Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أزمة سد النهضة بين التاريخ والجغرافيا

اقترحت مصر على إثيوبيا عام 1946 إنشاء سد على النيل الأزرق لكن أديس أبابا رفضت

منظر عام لسد النهضة الإثيوبي (أ ف ب)

بالأمس كانت إثيوبيا تبحث عن تحالفات في قضية المياه تخولها ما تراه من حقوق كدولة منبع يجري النيل من أراضيها، وتسهم فيه بنسبة 86 في المئة.

وعلى الرغم من أن منطق الامتلاك للمياه غير سائد في عالم يعي أن لكلا طرفي المنبع والمصب حقوقاً بحكم الجغرافية الكونية، فإن واقع المياه ظل الثائر في علاقات الدول بحيثيات النمو والتنمية والتنافس الإقليمي.

ففي القضايا المائية هل تنتصر الدول أم تغلب إرادة المياه؟   

منليك الثاني

قضية التنافس في المياه بين إثيوبيا ودول المصب مصر والسودان، لم يبرزها مشروع سد النهضة بقدر ما كانت مثارة منذ الاتفاقيات التاريخية المبرمة خلال العهد الاستعماري بين دول شرق أفريقيا وبريطانيا الاستعمارية.

 كانت اتفاقية أديس أبابا بين بريطانيا وإثيوبيا الموقعة في 15 مايو (أيار) 1902، وقعتها بريطانيا نيابة عن السودان، وأهم ما فيها المادة الثالثة التي تنص على، "عدم إقدام الإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني بأي بناء أو أي أعمال على النيل الأزرق وبحيرة تانا أو السوباط".

وعلى الرغم مما يقال عن عدم تصديق ما كان يسمى مجلس العرش الإثيوبي، فقد التزمت أديس أبابا الاتفاقية على مدى ما يزيد على قرن، مر خلاله حكم هيلاسلاسي، والرئيس ما نغستو هيلاماريام، إلى بداية عهد ملس زيناوي، قبل وضع حجر الأساس لسد النهضة في 2011.

ثم جاء اتفاق تقاسم مياه النيل، الذي أبرمته الحكومة البريطانية، بصفتها الاستعمارية، نيابة عن عدد من دول حوض النيل (أوغندا، وتنزانيا، وكينيا)، في عام 1929 مع الحكومة المصرية، وتضمن إقرار دول الحوض بحصة مصر المكتسبة من مياه النيل 48 مليار متر مكعب، وحصة السودان ثمانية مليارات، وأن لمصر الحق في الاعتراض "الفيتو" حال إنشاء هذه الدول مشروعات جديدة على النهر وروافده.

وبعدها جاء اتفاق عام 1959 بين مصر والسودان، إثر إكمال بناء السد العالي، مكملاً لاتفاق عام 1929، ليصل إجمالي حصة مصر سنوياً إلى 55.5 مليار متر مكعب و18.5 مليار للسودان.

وأشارت المصادر إلى أنه قبل بضع عقود سعت إثيوبيا إلى حشد دول المنبع وحاولت كسب بريطانيا للوقوف معها في ما تراه من حقوق في المياه، وتقول الوثائق البريطانية إن بتدريديس، مستشار الحكومة الإمبراطورية الإثيوبية لشؤون المياه، عرض في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1961، التعاون بين الحكومة الإثيوبية والبريطانية ودول منابع النيل لصياغة سياسات مشتركة لمياه النهر".

 

أثناء هذه الفترة كانت مباحثات تجرى في الخرطوم بين دول شرق أفريقيا ودولتي المصب مصر والسودان برعاية بريطانية تسعى إلى التوصل إلى اتفاق بشأن مياه النيل الأبيض.

وأبلغت بريطانيا المستشار الإمبراطوري بأنه "من المستبعد أن ترغب حكومة جلالة الملكة، في هذه المرحلة من التاريخ في التوصل إلى اتفاقات سياسية نيابة عن بلدان شرق أفريقيا".

ورد المستشار ذو الأصل اليوناني بأنه "في ضوء الاتفاق المصري السوداني الذي يتبنى سياسة مشتركة بشأن مياه النيل، فإنه يبدو ضرورياً أن تتعاون دول المنبع بالطريقة نفسها".

التاريخ يعيد نفسه

هل أعاد التاريخ نفسه حينما قاد رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي مجموعة دول حوض النيل للانقلاب على الاتفاقيات التاريخية، والعمل على وضع أسس جديدة لتقاسم المياه؟

ظلت إثيوبيا طيلة ما يزيد على قرن ملتزمة معطيات اتفاقات النيل، لكن بعد التطور الذي شهدته أفريقيا والزيادة المطردة في أعداد السكان، والحاجة الضرورية المتزايدة للمياه والطاقة الكهربائية نتيجة تطور المجتمعات الأفريقية، أصبح من الضروري إعادة النظر بشأن العلاقات المائية لدول حوض النيل.

وقبلت مصر والسودان شكلياً بمطالب إعادة النظر ولم تعترضا على مبدأ الحوار، لتفضي المرحلة لاجتماعات متوالية تمثلت في عديد من اللقاءات بين وزراء مياه دول حوض النيل، كاجتماع كنشاسا مايو 2009 في الكونغو الديمقراطية، تلاه اجتماع الإسكندرية في يوليو (تموز) 2009، ثم أعقبه اجتماع آخر في أبريل (نيسان) من العام التالي في مدينة شرم الشيخ المصرية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن كل هذه الاجتماعات أخفقت بسبب المطالب غير المتوازنة لدول المنبع، مع تمسك مصر والسودان بالحقوق التاريخية في قسمة المياه، إلى جانب الخلاف حول المواد المتعلقة بالأمن المائي.

بعد فشل تلك الاجتماعات لجأت دول المنبع بقيادة إثيوبيا إلى الانفراد بإنشاء ما عرف باتفاقية إطار العمل التعاوني (اتفاقية عنتيبي)، التي شهدت اجتماعاتها مدينة عنتيبي في أوغندا، وتم التوقيع عليها من أربع دول في مايو 2010 وهي (إثيوبيا، وأوغندا، ورواندا، وتنزانيا) ولحقت بها كينيا، ثم بوروندي في فبراير (شباط) 2011، ليتسنى للاتفاقية أن تأخذ صفة الشرعية.

الحكومة الإثيوبية، التي تعد قائد مجموعة دول المنبع، في زخم نشاطها الذي استمر طيلة السنوات السابقة للترويج لنيل حقوق مائية في توليد الطاقة الكهربائية، استغلت ظروف الأحداث السياسية في ما عرف بـ"ثورات الربيع العربي"، وأدت إلى خلع الرئيس المصري محمد حسني مبارك من السلطة في 11 فبراير 2011، كظرف مناسب للتحرك عبر مستويات عدة، عبر تنشيط دبلوماسيتها تجاه إقناع الدول الأخرى التي لم توقع على اتفاقية عنتيبي، وقد نجحت بالفعل في إقناع وحمل دولة بورندي في (28 فبراير 2011)، لتكون الدولة السادسة.

قوة داعمة

رفضت مصر والسودان التوقيع على اتفاقية عنتيبي، واعتبرتاها "مخالفة للاتفاقيات الدولية"، وعمدت القاهرة إلى مخاطبة الدول المانحة للتنبيه على عدم قانونية تمويل أي مشروعات مائية، سواء على مجرى النيل أو منابعه، وإقناعهم بعدم تمويل مشروع سد الألفية "سد النهضة"، الذي حددت إثيوبيا تكلفته بما يقارب 4.8 مليار دولار.

كان إعلان إثيوبيا بدء انطلاق مشروع سد النهضة في 16 يونيو (حزيران) 2011 بعد الوصول إلى النصاب الشرعي لاتفاقية عنتيبي، وقد سبق ذلك التاريخ خطوات وتفاهمات جادة مع قوى دولية، كالولايات المتحدة الأميركية.

ويفسر بعضهم نأي إثيوبيا وعدم مشاركتها في أي اتفاقيات مباشرة مع مصر والسودان بأن أديس أبابا كانت لديها نوايا عازمة تجاه المشروع واستناده إلى قوة داعمة.

وتم ما بين 1956 – 1964 تحديد الموقع النهائي لسد النهضة الكبير الإثيوبي Grand Ethiopian Renaissance Dam)) بواسطة مكتب الولايات المتحدة للاستصلاح (States Bureau of Reclamation) (إحدى إدارات الخارجية الأميركية) خلال عملية مسح للنيل دون الرجوع إلى مصر، بحسب ما تمليه اتفاقية عام 1902.

 وخلال الفترة من أكتوبر (تشرين الأول) 2009 وإلى أغسطس (آب) 2010 أجرت الحكومة الإثيوبية عملية المسح للموقع.

ومن الغرائب أن مصر، حسب وثائق بريطانية، سبق أن اقترحت على إثيوبيا عام 1946 إنشاء سد على النيل الأزرق، في الموقع ذاته الذي تقيم عليه إثيوبيا الآن مشروع سد النهضة، ضمن ثلاثة مشروعات مشتركة مع إثيوبيا وأوغندا وجنوب السودان (دولة جنوب السودان حالياً).

ووفق ما نقلته "بي بي سي" في أغسطس 2020 عن وثائق بريطانية، فإن مصر كانت لها "مبادرات جادة" بشأن التعاون، غير أن إثيوبيا لم توافق على المشروع، الذي سمي حينها بمشروع بحيرة تانا، ولم تشر الوثائق إلى أسباب تحفظ إثيوبيا.

وتدل هذه المعطيات التاريخية في الاقتراح المصري على نوايا ظلت معترفة ومنسجمة مع حقوق المنبع وتهدف لتحقيق مصالح مشتركة.

سياسة جديدة

بحسب مراقبين، لا تعطي مستجدات الأحداث حالياً، وقد أصبح مشروع سد النهضة واقعاً حقيقياً ضمن ما تصفه إثيوبيا بالنجاح في تنفيذ عمليات الملء الأول ثم الثاني والثالث، ثم الانتقال بالمشروع إلى مرحلة التشغيل في توليد الكهرباء، تفاؤلاً تجاه مستقبل علاقات المنطقة.

ويرى مراقبون أنه إذا لم تصل مفاوضات الأطراف الثلاثة إلى غايتها باتفاق مشترك، وهي ضرورة ملحة للمرحلة المقبلة، سيظل الخلاف قائماً.

 

وأضافوا أن متطلبات المرحلة المقبلة، وخصوصاً من الطرف الإثيوبي، اتباع سياسة جديدة في الحوار والمفاوضات المنتظر استئنافها، تؤمن مخاوف دول المصب بالتوصل إلى اتفاق قانوني بشأن قواعد تشغيل السد وما تبقى من مراحل.

وأشار رئيس الوزراء الإثيوبي آبيي أحمد، في كلمته التي أعلن فيها انتهاء الجولة الثالثة من الملء، إلى أن مشروع سد النهضة الإثيوبي هدية من الطبيعة لإثيوبيا والسودان ومصر وأفريقيا والعالم، كإشارة منه لأهمية العمل المشترك والتعاون.

اعتماد منطق القوة

الباحث في الشؤون الدولية عادل عبد العزيز حامد، أرجع ما يسود العالم اليوم من ظروف سياسية غير مستقرة إلى اعتماد بعض الجهات، وخصوصاً القوى الدولية لمنطق القوة".

وقال إن "القوة ليست في كل الأحول هي المنتصرة، بخاصة في قضايا حيوية متعلقة بحياة الشعوب كعنصر المياه، فينبغي أن تشهد المرحلة المقبلة استئناف مفاوضات سد النهضة وتجاوز الخلافات".

وأشار إلى أن "إثيوبيا حققت جانباً من نجاحات، فما تبقى من مراحل في إكمال سد النهضة وهو لا يزال في بداية عطائه يتطلب إبراز نوايا التعاون والاتجاه للعمل الحقيقي الذي يحقق الاستقرار والتنمية".

السبيل الأنجع

 من جانبه، قال الباحث الاقتصادي محمد حسب الرسول إن "التوافق في قضية بحجم قضية سد النهضة أمر مطلوب، وهو السبيل الأنجع في ضمان علاقات صحية تخاطب هواجس وتطلعات الدول الثلاث في ما يتصل بهذا السد وبالمصالح المشتركة التي تتأسس على قيامه". وأضاف أن "فرض الأمر الواقع من قبل دولة واحدة يزيد من حدة حال الاحتقان القائمة بين الدول الثلاث، ويزيد هواجس السودان ومصر، ويعود على الطرف المنفرد بالقرار بمزيد من العزلة التي يعيشها بين الدول الأفريقية الواقعة شمال الصحراء، وينعكس ذلك سلباً على رسالة إثيوبيا التاريخية كرابط بين دول القارة، ويزيد من حال الاستقطاب القائمة، التي تنعكس كذلك على الأوضاع الداخلية لهذه الدول والقرن الأفريقي".

وأشار إلى أن "أفضل خيار أمام إثيوبيا هو التعاون البناء في مشروع بحجم سد النهضة، وهو الخيار الذي يؤسس للاستخدام المنصف والعادل لمنافع النيل، ويؤسس لعلاقات تعاون بناء، لا سيما بين السودان وإثيوبيا في الحاضر والمستقبل".

المزيد من تقارير