Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غرويتويزن الفيلسوف الذي عاكس التيارات فعاقبته بإهمال كتبه وجهوده

أعاد في كتابه "أصول الذهنية البورجوازية" إلى الفرد تاريخه المنسي

برنار غرويتويزن (غيتي)

سمِّ الغني غنياً سيرضى طبعاً بذلك ولن يعترض، فهو غني ولا ينكر غناه، وسمِّ العامل عاملاً سيوافقك من دون تردد، وإن قلت عن الفقير إنه فقير لن يجد سبباً يمنعه من الإقرار بذلك آملاً أن تتحسن أحواله. وحده من بين المنتمين إلى الطبقات الاجتماعية المختلفة، البورجوازي، هو الذي قد يعترض ويغضب، ولا سيما إذا أردفت التوصيف بما يعني أنه بورجوازي صغير أو متوسط. مع ذلك ليس ثمة عيب في أن يكون المرء بورجوازياً بل كثر يتطلعون إلى أن يكونوا بورجوازيين على اعتبار أن هذه الطبقة هي التي تبني الحضارات وتطور الثقافات وتعيش غالباً في مأمن من صروف الدهر. ومن هنا يثير الدهشة دائماً ذلك البورجوازي الذي لا يتوانى عن اعتبار وصفه بالانتماء إلى طبقته هذه نوعاً من الإهانة واللؤم الساخر. وهذا على أية حال ما يفيدنا به واحد من كبار علماء الاجتماع في واحد من أكثر كتبه عمقاً وطرافة، برنار غرويتويزن في كتابه "أصول الذهنية البورجوازية"، وذلك منذ صدوره للمرة الأولى في عام 1927 في فرنسا وباللغة الفرنسية ليخيل إلى كثر أنهم أمام مؤلف فرنسي غريب الاسم بعض الشيء. ومع ذلك تعرف الأوساط العلمية في فرنسا وألمانيا أن هذا الكاتب ليس فرنسياً حتى وإن كان قد وضع من بين مؤلفاته الكثيرة المكتوبة في معظمها بالفرنسية واحداً من أفضل الكتب التي صدرت في القرن العشرين عن... جان جاك روسو. ولكن لماذا ألمانيا أيضاً؟ بالتحديد لأن غرويتويزن ألماني.

خرق محظورات

وهنا، قبل أن نتوقف عند الكتاب الذي أتى يوم صدوره كنوع من خرق التابوهات على أية حال، قد يكون من المفيد توضيح علاقة غرويتويزن بفرنسا وألمانيا و"سر" إصداره كتبه الرئيسة باللغة الفرنسية. فهذا الباحث ولد في برلين في عام 1880، وأمضى طفولته ثم شبابه وسنواته الجامعية في العاصمة الألمانية حين كان تلميذاً للفيلسوف الألماني ديلتاي، ثم زميلاً لفالتر بنجامن. وهو بعد تخرجه من الجامعة درس الفلسفة في برلين نفسها قبل أن يرحل في عام 1933 إلى فرنسا، التي استقر فيها وكتب بلغتها ونال جنسيتها، قبل أن تدهمه الحرب العالمية الثانية فيجد نفسه مجبراً على الفرار إلى لوكسمبورغ. وكانت أهمية غرويتويزن في عمله الجامعي ومجادلاته السجالية أكثر منها في كتبه نفسها، فهو لم يصدر في حياته سوى عدد قليل جداً من الكتب. وعلى الرغم من تضاؤل عدد كتب غرويتويزن فإن دارسيه يقولون إن هذا العمل كان من أكثر الأعمال الفكرية والفلسفية في القرن العشرين جدة، حيث إن غرويتويزن ورث عن أستاذه ديلتاي "الاهتمام بإقامة سيكولوجيا للفهم وتاريخ للعقل"، بمعنى أن العقل لدى غرويتويزن، كما لدى ديلتاي من قبله، ليس معطى جامداً، بل هو كائن تاريخي في تبدل مستمر، فإذا كان لنا أن ندرس العقل وأبعاده علينا أن نلتقطه في حركته التاريخية. حين رسم غرويتويزن خيوط هذا التفكير "الجديد" -والجديد على الرغم من إحالته إلى ديلتاي وإلى هيغل معاً، وربما إلى فيورباخ أيضاً- كان الأمر أشبه بالبدعة كما أسلفنا، ولكن في ما بعد ومنذ سبعينيات القرن العشرين، ولا سيما في ضوء الأشغال الفكرية الجديدة التي طاولت مقدمات الثورة الفرنسية، اكتشفت الحياة الفكرية كم أن غرويتويزن كان محقاً، ولا سيما في كتابه "الأنثروبولوجيا الفلسفية" كما في "أصول الذهنية البورجوازية"، حيث جهد غرويتويزن كما سنرى بعد سطور كي يحدد كيف بزغ، في أوروبا الغربية، مفهوم الفردية ثم مفهوم "البورجوازي" المرتبط به. مركزاً على أن "كلا هذين المفهومين مرتبط أساساً بالحضارة الغربية ويقتصر عليها"، علماً بأن بروز هذين المفهومين هو الذي حدد بروز ظواهر لاحقة وشديدة الأهمية مثل "التكنولوجيا والرأسمالية والثورة الفرنسية". بهذا المعنى يكون غرويتويزن قد أعلن سابقاً عن تلك الثورة الفكرية الكبرى في هذا المجال والتي تشكل -بالنسبة إلى كثيرين- أحد المعالم الفكرية الأساسية للقرن العشرين.

علوم كثيرة معاً

ينتمي "أصول الذهنية البورجوازية" إلى الدراسات التاريخية وإلى علم الاجتماع والفلسفة في الوقت نفسه كما إلى حقل السوسيولوجيا الجماعية، بالتالي فإنه منذ نشر للمرة الأولى تلقفه بسرعة قراء نخبويون يومها معنيون بهذه التوجهات الدراسية ليروا فيه محاولة تكاد تكون فريدة من نوعها لتعريف البورجوازي، فرداً قبل أن يكون طبقة، وتحديد أهميته ودوره في المجتمع كما في الأمم منذ ظهوره على مسرح التاريخ وحتى ذلك الحين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل في مقدورنا هنا أن نعود بالسبب الذي جعل غرويتويزن مهملاً من جانب الباحثين والمؤرخين، تحديداً إلى إقدامه وليس في هذا الكتاب وحده، على ما لم "يجرؤ" عليه كتاب آخرون: محاولته التأريخ للفرد منذ أقدم العصور حتى بدايات القرن العشرين. وكان ذلك الزمن بالطبع زمن الأفكار والقيم الجماعية. فمن ناحية كانت هناك الأفكار الاشتراكية الكبرى التي تحض الفرد على أن يضحي بنفسه في سبيل الجماعة وقضاياها الكبرى، ومن ناحية ثانية كانت هناك شت الفاشيات والنازيات التي لا تحض الفرد على ذلك وإنما تجبره باسم الزعيم والحزب، أتت كلها لتضاف إلى جماعية الأديان، بل إن أفكاراً كالوجودية وبعدها البنيوية وبينهما الفينومينولوجية على الرغم من تطلعاتها نحو الحرية جعلت من "الالتزام"، أي خدمة الجماعة، قضيتها الكبرى، هذا إن كانت وجودية ملحدة على طريقة سارتر، فإن بدت وجوديتها مؤمنة على طريقة غابريال مارسيل توجهت صوب جماعية الاندماج الديني. في قلب ذلك التوجه نحو الإنسان الاجتماعي، أتى غرويتويزن إذاً ليرسم للفرد تاريخه منذ "اعرف نفسك بنفسك" السقراطية حتى نيتشه مروراً حتى بلمحات من القديس توما الأكويني وغيره. ولم يكن هذا كله مستساغاً. من هنا، أهمل غرويتويزن وفكره الذي لا يقول أقل من "أن البورجوازية في حد ذاتها تعتبر واحدة من المحاولات الأساسية التي يبذلها النوع الإنساني من أجل تنظيم الحياة". وفي هذا الإطار، يضيف الكاتب "تعتبر التجربة البورجوازية واحدة من التجارب الأكثر بروزاً، بل واحدة من التجارب الأكثر نجاحاً". وإثر ذلك يستطرد غرويتويزن مختصراً تعريف البورجوازية في عبارتين سريعتين: العمل أولاً والملكية ثانياً. وضمن هذه الشروط يرى المؤلف أن فلسفة البورجوازي الحياتية، بعيداً من أن تكون مؤسسة على نوع من التأمل النظري تنبني على العكس من هذا على التجربة الحية الملموسة. على الواقع العملي... "في معنى أن البورجوازي لا يصيغ تصوره للعالم إلا انطلاقاً من الحياة نفسه".

من علمه العيش؟

انطلاقاً من هذا التأكيد الذي يكرس الكاتب عشرات الصفحات لشرحه في تفاصيله، ينتقل إلى السؤال الذي يبدو هنا أساسياً بالنسبة إليه: ترى، كيف تعلم البورجوازي تجربة العيش؟ ثم من أين أتى البورجوازي فعلياً وعملياً؟ للإجابة عن هذا السؤال المزدوج، يدرس الكاتب الكيفية التي تكون بها تاريخياً وعي الوجود لدى البورجوازي كفرد تحديداً -فبالنسبة إليه تعبيرا الفرد والبورجوازي متطابقان- سائلاً عما كان عليه البورجوازي في بداياته ثم في الأزمان الأقرب إلينا. وفي هذا السياق يورد المؤلف كثيراً من تعابير لغة البورجوازي وحديثه عن نفسه مستقاة حتى من النصوص القديمة، كما أنه إلى ذلك يورد كثيراً من نصوص مؤلفين سابقين عليه كانوا بدورهم قد استنطقوا فردية البورجوازي. غير أن الشيء الذي ركز عليه الكاتب في شكل خاص إنما كان العلاقة التي انبنت تاريخياً بين البورجوازية والشعب، كما بين القساوسة والعلمانيين، متوقفاً هنا بإسهاب عند التطور التدرجي الذي طاول الأفكار الدينية نفسها على ضوء تطور الوعي البورجوازي، ناهيك بالدراسة الحاذقة للصراع الذي دار دائماً بين الرأسمالية والكنيسة، بحيث إن كل هذا بدا في الكتاب تاريخاً للعناصر التي أسهمت في تشكيل البورجوازية كقوة تقف إلى جانب الكنيسة وغالباً في مواجهتها، باعتبارها "قوة أخلاقية مستقلة ومختلفة بأساليب عيشها وطريقة تفكيرها وإحساسها بالكون وما فيه".

غرد خارج سربه

بقي أن نشير أخيراً إلى أن هذا الكاتب رحل عن عالمنا عام 1946، في لوكسمبورغ، في مناخ كان العالم يخرج فيه، لتوه، من الحرب، وتصدح فيه أصداء الأفكار الجماعية، وحتى وجودية سارتر وغابريال مارسيل التي كان يفترض بها، أصلاً، أن تركز على الفردية، كانت تجنح لأفكار مثل الالتزام بالجماعة كما أشرنا. أما السورياليون فأصبحواتروتسكيين وستالينيين. لهذا يقال عن غرويتويزن إنه غرد خارج سربه، ولقد احتاج الأمر إلى بروز أعمال ميشال فوكو وفيليب آرييس في فرنسا، ولويس ممفورد حتى تعاد لغرويتويزن أهميته ويعاد نشر كتبه، سواء كتبها بالفرنسية أو بالألمانية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة