Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هكذا يمكن التعامل مع انعدم اليقين الاقتصادي الحاد مع تضخم بـ 70 في المئة

نصائح مفيدة مستقاة من الأرجنتين حيث لم أعد أعرف حتى كم يبلغ سعر رزمة الـ "كوكيز"

امرأة تتفقد سلعاً في إحدى أسواق الأرجنتين (أسوشيتدبرس)

توجهتُ يوم السبت إلى أحد متاجر السوبر ماركت القريبة من شقتي في مدينة بيونس آيريس [عاصمة الأرجنتين] وفي حوزتي بعض النقود، وفيما كنت أتأكد من قائمة مشترياتي سولت لي نفسي أن أضيف رزمة ثانية من البسكويت المُحلّى (أو "كوكيز") إلى سلتي، ولم أكتف بذلك فقد جننت وأضفت أيضاً لوحاً من الشوكولاتة، لكن عندما وصلت إلى إحدى نقاط الدفع في المتجر وبدأت عدّ الأوراق المالية التي كانت معي، تملكني الرعب لعدم وجود ما يكفي منها في جيبي، وشعرت بالحرج أمام موظف الصندوق الذي كان يحدق بي فاضطررت إلى إعادة رزمة الـ "كوكيز".

إن عدم تمكني من تتبع التغيرات الطارئة على كلفة السلع أشعرني بأنني مسرفة في الإنفاق وبعيدة من الواقع، تماماً كأحد سياسيي الطبقة العليا المترفة الذين لا يستطيعون أن يقولوا لك ما سعر الحليب، لكن هنا في الأرجنتين يبلغ معدل التضخم نحو 70 في المئة، ومن المتوقع أن يصل إلى 90 في المئة قبل نهاية السنة 2022، والحقيقة هي أن أحداً لم يعد يعرف بالتحديد ما هي كلفة الأشياء.

أثناء نشأتي في المملكة المتحدة كان التضخم مصطلحاً اقتصادياً غامضاً بالنسبة إليّ، وعلمت أنه بمثابة ظاهرة ترتفع من خلالها الأسعار تدريجاً مع مرور الوقت، لكنني لم أشعر بمفاعيلها على نحو ملموس في نفقاتي الخاصة، أما الآن فقد أدت الحرب الدائرة في أوكرانيا وانتهاء عمليات إغلاق "كوفيد" إلى تغيير ذلك على طرفي المحيط الأطلسي.

بدأت المسألة بعناوين إخبارية تنذر بالسوء في شأن انقطاع النفط الروسي، وتلا ذلك حال من الغضب العارم والإنكار في محطات الوقود في جميع أنحاء الولايات المتحدة أورد خلالها الناس "نحن نواجه أسعاراً فاحشة، كيف يمكن السماح بذلك؟".

ثم اتسعت المشكلة لتمتد إلى كل مكان، ومع حلول شهر يونيو (حزيران) ارتفع "مؤشر أسعار المستهلك الأميركي" US Consumer Price Index بنسبة 9.1 في المئة على أساس سنوي، ويوم الإثنين شعر البريطانيون بالهلع حينما علموا أن التضخم في المملكة المتحدة من المتوقع أن يصل إلى 18.6 في المئة بحلول شهر يناير (كانون الثاني)، والسبب في ذلك يعود لحد كبير إلى ارتفاع أسعار الطاقة.

ومع عودة موجة التضخم يتربع الأرجنتينيون على مقاعدهم ويحتسون شراب الـ "متة" ويحكون على طريقة جدودهم وهم يدخنون غليونهم، "في الواقع إن لدينا بعض القصص التي يمكننا أن نخبركم بها عن التضخم".

معروف عن الأرجنتين أن لديها سجلاً طويلاً من المعاناة مع المال والعملة المتدهورة، ففي ثمانينيات القرن الماضي استخدمت الحكومة عملة مشؤومة تسمى "أوسترال" وجرى التخلي عنها بعد ارتفاع التضخم إلى معدل قياسي بلغ معه الدولار الأميركي الواحد 10 آلاف "أوسترال" عام 1991، وفي التسعينيات رُبط الـ "بيزو" الجديد بالدولار، لكن هذا الزواج انتهى في العام 2002 وسط انهيار اقتصادي بأبعاد كارثية، وسرعان ما عاد التضخم ليضرب البلاد.

أوراق العملة من فئة "2 بيزو" التي كانت بقيمة دولارين خلال التسعينيات سحبت من التداول العام 2018 لأن قيمتها انخفضت إلى مجرد سنتات قليلة من الدولار، تم لحقت بها أوراق الـ "5 بيزو" التي أخرجت من السوق العام 2020، وفي الوقت الراهن تبلغ قيمة أكبر ورقة نقدية متداولة وهي 1000 بيزو (7.09 دولار عند الطلب الرسمي، و3.46 دولار وفق أسعار الصرف في السوق الموازية، مما يعني أن المعاملات الضخمة يمكن أن تتطلب أكياساً مكدسة بالنقود بالمعنى الحرفي للكلمة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ووفقاً لما تتعلمه دول شمال الكوكب في الوقت الراهن، يعني التضخم أنه من الصعب على المرء الاستمرار في كفاية حاجته إلى نهاية الشهر، ومع تآكل القوة الشرائية للعملة تزداد أعباء النفقات اليومية لتستهلك كل سنت تملكه، وكذلك تبدو كل فاتورة كهرباء وكأنها إهانة، وكل أجرة حافلة كأنها ابتزاز، وعلاوة على ذلك كله فإن ما تبقى من مال مخصص للطعام بدأ يشح بالتدريج، ويصبح الفقراء الأفراد الأكثر تضرراً، لا سيما النساء والفئات الضعيفة الأخرى.

غني عن القول إن الحد الأدنى للأجور في الأرجنتين لم تعد له صلة منذ فترة طويلة بأي أجور معيشية كريمة، ويبلغ في الوقت الراهن نحو 48 ألف بيزو شهرياً، وفي المقابل تحتاج الأسرة المؤلفة من أربعة أشخاص إلى 230 ألف بيزو لتغطية حاجاتها الأساس في بوينس آيريس، ولن يكون من شأن هذه الهوة في الأرقام سوى أن تتوسع باستمرار، فإذاً كيف يتدبر الأرجنتينيون شؤونهم؟

في مواجهة هذا الحجم المروع من التحطيم للأجور تضطلع النقابات هنا بدور بالغ الأهمية، إذ ينتسب حوالى 40 في المئة من العمال الذين يتلقون أجوراً إلى نقابات في الأرجنتين، مقارنة مع 10.3 في المئة في الولايات المتحدة.

ويشارك هؤلاء [المنتسبون إلى نقابات] في مفاوضات منتظمة بغية الضغط من أجل دفع أجور تواكب وتيرة التضخم، وعادة ما تأتي الدفعات على شكل أقساط دورية على مدار السنة، والآن هو الوقت المناسب لجميع العمال حول العالم كي ينضموا إلى نقابات أو يشكلوا اتحادات على مستوى عالمي.

يمكن تعلم درس آخر من دولة تعيش تضخماً بـ 70 في المئة، يتمثل في أهمية التحقق من التفاصيل الدقيقة التي تنطوي عليها مختلف أنواع الخدمات والعقود، لا سيما منها عقود الإيجار، ففي العام 2020 أقرت الأرجنتين قانوناً ينص على إلزام أصحاب العقارات بإبرام عقود لا تقل عن ثلاث سنوات، وأن تكون أية زيادة يفرضونها مرتبطة بمؤشر أسعار الاستهلاك وسلم الرواتب، وفي حين أن ذلك حمل في الواقع عدداً من المالكين على سحب عقاراتهم من السوق أو زيادة الرسوم من بين كثير من الأمور الأخرى، فقد احتفت فئة المستأجرين بهذه الخطوة وأعربت عن رضاها عن النتيجة.

واستطراداً يجد الأفراد الذين لا يزالون قادرين على جمع بعض المدخرات، أن أي أموال باقية لهم في حسابهم المصرفي سرعان ما بدأت تفقد قيمتها، ويعرف عن الأرجنتينيين تقليدياً تهافتهم على شراء الدولار الأميركي وإخفائه "تحت فراش السرير"، بحسب المثل الشائع، لكنهم باتوا على نحو متزايد يفتشون عن بدائل مثل العملة المشفرة، ويمكن أن تكون مثل هذه الاستثمارات محفوفة بالأخطار، لكن الأمر يستحق استكشاف حسابات الادخار المطروحة، إذ سيخسر المدخرون المال في ظل تضخم بتسعة في المئة، أكثر مما سيتكبدونه تحت وطأة تضخم بثلاثة في المئة.

وعلى الرغم من أننا طورنا استراتيجيات للتكيف مع هذه الظروف إلا أن الشعور بالاختناق الاقتصادي البطيء لا يزول على الإطلاق، وبحسب دراسة استقصائية أجريت أخيراً تبين أن 60 في المئة من سكان الأرجنتين يشعرون بأن التضخم يشكل المصدر الرئيس للقلق في مجتمعهم.

وفي سياق مواز يعتبر سيناريو التضخم في الولايات المتحدة أكثر إشراقاً بالطبع، فقد انخفض "مؤشر أسعار المستهلك" من 9.1 في المئة إلى 8.5 في المئة خلال شهر يوليو (تموز)، مما أنعش الأمل في أن هذه الموجة من التضخم قد تنحسر كذلك، لكن يتعين أن ننتظر بضعة أشهر قبل أن نتأكد من ذلك على وجه اليقين.

كخلاصة، يبقى أنه في الحالين كلتيهما يمكننا أن نستلخص العبر من موجة التضخم المتصاعد، وتتمثل في ضرورة اتخاذ مبادراتٍ للانخراط في اتحادات نقابية ومعرفة حقوقنا كمواطنين وإظهار التضامن مع بعضنا بعضاً، إذ نستحق كلنا الحصول على تلك الرزمة الثانية من الـ "كوكيز".

 نشر في "اندبندنت" بتاريخ 24 أغسطس 2022

© The Independent