المدنية المعني بتوظيف الأردنيين سامح الناصر، إن "39 تخصصاً مصنفاً بالراكد (غير مطلوب) في الجامعات سيتم التوقف عن استقبالها لأن أعداد الخريجين فيها تكفي احتياجات سوق العمل المحلية لفترة لا تقل عن 10- 15 سنة مقبلة".
ودعا الناصر طلاب الثانوية العامة وذويهم إلى الاطلاع على ما هو مطلوب من تخصصات في سوق العمل قبل التوجه إلى اختيار تخصص دراسي، حتى لا ينضم هؤلاء إلى جيش العاطلين عن العمل مستقبلاً.
وأكد الناصر أن البطالة تتركز بين حملة المؤهل الجامعي والثانوية العامة فما دون، مشيراً إلى "وجود 61 ألف مهندس جامعي من دون وظيفة على سبيل المثال، في ظل تراجع نسبة التعيين خلال العقد الأخيرة إلى نحو 2.3 في المئة فقط من إجمالي عدد طلبات التوظيف".
أرقام مقلقة
في العام الحالي تقدم 204 آلاف طالب وطالبة إلى امتحانات الدراسة الثانوية، ما يعني انضمام مزيد من العاطلين عن العمل إلى قائمة البطالة، بخاصة بين الإناث، إذ تبلغ نسبة التعطل لديهن نحو 78 في المئة.
وتتقاطع هذه المعلومات مع تقديرات مقلقة حول عدد الشبان الأردنيين الراغبين بالهجرة، إذ تزيد نسبتهم على 63 في المئة، في وقت يزيد فيه عدد الخريجين الجامعيين سنوياً عن 120 ألف شخص مقابل فرص عمل سنوية لا تزيد على 40 ألف فرصة فقط.
وظل الأردن إلى وقت قريب في مقدمة الدول العربية التي تتصف بجودة التعليم الجامعي، لكن هذه السمعة الطيبة بدأت بالتراجع أخيراً بعد سحب دول خليجية عدة من بينها الكويت وقطر اعتمادها لعشرات الجامعات الأردنية التي يلتحق بها آلاف الطلاب الخليجيين.
ويبلغ عدد الجامعات الأردنية 32 جامعة، وفي عام 1962 أنشئت أول جامعة، وهي الجامعة الأردنية، في حين كانت جامعة عمان الأهلية أول جامعة خاصة في الأردن في عام 1989، لكن واقع التعليم العالي في البلاد يتراجع بسبب شح الموارد وازدياد أعداد الطلبة مقارنةً بالبنية التحتية والخدماتية لمرافق التعليم العالي ومؤسساته، وتضخم جهازها الإداري مقارنةً بهيئاتها التدريسية، إضافة إلى هجرة الكفاءات الأكاديمية.
وترصد الأستاذة الجامعية الأردنية، برتبة استاذ مشارك في جامعة البلقاء التطبيقية، سحر المجالي كيف مر التعليم العالي والجامعي في الأردن بأربع مراحل، أولها ما قبل مرحلة التأسيس (1952-1962)، والتي شهدت إنشاء المعاهد ودور المعلمين. أما المرحلة الثانية (1962-1987) فشهدت إنشاء الجامعات الرسمية، كما شهدت المرحلة الثالثة (1987-1997)، وهي مرحلة مشاركة القطاع الخاص في إدارة قطاع التعليم العالي.
السعودية: "التخصصات الميتة" تخرج العاطلين من العمل
ما زالت الجامعات السعودية تحاول جاهدة ضخ ماء الحياة في تخصصاتها الميتة، إلا أن مصيرها في سوق العمل هو "الدفن"، فبعد إحصائية أخيرة أصدرتها هيئة تقويم التعليم والتدريب بأن 69 في المئة من العاطلين من العمل في السعودية حاصلون على تأهيل علمي عال للأسف، لكنهم خريجون لتخصصات راكدة لا مكان لها في سوق العمل مثل "الآداب، والعلوم الإنسانية، والعلوم الاجتماعية، والعلوم الطبيعية، والرياضيات".
ووفقاً للتقرير، يمثل خريجو الآداب والعلوم الإنسانية نسبة 28 في المئة من إجمالي العاطلين من العمل في السعودية، يليهم خريجو العلوم الاجتماعية بنسبة 21 في المئة، ثم خريجو العلوم الطبيعية والرياضيات بنسبة 20 في المئة، لتقوم الجامعات بمحاولة إنعاش تخصصاتها ببرامج تدريبية ونشاطات لا صفية.
إلا أن هذه التخصصات مصيرها الموت إذ إنها لا تزال سبباً سريعاً في زيادة حجم البطالة في السعودية، حيث يدخل الطالب إلى هذه التخصصات مكرهاً من قبل عمادة القبول والتسجيل في الجامعات بسبب عدم حصوله على درجات تؤهله لتخصصات تحتاجها السوق، ليبقى التخصص عقبة تلاحقه بعد التخرج حين يطرق أبواب الوظيفة، وحتى لو ساعده الحظ بوجود وظيفة شاغرة في القطاع الخاص كموظف استقبال أو بائع، إلا أنه سيبقى ذو راتب محدود بسبب التخصص.
تقليص حجم البطالة
وأشار الكاتب محمد العوين أن "المعول على الجامعات هو جس نبض سوق العمل في إبقاء أو إلغاء أو تقليص أي علم يُدرس فيها، وحاجة المجتمع وخطط التنمية وسعي الدولة إلى تقليص حجم البطالة بالسرعة الممكنة وإتاحة فرص وظيفية جديدة أمام آلاف الخريجين كل سنة في المهن والتخصصات التي ما زال مجتمعنا في حاجة ماسة لها، كالطب والهندسة وتقنيات النانو والتخصصات الصناعية، ولكن عدداً كبيراً من جامعاتنا ما زالت تسير على منهجها القديم الذي أُنشئت عليه قبل 60 سنة دون أن تراعي القفزات والتحولات التنموية التي يمر بها الوطن، وأن ما كان يحتاجه أمس بعشرات الآلاف من دارسي علوم اللغة العربية بتخصصاتها المتعددة وعلم النفس والجغرافيا والتاريخ والتربية وما يماثل هذه العلوم النظرية قد لا يحتاج الآن إلى تلك الأعداد الهائلة التي تصل إلى الآلاف في كل تخصص كما كان الأمر قبل ثلاثين سنة أو أكثر، بل يظل الآلاف من دارسي تلك العلوم سنوات في انتظار فرصة عمل مناسبة، وإن حصل عليها بعد طول انتظار فإن عطاءها المادي الضئيل لا يعادل السنوات التي قضاها الطالب في التحصيل العلمي".
وذكر نائب مدير عام "معهد الإدارة العامة للبحوث والمعلومات" السابق عبدالرحمن الهيجان إن "الطالب السعودي لا توجد لديه مشكلة في اختيار التخصص إنما لديه مشكلة في غموض المستقبل، فحين نسأله منذ صغره ماذا تريد أن تصبح غداً؟ يجيب بمعلم أو مهندس لكنه عندما يصل إلى الجامعة يتفاجأ بأن طموحاته ورغباته لا يمكن أن يتحكم بها هو بل تتحكم بها التخصصات الميتة التي لا جدوى منها، بالتالي يجبر على اختيار تخصصات لا قيمة لها وإنما يساير المجتمع لكي يقال إن لديه شهادة جامعية، وهذه الإشكالية الكبرى التي تواجه الطلبة اليوم"، مضيفاً أنه "على الجامعات أن تغير ثقافة القبول بها وألا يكون بما يشغل فراغاً لديها إنما بناءً على رغبة الطالب وما يحتاجه المجتمع، وكلما وضحت الصورة أمام الطلبة اليوم سيستطيعون أن يختاروا التخصص المناسب ويبذلون جهدهم وتكون لهم حرية الاختيار كبيرة جداً بدلاً أن يكون الاختيار مرهوناً بالمكان الشاغر في الجامعات، إذ ما زال مع الأسف قبول الطلاب مرهوناً بالفراغ الموجود في الأقسام وليس مرهوناً برغبة الطالب وطموحه، ونتيجة لذلك نكون أمام حشد هائل من طالبي العمل من الخريجين من الجنسين".
وشدد الهيجان على "أهمية أن تراعي المعاهد الفنية والمهنية رؤية 2030 وبرامج التحول التي تنطلق من هذه الرؤية كبرامج التعليم التقني والمهني، مضيفاً أنه على الرغم من الميزانيات الضخمة التي بذلتها الدولة والخطط إلا أن مخرجاتها غير ملموسة في الشارع السعودي، وما زال التقني والمهني هو العامل الأجنبي، متسائلاً، لماذا لا وجود لهذه الفئات الضخمة التي تخرجت من هذه المعاهد الفنية والتقنية؟، فيما يرى أنه ينبغي بعد اليوم أن لا يتم تخريجها للطلاب عشوائياً، بل يجب أن تكون مخرجاتها مرتبطة بمشروعات اقتصادية معينة كأن يكون لدينا مدينة اقتصادية، وهناك مراكز تستثمر المعاهد القائمة وتقبل وتخرج طلاباً بما يتفق مع احتياجات هذه المدن الاقتصادية، متأسفاً على أن كثيراً من خريجي تلك المعاهد تحولوا إلى العمل المدني أو العسكري في وظائف لا علاقة لها بتخصصاتهم التي بذلوا فيها جهوداً وسنوات دراسية"، مطالباً بإعادة النظر فيها "بخاصة في ظل سطوة التقنية في المستقبل"، مؤكداً على أنه "لم يعد هناك مجال للتدريس بالطرق التقليدية، لأننا سنضمن أن الخريجين في كل سنة سينتظرون لسنوات طوال الوظائف، في الوقت الذي طال انتظار خريجين قدماء ليصل إلى عشر سنوات في بعض التخصصات، بالتالي علينا أن نتعلم درساً مفاده أن الانتظار لا يحل مشكلة وأن الحكومة بحد ذاتها هي جهاز لا يمكن أن يستوعب جميع الخريجين في أي دولة من دول العالم، كذلك لا يمكن للقطاع الخاص أن يستوعب الخريجين، ومن هنا لابد أن نفكر ونتعلم الدرس لنأخذ بيد طلابنا لطريق لا يعرف مصطلح البطالة".
التخصص العلمي
وأفاد الكاتب أمين ساعاتي بأنه "يسيطر على طلاب الثانويات العامة في هذه الأيام التفكير في التخصص العلمي الذي يجدر بهم أن يلتحقوا به، شريطة أن يحقق لهم المجد الوظيفي والمالي، ومن حسن الحظ أن أحد مراكز الأبحاث وزع فيديو في الأيام القليلة الماضية، يتحدث عن التخصصات العلمية المطلوبة في سوق العمل، الأمن السيبراني، والمال والأعمال، والطب، وأن أسواق العمل في كثير من دول العالم المتقدم سجلت أعلى طلب على هذه التخصصات".
وقال ساعاتي "أعتقد أنه منذ بداية القرن الـ21 أخذت الجامعات في العالم الغربي تعمل على إعادة هيكلة كليات الأعمال وكليات الحاسب الآلي، وكليات الطب، بل إن بعض الجامعات الكبرى التي درجت على إعادة هندسة مناهجها، مثل، هارفارد وستانفورد وبنسلفانيا وديوك طورت مناهج كليات المال والأعمال والحاسب الآلي، وأعطت استقلالية كاملة لكليات المال والأعمال وكليات الحاسب الآلي لكي تخرج العقول المبدعة القادرة على صناعة المدن الذكية وتحقيق الحلول غير التقليدية. وهذا ما فعلته السعودية حيث لم تكن بعيدة من كل ما يجري في الأوساط العلمية في الدول المتقدمة، بل أقر مجلس شؤون الجامعات في السعودية قبل أسبوعين رفع القبول في الكليات النوعية الصحية والهندسية والتقنية والتطبيقية وإدارة الأعمال إلى ضعف ما كان عليه عام 2020، وفقاً للطاقة الاستيعابية لتلك الكليات، وبما يحسن من مخرجات العملية التعليمية، ويسهم في سد احتياجات سوق العمل".
وشملت القرارات تخفيض القبول بنسبة لا تقل عن 50 في المئة في التخصصات غير المتوائمة مع سوق العمل مع زيادة استيعاب الطلاب والطالبات في الكليات النوعية، على أن يعمل بهذا القرار لمدة خمس سنوات، ويقيم تطبيقه بعد مرور ثلاث سنوات، وهذا من شأنه خفض البطالة في السعودية وقبول مزيد من الطلاب في التخصصات المطلوبة في سوق العمل.
تونس: التكوين المهني ومهن المستقبل
وفي تونس، يتوجه الآلاف من الحاصلين على شهادة الثانوية العامة إلى شعب جامعية من دون دراسة واقعية، أو من دون تفكير في المستقبل ومتطلبات سوق العمل، وأحياناً أخرى بسبب ضعف مجموع النقاط التي يتحصلون عليها في الامتحان.
هذا التوجيه الجامعي عادة ما يفضي بهم إلى بطالة مطولة نظراً إلى عدم تطابق الشعب الجامعية مع ما تطلبه سوق الشغل التي تتغير من سنة إلى أخرى.
الهجرة للعمل
ويشار إلى أن عشرات الشعب العلمية في الجامعة التونسية أصبحت غير قادرة على مجاراة ما تطلبه سوق الشغل، وعلى الرغم من ذلك ما زالت موجودة، وأحياناً يكون مجموع نقاطها ضعيفاً لا يتلاءم مع مجموع نقاط التلاميذ الذين يتحصلون على معدلات متوسطة في الثانوية العامة. وهذا ما يفسر ارتفاع عدد العاطلين عن العمل في صفوف الجامعيين.
وكشفت دراسة حديثة لأحد المعاهد عن أن متخرجي الطب وإدارة الأعمال والإعلام يحصلون على فرص شغل في أقل من أربعة أشهر، مقابل أربع سنوات غالباً بالنسبة إلى متخرجي كليات الاقتصاد والتصرف، الموجودة خصوصاً في المناطق الداخلية.
كما أبرزت أن 64 في المئة من أصحاب الشهادات الجامعية يعملون في مجال دراستهم، بينما يبحث 74 في المئة من متخرجي الجامعات العاطلين عن عمل يتماشى مع مجال دراستهم، فيما يواصل 29 في المئة دراستهم العليا لأنهم لم يجدوا وظائف.
وبينت نتائج الدراسة أن 89 في المئة من متخرجي الجامعات عبروا عن رغبتهم في الهجرة للعمل. وأكد 15 في المئة منهم استعدادهم للهجرة بطريقة غير نظامية.
ويبلغ عدد أصحاب الشهادات العليا العاطلين عن العمل في تونس لأكثر من عشر سنوات، نحو عشرة آلاف خريج جامعي، فيما يبلغ معدل البطالة في تونس في الربع الأول من العام الحالي 16.1 في المئة، بحسب بيانات المعهد التونسي للإحصاء (حكومي).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقليص الفجوة
وتسعى تونس إلى تقليص الفجوة بين طالبي الشغل وحاجات سوق العمل التي تطلب عادة اختصاصات حديثة.
وفي تصريح إعلامي حول مستجدات قطاع التشغيل والتكوين المهني، اعتبر وزير التشغيل والتكوين المهني نصر الدين نصيبي، أن "التكوين المهني في تونس يمثل مسار نجاح وأفقاً من آفاق التشغيل ومورداً مهماً لمهن الغد".
مؤكداً في السياق ذاته، أن "المنظومة الوطنية للتكوين المهني في تونس تهدف إلى التوجه نحو الترفيع في مواطن التكوين في الاختصاصات المطلوبة".
وأشار النصيبي إلى أن الوزارة تعمل على توفير دورات تكوين لمدة قصيرة للشباب الراغب في الانطلاق بمشاريعهم الخاصة.
وتعتبر منظومة التكوين المهني مكوناً أساسياً من مكونات المنظومة الوطنية في تونس لإعداد الموارد البشرية، ورافداً من روافد التنمية.
ويهدف التكوين المهني إلى تأهيل الطلاب وتنمية القدرات المهنية للعمال، وإلى تمكين المؤسسة الاقتصادية من تحسين إنتاجيتها والرفع من قدرتها التنافسية وإكساب المتكونين المهارات اللازمة، لممارسة حرفة أو مهنة تستوجب تأهيلاً، وإلى تحقيق ملاءمة هذه المهارات مع التحولات الاقتصادية والتكنولوجية وتطور المهن.
وينقسم مجال التكوين في تونس إلى قسمين رئيسين، وهما التكوين المهني الأساسي والمستمر العمومي.
التوجه نحو العام
"يوفى مال الجديين وتبقى صنعة الإيدين"، هذا المثل الشعبي الذي استهل به خالد السالمي، أحد المدربين في مجال التكوين المهني حديثه، يبرز من خلاله مدى أهمية إتقان بعض المهارات لا سيما اليدوية منها، والتي عادة تكون إرثاً عائلياً؟
ويضيف سامي أن "الدول المتقدمة تعطي أهمية كبرى للتكوين المهني، وجعلته جزءاً من الاقتصاد، مما أسهم في تقليص نسبة البطالة".
ويواصل، "إتقان مهارة ما تجعل آفاقك أوسع في تحسين ظروفك المادية".
وانتقد خالد العقلية التي تسود المجتمع، وهي المفاهيم والثقافة السائدة في التوجه نحو القطاع العام للاستفادة من أجورها.
ويفيد خالد أن نسبة 70 في المئة من أصحاب شهادات التكوين المهني، يشتغلون فور تخرجهم مقابل 22 في المئة فقط من خريجي الجامعة.
العراق: تخصصات خارج سوق العمل
هذا وتعاني سوق العمل العراقية عجزاً واضحاً في توفير فرص عمل سنوية على الرغم من ارتفاع إيرادات البلاد السنوية من تصدير النفط، فضلاً عن زيادة الناتج المحلي السنوي إلى 207 مليارات دولار خلال عام 2021.
فالتركيز على الوظائف العامة وعدم تشجيع المواطنين على إقامة مشاريع صغيرة وإهمال القطاع الخاص، بل والضغط عليه من خلال سلسة التعقيدات الروتينية في التعامل معه وعدم وجود قانون فعال وحقيقي للتقاعد والضمان الاجتماعي للعاملين خارج دوائر الدولة العراقية، كل هذا جعل القطاع العام هو الهدف الرئيس لإيجاد فرصة عمل على الرغم من أن أجور التعيين منخفضة.
هذا الواقع جعل القطاع الحكومي يتوسع بشكل هائل ليصل إلى قرابة الخمسة ملايين موظف بين عسكري ومدني ورواتب ثابتة وأجور وعقود مؤقتة ليمثل مشكلة جديدة قد تنفجر في أي وقت إذا ما تراجعت أسعار النفط الحالية وامتنعت الدولة العراقية عن تسديد هذه النفقات التي تصل شهرياً إلى نحو 40 تريليون دينار عراقي.
إحباط ويأس
وتبدو على أحمد حسن الذي تخرج في قسم علم النفس بجامعة بغداد علامات اليأس بعد فشله في الحصول على فرصة عمل عقب جهود كبيرة بذلها للبحث عن وظيفة في القطاع الخاص تناسب تخصصه.
ولم يكن حسن وحده الذي يعاني هذه المشكلة فهناك الآلاف يعانون الأمر ذاته كون تخصصاتهم غير مطلوبة في سوق العمل العراقية، بل إنها خارج نطاقها.
وتخرج الجامعات العراقية آلاف الخريجين سنوياً ليعملوا في القطاع الخاص، لا سيما في ظل ندرة الوظائف الحكومية وبقت الشهادة الجامعية في كثير من التخصصات مصيرها التعليق على الجدران.
توسع غير علمي
تعاني الجامعات العراقية توسعاً غير مدروس في عديد من الأقسام النظرية والإنسانية التي ليس لها فرصة للحصول على عمل حقيقي تنسجم مع التخصص العلمي، فضلاً عن إهمال حكومي للكليات والمعاهد التطبيقية والمهنية التي بإمكانها توفير الآلاف من فرص العمل للعاطلين من العمل.
ويدعو أستاذ الاقتصاد في الجامعة العراقية عبد الرحمن المشهداني إلى ضرورة التركيز على المدارس والمعاهد المهنية إلى جانب تعليم اللغة الإنجليزية. وأوضح "أن التخصصات الإنسانية تأخذ الجزء الأكبر باستيعاب الدراسات الثانوية والمفترض أن تنقلب هذه المعادلة فنحن لا نحتاج كل هذه التخصصات"، مشيراً إلى "وجود 110 كليات حكومية وأهلية لا تشمل الكليات الأهلية في إقليم كردستان".
العالم الرقمي
وأوضح المشهداني، أن "الكليات النظرية تخرج عدداً كبيراً من الطلبة من دون مستقبل لكون سوق العمل لا تستوعب تخصصاتهم"، لافتاً إلى أن "متطلبات سوق العمل خلال العقد المقبل تتمحور حول العالم الرقمي والإنترنت، بالتالي فرص العمل ستكون للأكفأ والخبرة وليست للشهادة".
ترف فكري
وتابع المشهداني أن "الحصول على الشهادات العليا في العراق أصبح ترفاً فكرياً، والدليل على ذلك أن نصف العاملين في شركة مايكروسفت ليس لديهم مؤهلات أكاديمية بل يتمتعون بالخبرة". مشيراً إلى أن "في العراق جيوشاً من الحاصلين على شهادة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، ويتقدم الآلاف سنوياً من الموظفين والطلبة للحصول على الشهادات العليا من أجل تحسين الوضع الوظيفي والمالي لكون قانون الخدمة العراقي يطلق العنان لمخصصات هذه الشهادات في جميع التخصاصات من دون تأكيد أهميتها في الحياة العامة أو دورها الإيجابي في الاقتصاد الوطني".
أمية مختلفة
ويشير المشهداني إلى أنه "في الفترة الممتدة من خمسينيات إلى تسعينيات القرن الماضي كان الذي لا يعرف القراءة والكتابة يصفونه بالأميّ، ومن ثم الذي لا يتحدث الإنجليزية يعد أميّاً، أما اليوم فالذي لا يتحدث ثلاث لغات على الأقل فإن سوق العمل تعده أمياً، فإضافة إلى الإنجليزية هناك اللغة الصينية باعتبار بكين غزت العالم اقتصادياً إضافة إلى الإسبانية".
وأكد المشهداني أن "العراق يخرج كثيراً من الأميين لكون سوق العمل ليست بحاجة إليهم، فالقطاع الخاص يريد الكفاءة والخبرة"، لافتاً إلى أن "ثلثي العاملين في المصارف الخاصة ليسوا خريجي إدارة واقتصاد بل كليات علمية يتحدثون الإنجليزية ولغات أخرى ولديهم مهارات جيدة في مجال الحاسوب".
التعليم متخلف
وفي السياق، ترى الأكاديمية الباحثة في الشأن الاقتصادي سلام سميسم أن "قطاع التعليم في العراق لم يشهد تطوراً ما أدى إلى تخريج أعداد كبيرة لا يلبون احتياجات سوق العمل، قبل عام 2003 كانت هناك فترة حصار وكانت هناك فجوة بين الفكر العلمي السائد والتوظيف العملي"، مشيرة إلى أن "الفترة بعد 2003 لم تصحح هذا المسار وترسخت هذه الفوضوية والتخبط وعدم وجود سياسات حقيقية في البلد ما أدى إلى تراجع قطاع التعليم وتردي النوعية المتخرجة إلى سوق العمل".
ولفتت إلى أن "الاقتصاد العراقي مركزي وتمسك الدولة بكل القرارات يلقي بظلاله على الجامعات، الأمر الذي أدى إلى تخرج كوادر كبيرة من الخريجين والجامعات غير مهيأة لسوق العمل".
الجزائر: قرارات إيجابية وتجارب "فاشلة"
وفي الجزائر، تغيرت نظرة المجتمع إلى التعليم بسبب أعداد الخريجين الهائلة الذين يصعب عليهم الانضمام إلى سوق العمل، ما أثار التساؤل حول سياسات الحكومات في ما يتعلق بالتوظيف، لتفرض معادلة ارتفاع أعداد أصحاب الشهادات مقابل توسع دائرة البطالة، البحث في حل يسهم في تشغيل هؤلاء.
وعلى الرغم من إيجابيات مجانية التعليم الذي تعتمده الجزائر غير أن الاهتمام بالنوعية ومدى مواءمته لسوق العمل، يبقى ضعيفاً أمام تزايد أعداد الخريجين في الجامعات مقابل محدودية الوظائف، بخاصة في القطاع الحكومي، ما أدى إلى خلق مشكلات عدة منها اختلال ما بين مخرجات مؤسسات التعليم العالي وطلب سوق العمل، وتفاقم مشكلة البطالة، إضافة إلى اهتمام المجتمع بالتكوين المهني والتخصصات قصيرة المدة بدل الدراسات العليا والأبحاث.
واعتمدت الحكومات المتعاقبة سياسات عدة من أجل إصلاح الخلل، لكن الوضع لا يزال مستمراً إلى حين. وتبقى تجربة عقود ما قبل التشغيل لتوظيف حاملي الشهادات من مختلف المعاهد والجامعات الجزائرية، التي تمنح هؤلاء فرصاً مؤقتة تنتهي بعقود إدماج في مختلف القطاعات، عمومية أو خاصة، أبرز ما يمكن الإشارة إليه لاعتبارات عدة، أهمها أنها أحيت الأمل لدى هذه الفئة من المجتمع على الرغم من المشكلات التي واجهت الخطوة.
ثلاثة عوامل رئيسة
ووفق ما ذكر المعني بالموارد البشرية رمزي بن سراج، فإن هذه العقود المهنية تقضي بتشغيل الخريجين، من 19 إلى 35 سنة، ويكون ذلك في مؤسسة عمومية أو خاصة، على أن تقوم مديرية التشغيل بدفع منحة شهرية للمتعاقدين لفترة محددة بحسب نوع العقد المبرم. وأوضح أنه لا يوجد قانون واضح يلزم المؤسسات إدماج العاملين وفق عقود ما قبل التشغيل، بالتالي يبقى مصيرهم مجهولاً. وقال إنه في غالبية الحالات تنتهي مدة العقود من دون إدماج، ما يجعل هؤلاء عرضة لمختلف أنواع الاضطرابات النفسية وعدم الاستقرار الاجتماعي طيلة مدة العقد، التي تمتد إلى ثلاثة أعوام في معظم الأحيان، إضافة إلى أن قيمة المنحة الشهرية لا تلبي حاجة المستفيدين.
وأوضح أن ارتفاع الطلب على العمل له ثلاثة عوامل رئيسة، وهي ارتفاع معدل النمو السكاني واقتحام المرأة لعالم الشغل وانتشار مستويات التعليم، إضافة إلى أسباب أخرى مثل عودة المتقاعدين إلى سوق العمل ودخول الأطفال سوق العمل غير الرسمية.
400 ألف خريج جامعة سنوياً
بدوره، أكد وزير التعليم العالي والبحث العلمي عبدالباقي بن زيان أن تطوير البحث العلمي والتكنولوجي أولوية وطنية، مشيراً إلى تسجيل 400 ألف خريج جامعي حاصل على شهادة سنوياً. وأوضح أن القانون الأخير 15.21 المؤرخ في 30 دسيمبر (كانون الأول) 2015 المتضمن للقانون التوجيهي للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي، يعكس إرادة الدولة في تعزيز العلم والتكنولوجيا كعوامل لا بد منها لتحقيق التنمية المستدامة، مضيفاً أن السلطات سخرت موارد مالية هائلة لضمان التعليم وبناء المدارس وإعطاء أهمية قصوى للتعليم والتكوين والتأطير.
استفاقة تنتظر استراتيجية
وفي السياق، يعتبر أستاذ العلوم السياسية في جامعة الجزائر سمير محرز أن هناك استفاقة من قطاع التعليم العالي في الأعوام الأخيرة، بخاصة بعد دق ناقوس الخطر إثر بروز معالم التناقض بين عدد خريجي الجامعات ومتطلبات سوق العمل، لا سيما بعد الاكتفاء الكبير الذي تعيشه الإدارة باستثناء نافدة التعليم في المدارس والمتوسطات والثانويات، التي بقيت الأمل الوحيد بالنسبة إلى خريجي الجامعات في التخصصات الأدبية. وقال إن عدد المتخرجين العاطلين من العمل في الأعوام الـ10 الأخيرة تجاوز المليون.
ويتابع أنه وجب على قطاع التعليم العالي تقديم حلول استراتيجية حقيقية وفاعلة وليست ترقيعية، مشيراً إلى أن تخفيض معدل النجاح في البكالوريا إلى 9.50 من 20، يعتبر خطوة غير مفهومة لواقع الجامعة ومستقبلها، ولهذا يجب إعادة النظر في التخصصات الجامعية والتوجيه نحو ما تحتاج إليه سوق العمل من اقتصاد المعرفة والاقتصاد الرقمي والاقتصاد الأخضر وتكنولوجيات الإعلام والاتصال والإعلام الآلي. وأبرز أهمية تطوير قطاع التكوين المهني وجعله مجالاً حقيقياً لتوظيف الطاقات الشابة في كل الميادين والمجالات، بخاصة تلك المنتجة منها. وختم أنه من الأهمية بمكان تحويل الطلبة المتحصلين على معدلات منخفضة إلى مجال التكوين المهني، باعتباره متنفساً مهماً لامتصاص البطالة، وبديلاً حقيقياً لكثير من التخصصات التي لا فاعلية لها في عالم الشغل.
هجرة الأدمغة؟
ولفت إلى مشكلة عدم التوازن بين أنواع التعليم والحاجات الاقتصادية وعدم التنسيق بين التخطيط التعليمي والتخطيط الاقتصادي، بحيث أصبح النمو السنوي للخريجين أكثر من نمو الوظائف الجديدة. فالتعليم في البلاد أفرز خريجين لا تحتاج إليهم سوق العمل، ما أنتج بطالة لا سيما بين المتخصصين في الآداب والعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، التي تعتمد في توظيفها على المؤسسات العمومية، ما أدى إلى بروز ظاهرة هجرة الأدمغة إلى الدول المتقدمة.
السودان: الحكومات المتعاقبة أسهمت في تدهور التعليم وأهملت القطاع المهني
أما في السودان فبدأ التعليم بصورة عامة من طريق "الخلاوي" التي انتشرت في أنحاء البلاد، وظهرت في العام 1570، ومن ثم تغير التعليم مع الحكم التركي - المصري وافتتحت خمس مدارس تدرّس المناهج المصرية.
أما بعد الاستقلال عام 1956 فتغيرت طريقة التعليم في السودان وخصصت موازنة ضخمة آنذاك لمصلحة التعليم، وظهرت جامعة الخرطوم كأول جامعة في البلاد واحتلت المرتبة الرابعة أفريقياً، ثم توسع التعليم الجامعي في عهد الرئيس جعفر نميري الذي شهد افتتاح عدد من الجامعات عام 1969، ضمت جميع أنواع التخصصات التي دُرست باللغة الإنجليزية قبل تعريبها أخيراً.
وعلى الرغم من تنوع المجالات في الجامعات السودانية إلا أن عدداً كبيراً منها كان "تحصيل حاصل"، إذ لا يتوافر سوق عمل لها، خصوصاً المجاملات العلمية مثل الفيزياء وهندسة النفط ومجالات العلوم. وعانى كثير من الخريجين ركود سوق العمل وعدم توافر الفرص مما اضطرهم إلى الهجرة خارجاً.
وفي هذا السياق قال الأستاذ الجامعي ضياء الدين الخليفة إن "الجامعات السودانية تعاني تراجعاً كبيراً في المستوى التعليمي خصوصاً بعد تعريبها، وعلى الرغم من أنها تخرج الملايين سنوياً إلا أنهم لا يجدون فرص عمل تتناسب وشهاداتهم، إذ ارتفعت نسبة البطالة لسوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية وعدم وجود شركات ترغب في العمل بالسودان لعدم ضمان استمراريتها".
وعن المجالات العلمية في الجامعات السودانية تقول الطالبة إيثار عبدالله إن "الطلاب لا يتوجهون إليها لأسباب متعلقة بعدم وجود فرص العمل، وكنت أدرس علوم الرياضيات وحولت لإدارة الأعمال لأن سوق العمل توفر وظائف لهذه الدراسة".
وتواصل إيثار أن "عدد المحولين من مجالات علمية إلى أدبية كبير جداً ويرجع ذلك أيضاً لعدم توافر بيئة دراسية جيدة للمجالات العملية مع المعاناة الكبيرة التي نواجهها بسبب توقف الدراسة أشهراً طويلة بسبب المشكلات السياسية التي تمر بها البلاد".
الجامعات الخاصة
وعلى الرغم من أن الجامعات الحكومية كانت الأكثر أهمية سابقاً إلا أنها أصبحت غير مرغوب فيها بسبب تأثرها بالعملية السياسية في البلاد، إذ تم إيقاف الدراسة في جامعات حكومية كثيرة بعد انتفاضة ديسمبر (كانون الأول).
وهناك آلاف الخريجين الذين لجأوا إلى العمل في أعمال هامشية، وفي هذا السياق قال الأستاذ الجامعي مصطفى الهاشم إن "المجالات الدراسية سواء أكانت علمية أم أدبية تقدم للطلاب خدمات دراسية فوق الممتازة، لكن يأتي عدم رغبة الطلاب في الدارسة بجد وتحصيل الدرجات العالية كسبب أساس في عدم قدرتهم على المنافسة في سوق العمل التي توافر سنوياً آلاف الوظائف وتستوعب جميع المجالات، فهناك شركات هندسية وعلمية وغيرها تعلن وظائفها باستمرار وتطلب مؤهلات عالية".
وعن أسباب تدهور مستوى الطلاب يرى الهاشم أن "صعوبة الحياة والرغبة في الثراء السريع من طريق البحث عن أعمال تحقق ذلك، وليس بالدراسة واتجاه الطلاب نحو العمل على منصات التواصل الاجتماعي وما شابهها، كل ذلك جعلهم يتحصلون على درجات متدنية، وبالتالي لا ينافسون في سوق العلم ويلقون باللوم على الحكومة".
تعليم مهني
بدأ ظهور التعليم المهني في السودان العام 1900 وكان بصورة غير منتظمة، وأنشئت أول مدرسة فنية العام 1902، وصدر أول قانون للتدريب المهني عام 1908، وأول مركز للتدريب المهني بعد الاستقلال عام 1957.
ويعد التعليم المهني من أهم ركائز تنمية الموارد البشرية لكنه عانى إهمالاً كبيراً لعدم التطوير ومواكبة النظم الحديثة.
ويقول الصنائعي محمد علي سالم إن "التعليم المهني في السودان لم يحظ باهتمام جاد من كل الحكومات المتعاقبة على البلاد، والأسر السودانية واحدة من معوقات تقدم المجال وتطوره، بسبب عدم الموافقة على التحاق أبنائها في مدارس مهنية وصناعية بدعوى أنها ذات مستوى أقل من التعليم الجامعي، فيلحقون أبناءهم بالجامعات ويدرسون مجالات لا تؤهلهم لسوق العمل، وبالتالي ينضمون لطابور العاطلين الحاملين شهادات جامعية".
ويضيف سالم أن "الأمر يحتاج إلى توعية بأهمية التعليم المهني، لأن البلاد تحتاج لهم مثلما تحتاج إلى الخريجين من الجامعات بمجالاتها المختلفة، فهم لا يقلون أهمية بل يلعبون دوراً كبيراً في تنمية البلاد وتطويرها".
لبنان: ارتفاع مقلق لمعدلات البطالة
ويسجل لبنان معدلات بطالة مقلقة ارتفعت في المحافظات كافة، خصوصاً في بعلبك - الهرمل خلال السنوات الثلاث الأخيرة من 11 إلى 30 في المئة، وفق مسح إحصائي قامت به إدارة الإحصاء المركزي بالتعاون مع منظمة العمل الدولي.
وبحسب الخبير الاقتصادي زهير فياض، "ثمة خلل بنيوي في الاقتصاد اللبناني لم يجر العمل على تصحيحه بعد. كان هناك اتجاه دائم نحو تخصصات معينة كتلك المصرفية والتجارية بما يتناسب مع متطلبات سوق العمل سابقاً، لكن بيروت كانت تلعب دوراً مهماً تلك الحقبة في هذه المجالات، فيما تبدلت الأمور مع التطور الذي شهدته دول المنطقة.
في حديثه لـ"اندبندنت عربية،" يشير فياض إلى أن احتياجات السوق أصبحت في مكان آخر والتغيير بات ملحاً عبر تفعيل القطاعات الإنتاجية وفق خطة عمل واضحة واستراتيجية تعمل على توجيه الجيل الجديد في هذا الاتجاه. وتعزيز قطاعات الصناعة والزراعة من المفترض أن ينعكس في موازنات الوزارات المعنية إلا أن ذلك لم يطبق بعد.
يتابع "بعد الأزمة وفي ظل الجائحة، شهدنا بعض التغيير عبر اتجاه فئات كثيرة إلى صناعات معينة. كانت هناك نهضة خلقت فرص العمل من دون توجيه ومن دون خطة عمل. بغياب هذه الخطة على المجتمع المحلي أن يلعب دوره في التغيير. في الوقت نفسه، المطلوب سن قوانين جمركية تحمي الإنتاج المحلي وتسهم في خفض تكلفته".
نظرة دونية إلى التعليم المهني
من جهة أخرى، إلى جانب خطة العمل الضرورية هناك ذهنية راسخة تسهم أكثر فأكثر في رفع معدلات البطالة. فوفق المسح الذي أجرته إدارة الإحصاء المركزي تبين أن ثلثي القوة العاملة بحاجة إلى فرص عمل لتغيير مجال اختصاصها. فحتى اللحظة، وعلى الرغم من أن الواقع يؤكد أن حاجات سوق العمل تستدعي تعزيز دور التعليم المهني لا تزال هناك نظرة دونية إليه، وإن كانت الأزمة الاقتصادية في لبنان أسهمت في الحد منها. فبشكل عام يتجه الأهل حتى اليوم إلى إبعاد أولادهم عن التعليم المهني بسبب النظرة الدونية إليه.
بحسب المدير العام للتعليم المهني في وزارة التربية والتعليم العالي هنادي بري وجد كثيرون في التعليم المهني بديلاً أمثل في ظل الأزمة لاعتباره يتطلب سنوات أقل للتخصص ما يخفف الأعباء المادية بالمقارنة مع التعليم الأكاديمي. من التحديات التي تبرر اتجاه كثيرين إلى التعليم الأكاديمي الفصل القصري بين التعليم المهني والأكاديمي على صعيد التوظيف، حيث قد يتاح مزيد من الوظائف لخريجي التعليم الأكاديمي.
لا تنكر بري أن "التعليم المهني في لبنان يبقى دون المستوى المطلوب، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية والجائحة. حتى إن المصانع والمعامل غير مجهزة بالشكل المطلوب لاستقبال الخريجين أو الطلاب للتدرج فيها. وضعنا حالياً خطة لدراسة حاجات السوق بموازاة تطوير الصناعة المحلية واستراتيجية تعليمية تقضي بإقامة ورش عمل وتدريب بالتعاون مع وزارات الصناعة والتربية وجمعية الصناعيين لوضع التعليم المهني على الطريق الصحيح. علماً أن أعداد الطلاب في التعليم المهني زادت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وإن كان التسرب بسبب الأزمة قد طال مختلف المؤسسات التعليمية من مدارس ومعاهد وجامعات".
مزيد من التغيير مطلوب على نطاق واسع في البلاد سواء في الذهنية أو الاستراتيجيات الموضوعة لتعزيز التخصص وفق ما يتطلبه سوق العمل، كما حصل في أوروبا والولايات المتحدة من سنوات عدة، حيث حصلت نقلة نوعية باتجاه مجالات التخصص أونلاين في مواكبة للتطور الحاصل. في لبنان، حصل بعض التغيير فعلاً ضمن فئات معنية في المجتمع، بحسب رئيس جمعية لابورا، التي تعمل على تأمين فرص عمل للشباب وإقامة دورات تدريبية في مواكبة لمتطلبات سوق العمل، الأب طوني خضرا، فإنه "لا يزال التغيير محدوداً فيما المطلوب أن يعي الكل من مؤسسات تربوية وأهل ومختلف الجهات المعنية أن العالم قد تغير ولا بد من توجيه الطلاب باتجاه اختصاصات تواكب هذا التغيير للعيش بكرامة لأن هذا هو الأهم. يجب أن تصبح هناك قناعة بأهمية التوجه إلى التعليم المهني بدلاً من أن يحصل ذلك قسراً بسبب الأزمة. لا يزال هناك تركيز على اختصاصات معينة كالهندسة والمحاماة والطب بسبب الذهنية السائدة في المجتمع، وهذا ما يسهم في زيادة معدلات البطالة أكثر بعد".
حالياً مثلاً من الصعب إيجاد فني كمبيوتر IT لاعتبارها من المهن المطلوبة جداً لإمكانية العمل أونلاين فيها، ومن المهم التوجه إلى هذا الاختصاص الذي ثمة نقص فيه. في المقابل، يشير الأب خضرا إلى "تراجع ملحوظ في الطلب على الوظائف التي كانت أكثر أهمية في السنوات السابقة كالهندسة إذ إن هناك شبه ركود فيها، وأظهرت الإحصاءات في عام 2018 وجود 5400 خريج هندسة فيما لا تتطلب السوق أكثر من 40 منهم. كذلك في الطب على الرغم من هجرة الأطباء والتجارة بمعناها التقليدي فاتخذت اليوم أشكالاً أخرى. أيضاً مجال التعليم لم يعد مرغوباً فيه نظراً إلى تراجع قيمة أجور الأساتذة إلى حد كبير".
انتقال إلى مجال آخر بسبب الظروف
في الوقت نفسه نشهد انتقال كثيرين إلى اختصاصات لا تمت إلى مجالات تخصصهم بصلة. إليسا غصن واحدة ممن اختاروا مجال اختصاص متأثرة بوالدتها التي درست المحاماة ولم تتابع في هذا المجال، لكن بعد أن حازت الشهادة الجامعية وبدأت بفترة التدرج، اكتشفت أن هذا المجال لا يشبه أحلامها وهو بعيد كل البعد عما تطمح إليه. بقيت عاماً من دون عمل، إلى أن قررت مع صديقها البدء في التجارة بالملابس أونلاين، خصوصاً أنها تعشق الموضة والصور.
أرادت إليسا بعدها أن تجد مجالاً آخر تعمل فيه لتتمتع بمزيد من الاستقلالية. بدأت بالعمل على تطبيق خاص بالسياحة في لبنان كمسؤولة عن عملية التحرير فيه والحجوزات، كما وجدت شركة في كندا تعمل فيها أونلاين أخيراً ما جعلها تشعر بالاكتفاء. تؤكد أنه بغض النظر عن مجال الاختصاص يبقى الأهم التمتع بالاستقلالية والاكتفاء والنجاح في العمل، كما تتمنى لو أنها لم تضيع سنوات من عمرها في التخصص في مجال لا يشبه أحلامها ابداً.
أما تاتيانا فقد اختارت من البداية مجال التخصص الذي تعشقه ولعل تجربتها خير مثال على ما يمكن تحقيقه من نجاح في المجال المهني. فكانت دوماً متفوقة في المدرسة لكن بعد بلوغ الشهادة المتوسطة قررت الاتجاه إلى التعليم المهني كمربية حضانة كونها تعشق الأطفال. "درست في معهد تابع للدولة اكتسبت فيه خبرة ممتازة وأفسح لي الفرصة للتدرج في مجال أعشقه ثم دخلت إلى الجامعة، لأن حيازة مزيد من الشهادات في هذا المجال يزيد من الفرص أمامي ومن مستويات الأجور".
تتلقى تاتيانا عروض عمل من مدارس وحضانات نظراً إلى الخبرة التي اكتسبتها في المعهد، لكنها تتابع الدراسة وتعمل في عطلة نهاية الأسبوع. تؤكد أن الاختيارات كانت أمامها كثيرة لكنها اختارت المجال الذي يشبه أحلامها مع الأطفال لتمضي معهم أجمل الأوقات، فلم تستطع مقاومة الرغبة بالعمل معهم، بدلاً من إضاعة الوقت في دراسة مواد لن تستخدمها.
تؤكد تاتيانا أن التخصص في المعهد كان صعباً ومتعباً ووفق شروط صارمة لكنها تجربة تفوق أهمية ما تعلمته في الجامعة، خصوصاً مع الخبرة التي اكتسبتها في الناحية العملية والتطبيقية، وكثر ممن دخلوا المعهد لم يتمكنوا من المتابعة حتى النهاية.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى تبرز الحاجة إلى توجيه الطلاب نحو التخصصات المناسبة في مواكبة لمتطلبات سوق العمل بدلاً من أن يخسروا سنوات من حياتهم لا يجدون بعدها فرص عمل فترتفع أكثر معدلات البطالة.