Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حرف من شمال لبنان... تصارع من أجل البقاء

مهن توارثتها الأجيال وهي مصدر دخل بسيط لآلاف العائلات

صابون بأشكال مختلفة (اندبندنت عربية)

صمدت المهن التقليدية عشرات السنين لإقبال الناس على منتجاتها، لكن اليوم في عصر المكننة، بات بقاؤها معتمداً على بعض الداعمين والمحبين لكل ما هو تراثي وقديم.

وتبقى المشكلة الأكبر عدم إقبال الجيل الجديد على تعلم هذه المهن كصناعة الصابون أو التنجيد أو حتى الخياطة، لذلك فهي قد تنقرض مع موت أصحابها.

تتمركز غالبية هذه المهن في طرابلس شمال لبنان، وفي جولة سريعة على منطقة التل وساحة النجمة، وصولاً إلى الأسواق الشعبية ومنطقة الجسرين وأبواب الزاهرية القديمة ومنطقة التربيعة، نلاحظ عدداً من الحرفيّين الصّامدين في وجه الأوضاع المعيشيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة الخانقة.

وفي الأسواق الداخلية لطرابلس، صناعات وحرف يدويّة استمدّت جذورها من عمق التّاريخ، ولا تزال تصارع من أجل البقاء.

صناعة الصّابون

يقع خان الصابون وسط "خان المصري"، وتقودك إليه رائحة المسك والورد والعنبر التي تفوح في أرجاء المكان لتدلّك على مصنع الصّابون العتيق لصاحبه محمود شركس.

وتعود هذه الصناعة إلى عهود قديمة، لاقت رواجاً انطلاقاً من سواحل طرابلس لتمرّ عبر صيدا وصور وصولاً إلى اللاّذقية وطرطوس وتحوّلت بعدها المدينة إلى سوق يقصده أمراء أوروبيّون بحثاً عن هذا المنتج.

وفي حديث إلى "اندبندنت عربية" يقول شركس: "ورثت هذه المهنة عن أجدادي الذين بدأوها عام 1803، كنت أرافق والدي إلى المعمل منذ 1967، ولا زلت أعمل بها بمساعدة ابني. تميّزنا بصناعة الصّابون العربيّ المصنوع من زيت الزّيتون الصافي لفوائده كحماية البشرة من الأمراض الجّلدية ومنع تساقط الشّعر".

وعلى الرغم من أن هذه الصناعة اقتصرت قديماً على الأشكال التقليديّة المربعة ذات اللّونين الأخضر أو الأبيض والمستديرة الملوّنة، إلاّ أنّ شركس أحبّ أن يضيف لمسته الخاصّة، "تفنّنت بالزّخرفة وصناعة الأشكال المستوحاة من الطّبيعة كعناقيد العنب والعصافير والورود والمسابح وغيرها وهي موهبة اكتشفتها منذ صغري".

باتت اليوم هذه الحرفة محطّ أنظار السياح الأجانب الذين يختارون ما يحلو لهم من أشكال وعطور مختلفة، إلا أن مدخولها "شيء لا يذكر".

 

التنجيد
في المقابل، نرى المنجّد عامر الصيادي مفترشاً الأرض ممدداً على قطعته الفنية، جاهداً في ضبط الإبرة والخيط والكشتبان بين يديه لإعادة تصليح مقعد قديم وتجديده.

ورث الصّيادي المعمل عن أبيه منذ ما يقارب 60 عاماً، وتعلم أصول المهنة عندما كان يرافقه إلى السوق منذ الصّغر مع إخوته وهو يراقب عن كثب طبيعة العمل إلى حين أضحى معلماً ماهراً.

ويشير إلى أنّ "مهنة تنجيد المفروشات تقلّصت اليوم وهي تعود إلى الزمن القديم فلا يوجد أيّ مؤسسات خاصة لتعليمها، إلا أنني لا زلت أمارسها لتسديد الحاجات الأساسيّة، رافضاً توريثها لأبنائي لأنّ إنتاجيتها لم تعد وفيرة مقارنة بالماضي".

"الإسكافي"

كان حضور "الكندرجي" أو "الإسكافي" جليّاً منتصف الخمسينيات حتى السنوات الأخيرة من القرن الماضي، فيما بدأت تتلاشى هذه الحرفة أمام المعامل الكبرى والأحذية المستوردة.

ومن يمتلك حذاء غالي الثمن وتعرّض إلى ضررٍ وهو قابل للتّصليح لا يتردد في قصد المعلّم محمد مسلّم لهذه الغاية داخل أسواق طرابلس القديمة.

ويوضح مسلم أنه على الرغم من مجاهدة هذه المهنة يومياً للبقاء في ظلّ الاستيراد العشوائي للأحذية المصنّعة من الخارج، إلّا أنّها باقية حتماً.

الخياطة

خان الخيّاطين الذي همّشته الألبسة الجاهزة والتكنولوجيا الحديثة، يعدّ من أقدم المعالم الأثريّة في المدينة. فقد احتضن الخان منذ مئات السنين أمهر الخياطين في حياكة الألبسة التراثية والعباءات المطرّزة والطرابيش وغيرها، بفضل دقتهم ومهارتهم في صناعة الأزياء العربية.

ويشير أحد التجار إلى أن "هذا الخان يعود إلى العهد المملوكي، وأن هذه الصّناعة متوارثة أباً عن جد، وهي تلفت انتباه السّياح المتشوّقين لاكتشاف تراث المدينة وثقافتها، ويسارعون إلى ارتداء الأزياء من أجل التقاط صورة تذكّرهم بمجيئهم إلى لبنان".

إلّا أنّ هذا الخان يشهد اليوم تراجعاً من ناحية عدد الخيّاطين في ظلّ اتجاه محال أخرى لبيع الألبسة الجاهزة ذات الطابع التّراثي.

محط استقطاب السّياح

يبدو لافتاً، احتشاد عدد كبير من السياح الأجانب عند المرشد السياحي سامر عبد الحي في قهوته في السوق القديم، إذ تشكّل محطّة استراحة لتذوّق البوظة والعصائر على أنواعها. يوضح عبد الحي أن "السّياح غالباً ما يقصدون الأسواق لاستكشاف المهن التّراثية ويتعرّفوا أكثر على حضارة هذه المدينة التاريخية.

ويوضح أن "عدم الاستقرار الأمني، يؤثّر سلباً في السياحة التي يجب أن تكون في أوجها في مدينة غنية بالثقافات، خصوصاً أن بعض السّفارات (الأميركيّة والأوروبيّة) تمنع رعاياها من الحضور إلى طرابلس. إلاّ أنّ الفيحاء مظلومة على الصّعيد الإعلامي، فهي ماسّة وجب اكتشافها عن كثب لما تحويه من تاريخ وثقافة وحضارة فريدة من نوعها"، مشيراً إلى أنّها "المدينة الثّانية في العالم الغنيّة بالآثار من بعد القاهرة، بحيث يوجد فيها 146 معلماً أثريّاً مسجّلاً في وزارة الثّقافة".

في لبنان، لا تقتصر الحِرف فقط على الاستعمالات المنزليّة كالفخّار والخزف والأجراس ولوازم المائدة من الأواني النّحاسية وسلال القش وصناعة الزجاج (أو ما يُعرف بنفخ الزجاج) وصناعة الجلود التّقليدية والحياكة والتطريز…  بل أيضاً تعدّت ذلك لتشمل الطعام والشراب، ومثالٌ على ذلك، الأملاح البحرية وهي إنتاج موسميّ نادر.

 

 مخاطر تهدّد باندثارها

دخلت هذه الحِرف، مرحلة الخطر وباتت مهدّدة بالزّوال، فإغراق الأسواق ببضائع أجنبيّة بخسة الثمن دفع الناس إلى الابتعاد عن الحاجات التي تصنّع يدوياً والتي باتت غالباً كلفتها عالية.

يؤكد الخبير الاقتصادي الدكتور غسان عبد القادر "أننا نعيش عصراً استهلاكياً بامتياز، ما يعني أننا نعمل على ما يسمى الإنتاج الواسع النطاق، أي الكميات الهائلة المصنّعة التي تأتي من بلاد خارجية وبأسعار بخسة جداً وكميات كبيرة"، معتبراً أنه "في طبيعة الحال، هذا الإنتاج الصناعي الاستهلاكي ضَربَ إلى حد كبير الصناعات التّراثية والحرف اليدوية في لبنان وسائر البلدان".

ويقول "للأسف هذه الصناعات في لبنان لم تلاقِ الدعم اللازم والمطلوب من الدولة اللبنانية. فطبيعة العمل الحرفي هو عمل عائلي أي لا توجد لدينا مؤسسات منشأة أو شركات مسجّلة بالمعنى التجاري تمارس العمل الحرفي، وبالتّالي يُبنى التّسويق على المبادرات الفرديّة ما يقلّص إمكانها للوصول إلى شريحة أوسع من الناس".

أمّا عن أبرز أسباب الشوائب التي تعيق تطوّر العمل الحرفي في لبنان، يشير إلى أسباب عدّة منها "ارتفاع الكلفة التي تؤدي إلى رفع أسعارها بحيث لا تكون بمتناول الجميع، غياب الابتكار وعدم الاستعانة بالمصمّمين، غياب الجودة إذ لا توجد روح منافسة جرّاء غياب التّكنولوجيا التي يمكنها أن تحسّن من نوعيّة الإنتاج وكفاءته، وعدم مراعاة حاجات السّوق بسبب ضآلة رأس المال المتوافر للاستثمار بهذه القطاعات".

وعلى الرغم من وجود "بيت المحترف" والمراكز التي توفرها وزارة السّياحة، يعتبر عبد القادر أنّ "ثمة نقصاً بصالات العرض، وبالتالي ما يتطلّبه القطاع، إدخال وسائل إعلانية جديدة كاستعمال الإنترنت وفتح أسواق جديدة وعقد اتفاقيات مع دول خارجية لتصريف هذا الإنتاج"، مشيراً إلى أنّ "هناك ثغرة كبيرة في عدم وجود إحصاءات حديثة متعلّقة بهذا القطاع لما يسهم في الإنتاج المحلي".

وتعليقاً على إطلاق "نقابة الحرفيين والمصنعين التقليدييّن في لبنان" عام 2017، رأى أنها "خطوة جيّدة إلا أنّها أتت في وقت متأخّر".

إستراتيجيّة وطنيّة فعّالة

ويقترح عبد القادر "تطبيق فكرة القروض المتناهية الصغر للحرفيين والصناعات اليدويّة وهي عبارة عن بضعة آلاف الدولارات تقدّم إليهم للمدى البعيد ما تسهل عملهم وحصولهم على آلات حديثة تنمّي قطاعات معيّنة وتسمح لهم بتسويق المنتجات حول العالم".

وعن ارتفاع نسبة البطالة لدى الشباب اللبناني وعمّا إذا كانت هذه المهنة تسهم في سدّ الفجوة، يرى أن "هناك مواهب فنيّة لا بأس بها لديها طاقات هائلة وقدرة على الخلق والتجديد ولكنّه يتمّ تهميشها"، مؤكداً "أهميّة الأسواق الافتراضية التّي تعدّ منصّة مهمّة للتّرويج للمنتجات المحليّة والعالميّة".

ويوضح عبد القادر أن "الصّناعات الحرفية أزمتها جزء من الأزمة العامة التي تجتاح الاقتصاد اللّبناني، وبطبيعة الحال تنقسم إلى قسمين: صناعات صاعدة وصناعات متراجعة. ولا شكّ في أن الحِرَف اليوم باتت تعدّ من القطاعات المتراجعة فمصيرها يتّجه نحو الإغلاق والانقراض خصوصاً إذا لم يتم تقديم المساعدات المجدية".

ويشدّد على "أهمية وجود الأسواق الافتراضيّة التي باتت تساعد الشباب في عمليّة الإنتاج، إضافة إلى إحيائها أكثر داخل السّجون لأنّها تشكّل لهم فرصة مهمّة لتعلّم حِرَفٍ جديدة في مجتمعاتهم لينتجوا ويبيعوا من خلالها"، لافتاً إلى أن "هذا الموضوع يتطلّب تعاوناً مع وزارات عدة لدراسة هذه الاقتراحات ووضعها ضمن سياسة وإستراتيجيّة فعّالة يمكنها أن تحفظ هذه المهن من الاندثار كونها تسهم إيجاباً على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي".

صحيح أنّ هذه المهن باتت قابلة للانقراض، إلاّ أنّها كما يقول المحلّلون الاقتصاديّون "مصدر دخل لآلاف العائلات خصوصاً مدينة طرابلس التي تعدّ الأكثر فقراً في لبنان والشرق الأوسط، بحيث وصل مؤشّر الفقر فيها إلى 70 في المئة ولا يزال يتمدد، ويعود ذلك إلى جمود بيئة الأعمال وعدم استحداث مشاريع استثمارية خصوصاً أنّ القطاع الخاص معتكفٌ بسبب عدم الاستقرار السياسيّ إذ بات يميل نحو الركود".

تحاول هذه المهن بشتّى الظّروف الصمود على الرغم من انخفاض عدد العاملين فيها. صناعة القش والنجارة والزجاج وغيرها من الحرف التّراثية التقليديّة لم تعد حاجة، بفعل انتشار ثقافة الاستهلاك في أرجاء العالم كافّة.

على الرّغم من بساطة هذه الحِرف، يبقى الحفاظ عليها وفاء لتاريخ تركه الأجداد ولهويّة الفيحاء التّي تتجلّى فيها روح الشّرق... بينما يبقى السؤال من سيؤمّن استمرارها؟

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات