Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل انجلى اللغز الذي أحاط قرنا بنص للسويسري بليز سندرارس؟

كتاب أسطوري لا يزيد على 16 صفحة من الكاتب الأكثر غرابة وكذباً في زمنه

بليز سندرارس (1887 – 1961) (أ.ف.ب)

هو كتاب لم يسمع به أحد بشكل عام، بل من الصعب اعتباره كتاباً بالنظر إلى أن عدد صفحاته قليل إلى درجة مدهشة، ومع ذلك شغل "أسطورة نوفغورود" عالم الأدب والنقد طوال القرن العشرين بحيث ما أن شارف القرن التالي له على الظهور وكاد "الكتاب" يختفي من "التداول" ومن "ذاكرة" حتى كبار المعنيين بأدب السويسري بليز سندرارس، صاحب "الكتاب" حتى فاجأ شاعر بلغاري يدعى كيريل كادليسكي عالم الأدب المغلق هذا عند نهاية عام 1995 بالتأكيد على أن الكتاب الذي كان قد بدأ يعد واحدة من "تخريفات" سندرارس و"أكاذيبه" الشهيرة موجود بالفعل، وأنه هو بنفسه قد اكتشف نسخة من طبعته الوحيدة التي صدرت عام 1907 وها هو سيعيد طباعتها وقد قام بذلك فعلاً ما أقام دنيا الأدب حينها ولم يقعدها. وسرى الاعتقاد لفترة بأن بليز سندرارس لم يكن هذه المرة على الأقل كاذباً، ولكن مهلاً، هذه المرة يبدو أن كيريل كادليسكي هو الذي يكذب، وأن الحكاية تبدو وكأنها حكاية تزوير في تزوير، تزوير على طريقة سندرارس قام به هذه المرة الشاعر البلغاري الذي كان من الواضح أن هدفه يرتبط بحب الشهرة وجنون العظمة، وربما أيضا بالتطلع إلى تحقيق مكاسب مالية ما.

الباحثة تكشف "الحقيقة"!

زعم كادليسكي في أحاديثه حول مشروعه "الخطير" هذا أنه إنما أصدر الترجمة الوحيدة المتوفرة للكتاب التي تمت في موسكو انطلاقاً من أصله الفرنسي فور صدور هذا الأخير أي بين عامي 1907 و1908. وهو زعم تلقفته في موسكو باحثة روسية شابة راحت تتفحص "الكتاب" وتدرسه نقطة نقطة، وكانت النتيجة في رأيها أن ثمة ثغرات عديدة تشي بأن الكتاب لا يعود أبداً إلى تلك المرحلة. فأولاً تبين لها أن قواعد الإملاء المستخدمة في حروف الطباعة تعود إلى ما بعد عام 1917، عندما قامت الثورة الروسية  في هذا المجال بإصلاحات واضحة تتناقض مع ما كان سائداً من قبلها! ثم أن تصميم الغلاف نفسه قد تم بواسطة حروف طباعة كيريلية لم تكن موجودة قبل عام... 1988، بالتالي تخلص الباحثة إلى التأكيد على أن الكتاب الذي "عثر" عليه الشاعر البلغاري لا يمكنه إلا أن يكون... مزوراً. أو في أحسن الأحوال منسوخاً حديثاً، ما ينفي أن النسخة التي بين أيدينا هي نفسها تلك التي كانت بين يدي سندرارس قبل ذلك بقرن وأكثر. وفي المقابل رأى بعض غلاة المهتمين بأدب سندرارس أن هذا لا يمكن اعتباره برهاناً على عدم وجود الكتاب بل "فقط برهاناً يشكك في صدقية الشاعر البلغاري بصدد النسخة التي زعم الحصول عليها".

 

حكاية هيلين المحترقة

وكان هذا رأي الناشر الباحث الفرنسي كلود ليروا الذي أصدر في عام 2001 "أعمال بليز سندرارس الشعرية الكاملة" عن ناشريه "دار دينويل" وقد ضم إليها ما يفترض أنه النص "التقريبي" لـ"أسطورة نوفغورود" فبدا مفتوناً بالحكاية كلها حتى وإن لم يقدر على تأكيد صدقية وجود النص وانتمائه إلى سندرارس أو عدم انتمائه إليه. ومهما يكن لا بد هنا من أن ننقل عن لوروا روايته للظروف التي يفترض أن سندرارس قد كتب فيها ذلك النص. وبحسب تلك الرواية المستندة أصلاً إلى تصريحات لسندرارس، كان هذا الأخير يزور روسيا في عام 1905 وقد أرسلته أسرته إلى سانت بطرسبرغ كي يعمل لدى قريب لهم جواهرجي، فوقع في غرام حسناء شابة تدعى هيلين، لكنه إذ استدعي بسرعة إلى وطنه بسبب مرض أصاب أمه اضطره لترك وظيفته وحبيبته ليعلم إثر ذلك أن هيلين قد ماتت في حريق التهمها حية، فكتب وهو حزين عليها ذلك النص الذي بعث به إلى صديق روسي عرف بحرفي اسمه الأولين "ر.ر"، وهذا للتسرية عن صديقه عمد من فوره إلى ترجمة النص إلى الروسية ليطبعه في ذلك العدد المحدود من النسخ ويقدمه لسندرارس لمناسبة عيد ميلاده، وكان من المفترض أن تنتهي الحكاية هنا.

العودة إلى السؤال

لكن الحكاية كما نعرف الآن لم تنته وربما لن تنتهي أبداً إذ سيظل ثمة سؤال حائر، هل كتب بليز سندرارس هذا الكتاب ونشره، أم أن الأمر ليس أكثر من واحدة من أساطيره المخترعة والعديدة اشتهر بها إلى درجة جعلت الكاتب الأرجنتيني الكبير بورغيس لا يتوقف عن إعلان إعجابه به هو الذي يضاهيه "اختراعاً لكتب وهمية"، بل حتى اختراعاً لكتّاب يروي سيرهم ليتبين لاحقاً ألا وجود حقيقياً لهم. لقد كتب سندرارس كثيراً وكتب بخاصة عن رحلات تبين لاحقاً أنه لم يقم بها أبداً، لكن نصوصه عنها كانت تتفوق في دقتها ما كان آخرون يكتبونه عن رحلات قاموا بها حقاً. ومن هنا ثمة ألغاز كثيرة تحيط بنصوص لسندرارس لا تزال حتى اليوم محل نقاش بين الباحثين وموضوع بحث وتمحيص لدى الدارسين، ولعل الحكاية التي تتعلق بـ"أسطورة نوفغورود" ستظل تعد واحدة من أطرف تلك الحكايات وأكثرها إثارة للحيرة.

من اضطره للكذب؟

فطوال عقود اعتبر كثر من دارسي حياة سندرارس وأدبه أن هذا الكتاب كذبة من أكاذيب الرجل، لكن ما حيرهم دائماً كان تساؤلهم، لماذا جعل الأمر كذبة والنص لا يتعدى بضعة آلاف قليلة من الكلمات بمعنى أنه، بدلاً من أن يصدر ذات يوم في طبعة خاصة أنيقة تشغل أقل من 16 صفحة (وباللغة الروسية من فضلكم!)، كان يمكنه أن يكتبه بالفعل في أقل من 16 ساعة! لكنه صدر بالفعل ليبقى أحجية حتى سنوات قليلة،أي بعد موته بعقود، ثم أتت "المفاجأة" التي لم يتوقعها أحد، مفاجأة "العثور على نسخة روسية فعلية" من "الكتاب" المذكور. مهما يكن لا بد من التذكير هنا بأن من نتحدث عنه كان يرفض على الدوام أن يكون رجل أدب، هو الذي كتب أكثر من أي كاتب آخر وكتب باستمرار مدهش، ومع هذا، على الرغم من كثرة كتاباته وكثافتها عرفت أسطورة بليز سندرارس كيف تعمل دائماً على إخفاء الكاتب خلف قناع الرجل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سيرة كاذب محترف

ونذكر للمناسبة بأن بليز سندرارس سويسري الأصل في مدينة شودي فان ولد في عام 1887، وكان اسمه الأصلي فردريك سوزيه أما بليز سندرارس فهو الاسم الذي اختاره لنفسه حين أضحى كاتباً، ولقد بدأ سندرارس حياته ككاتب بشكل مبكر ومبتكر، إذ إنه يعد حتى أيامنا هذه من أكبر المجددين في الشعر والكتابة الفرنسية إلى جانب أبولينير، وهو ابتكر باكراً ذلك الأسلوب العنيف والقوي، الأسلوب الذي ساعده في التعبير عن حياة العمل والعنف والخطر التي عاشها جزئياً وحلم بها جزئياً، علماً بأن كتابيه الكبيرين الأولين اللذين حققا له القدر الأكبر من الشهرة "أعياد الفصح في نيويورك" و"أعياد صغيرة" يبدوان بالتأكيد أقل عنفاً وأكثر إقبالاً على أفراح الحياة، وتماماً كما عاش سندرارس مبحراً في بحور الحياة حقيقة أو وهماً، فإنه عاش كتابته كذلك مبحراً في بحور الكلام، فجاءت نصوصه عبارة عن مزيج من الشعر والنثر والصور والخوارق والأساطير ووصف الطبيعة والمشاعر.

حكاية يد مقطوعة

لكن سندرارس لم يكتب الشعر وحده بل كتب القصة أيضاً، ومن أشهر قصصه "التجوال"1948  التي تعد أعظم تمجيد خطه يراع كاتب قصد تمجيد الحياة الخطرة، وينضوي هذا النص على الرغم من بعده الروائي الواضح ضمن إطار النصوص التي كتبها بليز سندرارس عن حياته وسيرته الذاتية وكلها نصوص عنيفة غريبة يمتزج الواقع فيها بالخيال، على الرغم من كثرة ما كتبه ووجوده الحي في الحياة الثقافية الفرنسية ظل النقاد الفرنسيون يتجاهلونه غير راغبين في أخذه على محمل الجدية، لذلك كان بإمكانه أن يرحل مغموراً عند بدايات عام 1961، ولكن عادت شهرته وبلغت أوجها في عام وفاته حين منح "جائزة الآداب الكبرى لمدينة باريس" وكانت واحدة من أكبر الجوائز الأدبية الفرنسية في ذلك الحين. ونذكر من بين كتب بليز سندرارس الشهيرة الأخرى، "باناما أو مقامرة أعمامي السبعة" و"الذهب" و"بليز سندرارس يتحدث إليكم" ثم بخاصة كتابه الأشهر "اليد المقطوعة" الذي ارتبط بسيرته لأنه هو نفسه عرف بلقب "ذو اليد المقطوعة" إذ كان قد فقد ذراعه خلال الحرب العالمية الأولى، وهو استقى من فقدان يده أسطورة أخرى من أساطيره، لكن هذه حكاية أخرى بالطبع.

المزيد من ثقافة