Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

روايات العجائز تفتن النقاد والقراء بمغامراتها الفريدة

كواباتا وماركيز وفوكوزاوا ونجيب محفوظ وجيتانجالي شيري تطرقوا إلى شخصية العجوز

العجوز في فيلم "ناراياما" المأخوذ من رواية فوكوزاوا (الخدمة الإعلامية)

لم تكن الكاتبة الهندية جيتانجالي شري لتحصل على جائزة البوكر الدولية لولا بطلتها العجوز "ما"، وهي امرأة مكتئبة تبلغ من العمر 80 سنة، "صغيرة جداً بحيث يمكنها التسلل من أي مكان". فقدت زوجها، وعليها الانصياع للتقاليد الهندية الصارمة للمرأة الأرملة، إذ يجب "إخفاء الأرملة وعزلها وتغطيتها بالأبيض". تمثل هذه الرواية وبطلتها نموذجاً فريدا في الأدب الروائي الذي يتطرق الى العجائز، نساء ورجالاً، بصفتهم أبطالاً متفردين يعيشون تجربة العمر المرير.

في عالم الأدب لم تقدم أكثر الكاتبات النسويات تفاؤلاً شخصية تتشابه مع شخصية بطلة "ضريح الرمل"، في حين نجد شخصيات روائية ذكورية تتعلق بآمال الحب العاطفي والنشوة الجسدية في سنوات الشيخوخة، مثل فلورنثيو بطل رواية "الحب في زمن الكوليرا"، وبطل رواية ياسوناري كاواباتا في "الجميلات النائمات"، وبطل ماركيز في "ذكريات غانياتي الحزينات"... كلهم عجائز ينشدون صلة مبهجة عبر الجسد والحب. هناك أيضاً بطل رواية "العجوز" الذي يقرأ الروايات الغرامية، للكاتب لويس سبولفيدا. وهنا، لا يمكن قراء رواية الكاتب الياباني شيتشيرو فوكوزاو "ناراياما"، المترجمة إلى لغات عدة منها العربية، إلا أن يتذكروا العجوز "اأو رن"، بطلة الرواية التي تقترب من السبعين وتنتظر رحلة الموت  إلى جبل "نارياما" محمولة عبر الوديان، على لوح يحمله ابنها على ظهره، كي يتركها بعد انتهاء الرحلة، بالقرب من شجرة أو صخرة، ثم يعود وحيداً وقد أتم أمنية أمه في الموت على سفح الجبل، بعد أيام من الاحتضار الهادئ في وسط الطبيعة. وهناك على سفح الجبل، يكون في انتظارها الإله الياباني.

في الكتابة الروائية عربياً نجد في روايات نجيب محفوظ حضوراً واحتفاء رمزياً بالرجال المتقدمين في العمر، وفي معظم الروايات المحفوظية هناك رجل ينتمي إلى الماضي، يؤدي دور العقل الحكيم، أو المتأمل في مجرى أحداث الحياة وتحولاتها. هذا يمكن مثلاً رؤيته مع شخصية الجد في رواية "يوم قتل الزعيم"، وعامر وجدي، في رواية "ميرامار"، وأنيس زكي في "ثرثرة فوق النيل" وغيرها من الروايات، كما نجد نموذجاً للرجل المتقدم في السن والشغوف في الحياة في بعض روايات الكاتب السوري حنا مينا، كما هو الحال مع شخصية "زكريا المرسنلي" في رواية "الياطر".

علاقة مضطربة

لكن عربياً لم يتم طرح شخصية امرأة طاعنة في السن تبدأ من جديد، كما هي عند شري، لقد ظهرت عند الكاتبة المصرية سلوى بكر في روايتها "وصف البلبل" شخصية المرأة الخمسينية التي تقدم على علاقة مع شاب يصغرها، لكن لم يكتب عن امرأة سبعينية أو ثمانينية تمضي لاهثة خلف أحلامها، هذا مع الأخذ في الاعتبار أن التقاليد العربية فيها تماس يميل نحو التقاليد الهندية، في إنكار فكرة التجربة على المرأة المتقدمة في السن، في الوقت الذي تغيب هذه الأفكار اجتماعياً وإبداعياً من الواقع الغربي

تمعن بطلة شري في الامتثال للتقاليد في أول مئة صفحة، إذ تظل مستلقية، تشيح بوجهها نحو الحائط داخل منزل زوجها الراحل في إحدى مناطق شمال الهند، لكن بشكل مفاجئ وغير متوقع تقرر "ما" الانقلاب على كل هذا. تغادر المنزل وتعبر مع ابنتها إلى باكستان، كي تواجه الحياة من جديد وتتصالح مع ماض بعيد، أدمى قلبها يوماً. تسافر إلى لاهور حيث عاشت حين كانت فتاة شابة، تمضي إلى "بختونخوا" للبحث عن زوجها السابق أنور، وفي الصفحات الأخيرة نجدها استعادت ذاتها واسمها الأول "شاندرا" بعد سلسلة من الأحداث الطويلة، التي تختلط فيها الواقعية المحضة بالواقعية السحرية.

تتضمن الرواية أصواتاً عدة، وينتقل السرد في بعض الفصول عبر منظور مجموعة من الغربان، للتعليق بشكل هزلي على الشخصيات. فالهند هي مكان تنزلق فيه الجدران، وتتحدث الأفاعي، وتعرف الفراشات قيمتها، لذا يشار نحو البطلة "ما" بأسماء مختلفة، "آما" "ماتا" "باجي ماتا"، بحسب وجهة نظر السارد، وعلى الرغم من أنها البطلة الرئيسة فإن تبدل الرؤية لاسمها يأتي من اختلاف موقع رؤيتها منذ الصبا وحتى بلوغها الثمانين..

جرأة سلوك البطلة

علق أحد النقاد على فوز شري بالبوكر بأن السبب يعود إلى تقديمها نموذجاً لم يتم تقديمه من قبل في الأدب الحديث، على الرغم من أن شري كانت تتنافس مع قامات أدبية كبيرة، أبرزهن البولندية أولغا توكارتشوك الحائزة جائزة نوبل للآداب.

لكن بطلة شري الثمانينية التي تقرر خوض غمار الحياة من جديد، وتحدي التقاليد والسير عكس الزمن وشيخوخة الجسد واستعادة حب مضى، وإقامة صداقة مع امرأة متحولة، تجسد نموذجاً مستجداً سواء بالنسبة إلى عالم الرواية الهندية، أو للقارئ الغربي الذي يكتشف واقعاً اجتماعياً مغايراً عنه. وفي الوقت ذاته يعبر سلوك البطلة "ما" عن جرأة لا تنتمي للمجتمعات الآسيوية الشرقية، حيث الرجال ما زالوا يتحدثون إلى النساء بأسلوب حاد ويصرخون فيهن، والنساء يحاولن التملص من الانصياع. تكتب شري بسخرية منتقدة الرجل الهندي لعجزه عن الضحك بسب رغبته في الظهور كمتحكم بكل الأمور، بينما يصر رجل آخر على أن تطهو زوجته وجبات طازجة كل يوم، لأن تناول بقايا الطعام قد يقتله.

في المقابل تتعمد الكاتبة تقديم رؤية حداثية للنساء والبنات في العالم الجديد، أي القرن الحادي والعشرين، وتسلط من خلالها الضوء على أهمية استيعاب ألم المرأة وكيف يؤثر في حالتها النفسية، وفي حياتها ككل، بينما عائلة البطلة يصفونها بالقول، "لوحظ أنه في الثمانين تحولت (ما) إلى أنانية". لكن مثل هذه الملاحظة تربك ابنتها "بيتي" الكاتبة البوهيمية التي لديها عدة عشاق، تظهر على الشاشات وتتحدث عن الجنس بحرية، تسأل هذه الفتاة نفسها، "من منهما الأكثر انفتاحاً الآن هي أم والدتها؟".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تضمنت الرواية تقاطعات فلسفية ودينية، واختباراً عميقاً لمعنى الحدود، وتساؤلاً واضحاً: هل هناك حقاً حدود بين أفراد الأسرة والأمم والجنس والطبقات والأديان؟ تظهر الرواية بشكل مبتكر كيف أن هذه البنيات الاجتماعية قد تقيدنا جسدياً وتمنع تعاطفنا مع الآخر، وعلى مر السنين تم إرساء قناعات بأنه لا بد من وجود حد فاصل مع الآخر الذي ينتمي لهوية أو ديانة أخرى، لكن تأتي شخصية مثل "ما" كي تلقي حجراً في المياه الراكدة لحيوات النساء الاجتماعية.

عجائز الروايات

في جرأة جيتانجالي شري وتجريبها، وفي احتمالية تأثيرها في جيل جديد من المؤلفين الشباب في الهند، هناك رغبة محسوسة لبناء عالم سردي مختلف، يعبر عن همومه الوجودية بأسلوب جذاب وممتع في مزجه بين المرح والسخرية، وعدم التعامل مع المأساة بجدية، إذ قامت الكاتبة بصياغة الفقرات في نثر غنائي. ولم تدخر المترجمة الأميركية ديزي روكويل أي جهد لترجمة الكتاب بكل الدقة والتفاعل، على الرغم من احتشاد النص بكثير من التفاصيل المرتبطة بالحياة اليومية، التي أثقلت تقدم السرد في كثير من الصفحات، مع الغرق في وصف الحياة اليومية في الهند. ومنها الحديث عن "الفواق- الحزوقة" التي تصيب "ما" عبر أكثر من خمس صفحات، وتتبع ردود فعل أفراد العائلة ونصائحهم للبطلة. وكذلك وصف الحقول وأعواد قصب السكر وزهور الأقحوان، أو إعداد الشاي في ساعات الصباح الأولى، حيث "تنعم (ما) بالسلام، وتتأمل الفجر".

تظهر الرواية أيضاً ديناميكيات العلاقات الأسرية بكل تعقيداتها ببراعة، والتنافس والتوتر، وقبل كل شيء العاطفة التي تكمن وراء الصراعات الحتمية بين الشخصيات والأفكار. وأحياناً ثمة تبادل الأدوار الحتمي في الحياة، مثل اعتناء الابنة بأمها العجوز متنبهة لكل صوت عندما تنام، مثلما تفعل الأم مع طفلها.

تمثل أيضاً شخصية روزي صديقة "ما" المتحولة واحدة من أكثر الشخصيات المحببة والمحورية. إنها صديقة قديمة يسبب حضورها انزعاجاً لأفراد عائلة البطلة، ويجدون صعوبة في فهم السبب في ارتباط الصديقتين الواحدة بالأخرى، ولا يتضح معنى ارتباطهما العميق إلا لاحقاً في الثلث الأخير من الرواية. قدمت شري أيضاً عبر هذه الشخصية تحدياً لبعض المعتقدات الأيديولوجية عبر مواجهة الحقيقة بأن وجود روزي لا يتناسب بدقة مع فئات معينة. ومع ذلك، فهذه ليست مشكلة بالنسبة إلى البطلة "ما" التي تقبل صديقتها وتقدرها، على الرغم من أن روزي غالباً ما تتعرض للاحتقار والتجاهل.

من المهم أيضاً التوقف عند فكرة تعامل الكاتبة مع الزمن، سواء الواقعي أو النفسي. هناك زمن يتعلق باللحظة الآنية لحياة البطلة بعد موت زوجها وانطلاقها للبحث عن واقع جديد، وزمن آخر يرتد للوراء نفسياً في تمسكها بإرادة العيش في "اللا زمان"، عبر قرار تحدي العجز ومفهوم ارتباط التقدم في السن بالنهايات والموت. وهذه الفكرة بحد ذاتها من الممكن اعتبارها حداثية وجريئة في دعوة النساء والمجتمعات إلى إعادة التفكير في شأن القضايا المحورية الأبرز بالنسبة إلى الإنسان

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة