ربما من الصعب على الإنسان الواقعي، المعاصر، البعيد عن الطبيعة، أن يصدق أن ثمة حياة خصبة، فاتنة، مرحة وحيوية تدور بصمت في الحديقة والغابة، عبر الهواء والأرض وحفيف الأوراق الذي يمنحنا الإحساس بالهدوء والطمأنينة. ينظر سكان المدن إلى الأشجار على أنها روبوتات بيولوجية مصممة لإنتاج الأوكسجين والخشب؛ لكن العلاقة بين الإنسان والشجرة تُشكل صلة حتمية محيرة، تجعل الأشجار ضمن أكثر رفاق الإنسانية ثباتاً وغموضاً. يحن الإنسان حنيناً واضحاً وقوياً إلى وجود الأشجار والنباتات من حوله، وكلما كانت الشوارع والمدن والأحياء مشيدة في كيانات خرسانية تفتقر إلى النباتات المخضرة، تبدو الحياة فيها مقفرة وباهتة وكئيبة، لخلوها من الكائنات التي تصل بين الإنسان والطبيعة.
تتوالى في الفترة الأخيرة كتب وروايات وموسوعات تتناول عالم الأشجار وأسرارها وتركز على علاقة الإنسان بها وبالغابات والنباتات، ليس من الجانب " الإيكيولوجي" فقط، بل طبيعياً وحياتياً وثقافياً. ونجد في هذه الكتب نصوصاً متباينة، بالأبعاد الأسطورية والواقعية والعلمية. لا يحاول هؤلاء الكُتاب "أنسنة الأشجار"، بقدر تركيزهم على إبراز رؤيتهم للوعي الفطري عند النباتات الحية، بحيث أن عبارة أن ثمة "روحاً" تسكن الأشجار، أصبح لها تمثيل حقيقي تُثبته الدراسات والأبحاث.
قراءة هذه الكُتب تكشف أن الإنسان العصري، لو أنصت لروح الشجرة فسيتمكن من اكتشاف الحكمة، والقصص السحرية الدائرة في حوار صامت بين شجرة ورفيقتها. هذه الرؤية لا تنتمي إلى المخيلة، أو الواقع السحري، بل إلى عالم أخاذ، مضى في غماره مؤلفون اقتربوا عن كثب من عالم الشجر، وقدموا رؤيتهم المثيرة للدهشة.
الحياة السرية للأشجار
في كتابه "الحياة السرية للأشجار"، الذي كان الأكثر مبيعاً بالألمانية واللغات التي ترجم إليها، والذي يثير فضولاً لاكتشاف الحركة الخفية للطبيعة، يُقدم عالم النبات الألماني بيتر ولبن عبر هذا العمل المرجعي، عالماً كاملاً، فاتناً وغير متوقع، يتسلل إلى مملكة النباتات، ويدعو القارئ للتجرد من أفكاره المسبقة حول الأشجار والتعمق في الغابة، حيث الهواء النقي يضمن طول العمر، وما علينا سوى الاستماع إلى الخشخشة الصغيرة والهمسات الأخرى للنباتات، كي ندرك ما يحدث من حولنا.
يقول: "هل تصدقون أن الأشجار والشجيرات تمتلك وعياً؟ في الحقيقة تحت الهدوء الظاهر للغابة، هناك نشاط مكثف، لا يمكننا تخيل مدى روعته. فالأشجار تتواصل بعضها مع بعض مثل الكائنات الاجتماعية الحقيقية. لديها شخصية وتطور شكلاً من أشكال الحياة الاجتماعية على أساس المساعدة المتبادلة. هل تعلمون، على سبيل المثال، أنها تشعر بالعالم الخارجي، وتدافع عن نفسها ضد المهاجمين وتتبادل الرسائل في ما بينها، عبر الأرض أو في الهواء؟ والأكثر إثارة للدهشة أنها تعرف كيفية العد والتعلم والحفظ... ارفع أنفك نحو قمم الأشجار، وابحث عن مكان الضوء، وافحص تأرجح تيجان الأشجار المائلة في مهب الريح واتجاهها، وحركات الباليه الراقصة في السماء، نحن لا نعرف أغنيتها، أو المجال الكهربائي الذي تتحرك فيه؛ لكن نظراً لأن الأشجار تتواصل، فإنها تحذر بعضها البعض من مجموعة كاملة من الأشياء، لذلك تنبعث منها روائح وعطور خفية لصد العدو أو لجذب الصديق".
ينقل هذا الكتاب القارئ من مفاجأة إلى أخرى، فالمؤلف عاشق حقيقي للأشجار، يخبرنا بشغف وأسلوب شاعري، كيف يمكن للشجرة مساعدة جارتها المريضة عن طريق منحها "الغلوكوز" عبر الجذور، أو كيف يمكن للجذوع أن تؤمّن المعلومات الحساسة من خلال نقل دقيق للضوضاء المتوقعة. إنه عالم مُنظم جداً أكثر مما يمكننا تخيله، حيث كل شجرة لها روح تميزها عن شجرة أخرى.
أبعاد سيمفونية
في روايته "شجرة العالم"، يستلهم ريتشارد باورز مادته السردية من موقف شخصي تعرض له في كاليفورنيا، خلال تجواله في حديقة كاليفورنيا الشهيرة، المدرجة كموقع في التراث العالمي لليونسكو وكموطن لأكبر غابة في العالم، تضم أشجار السيكويا العملاقة. لقد لاحظ باورز أن كل هذه الغابة الأصلية تقريباً قد دمرت، هذا المشهد ألهمه روايته "شجرة العالم".
تدور أحداث الرواية حول عالم النبات بات ويستيرفورد، الذي أمضى سنوات من الوحدة في الغابة لدراسة الأشجار. ثم تتشابك حوله مصائر تسعة أشخاص سوف يتقاربون تدريجاً في كاليفورنيا. ومثل جذور الأشجار ترتبط أقدارهم في معركة الدفاع عن البيئة، حيث شجرة السيكويا مهددة بالتدمير، وهم يتمسكون بمحاولة إنقاذها.
من خلال هذه القصة ذات الأبعاد السيمفونية تمتزج الملذات الشعرية والفلسفية والعلمية، ويتوسع الكاتب في الحفر عميقاً خلف عواقب الضرر الذي يلحق بالتنوع البيولوجي، بسبب الجهل والجشع واللامبالاة التي يقوم بها الإنسان نحو الطبيعة. يستكشف باورز الدراما البيئية، ومدى قوة إلهائنا في العالم الافتراضي. تُذكرنا هذه الرواية السخية أنه بصرف النظر عن الطبيعة، فإن ثقافتنا ليست سوى "خراب للروح"، ويعتبر المؤلف أن" أزمة العالم المعاصر تأتي من كونه يحتقر ذكاء النباتات، كما أنه قطع الروابط القوية التي كانت تربط أجدادنا مع الطبيعة".
قاموس الأشجار
من شجر البلوط أو الزان في غاباتنا، إلى المانيوليا أو شجرة رودودندرون، أو أشجار التفاح في البساتين والحدائق، يدرج جاك روس في كتابه "قاموس الأشجار"، 1600 نوع من الأشجار، ويستعرض أنواعها وأسماءها في لوحات نباتية توضحها، بالإضافة إلى الأجناس والسلالات التي تنتمي إليها، إلى جانب تخصيصه بضعة أسطر لأصل الأسماء العلمية أو العامية.
تقدم كل مقالة في الكتاب وصفاً للخصائص الفيزيائية، التي تساعد في تحديد الهوية البيولوجية والثقافية للشجرة أو الشجيرة المعنية. وفي ما يخص الأشجار ذات الأصل الأجنبي، يروي المؤلف قصة ارتحال الشجرة من بلد إلى آخر، اكتشافها وإدخالها إلى الغرب. ويسرد حكاية كل شجرة بأسلوب ممتع كما لو أنه يسرد حكاية شخص حقيقي في تنقله بين البلدان. قام المؤلف بشرح التسميات النباتية، وقدم جدولاً ملخصاً للتصانيف، وفهارس ضمت أسماء العلماء الذين اكتشفوها، والأسماء المحلية لها.
وبما أن جاك بروس هو راوٍ مثالي، فإنه يدخل في وصفه للنباتات قصصاً رائعة، كما في إحدى الحكايات التي يسردها من العصور القديمة، عن الحوريات التي سكنت في أشجار البلوط، هرباً من اعتداءات إله غاضب، ثم تحولت إحداهن إلى شجرة. لعل من الطبيعي لكاتب مثل جاك روس وضع عدة كتب في الروحانيات ورُسم راهباً بودياً عام 1975، ومدافع عن الطبيعة ومشغول بفكرة العلاقة التي تربط بين الإنسان والبيئة، أن يقدم هذه الحكايات التي تجمع بين الأسطورة والعلم. عطفاً على أن الفلسفة البودية في جوهرها تقوم على فكرة العلاقة بين الإنسان والشجرة، فبودا نفسه لم يصل إلى الاستنارة إلا بعد جلوسه في ظل شجرة وتأمله العميق مدة أربعين يوماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التاريخ العظيم
يُعتبر كتاب "التاريخ العظيم لأسماء الأشجار"، نزهة ملهمة في أرض الشجر عبر أسرار أسمائها، فيجتمع الكاتبان الفرنسيان بيير والتر واللغوية هنرييت أفناس، ليقدما رؤيتهما المشتركة في رحلة عبر القارات لاكتشاف جذور أسماء الأشجار والشجيرات، الصغيرة منها والعملاقة. إنها رحلة إلى قلب الغابات والسافانا وأشجار المانغروف، ولكن أيضاً على طول شوارع المدن. في صفحات الكتاب، يتقاطع الأدب والجغرافيا والأساطير وعلم النبات وتتشابك كلها لتخبرنا قصة الأشجار.
كتاب تمنح قراءته متعة لتضمنه حكايات ثقافية وتاريخية تُشير إلى استخدامات الشجرة أو ثمارها. من شجرة البندق المتوسطة الطول إلى السيكويا الضخمة؛ كما أن هذا الكتاب مخصص للفضوليين الذين يرغبون في فهم تطور اللغة النباتية على مر السنين، فالأشجار شهود على القرون الماضية ومخزن للقصص الرائعة. ومما يذكر المؤلفان أن شجرة السيكويا، أطول شجرة في العالم، تدين باسمها لمخترع أبجدية الشيروكي: "سيكوياه"، وأن كلمة كتاب بالفرنسية livre مأخوذة من الكلمة اللاتينية libre التي تعني نسيجاً نباتياً يلف الجذوع وكان مستخدماً في الكتابات الأولى.
ينتقل القارئ من شجرة إلى أخرى، ويتم تجميع الأشجار وفقاً لجودتها، مثلاً: "الصنوبرات ملكات الغابات"، "مزودات المواد العطرية"، "الأشجار المليئة بالموارد" و"منتجات الفاكهة"... وبعد الانتهاء من القراءة، نكون قد تعرفنا إلى ما لا يقل عن 200 اسم من الأشجار.
أشجار العالم
صورة لبودا باللون الوردي يجلس القرفصاء على وسادة من الزنبق، بقربه ثمار مانغو ناضجة تتجاور مع فلفل أحمر، وصورة أخرى لشجرة الأثاب المقدسة في الهند، وصورة لشجرة الأرز العطرة في لبنان... إنها الصور التي يضمها كتاب البريطاني جوناثان دوري، الذي تُرجم إلى الفرنسية تحت عنوان "ما تخبرنا به أشجار العالم". يرى المؤلف أن الأشجار تُمثل مصدر حماية وإلهام للبشر، وتزودهم بالمواد الخام لكل شيء، من الأسبرين إلى الحرير إلى المكوكات الفضائية وسواها.
يسافر جوناثان دروري عبر الزمن والثقافات، وتلقي حكاياته الضوء على العلاقة المذهلة التي توحد البشر بأنواع تبدو مألوفة من الأشجار مثل الدردار والزان، وصولاً إلى أنواع نادرة وغير معروفة، مثل شجرة الساعة الرملية المتفجرة، أو شجرة النسغ الزرقاء، التي تتراكم المعادن في نسغها. يرى الكاتب أن ليس علينا الاكتفاء بإلقاء اللوم على شياطين الحياة العصرية مثل الرأسمالية والصناعة؛ فالمدن عبارة عن غابات صُنعت بإرادتنا؛ وإنقاذ الغابات سوف يؤدي إلى إنقاذ المدن أيضاً. لذا علينا التوقف عن التفكير في أن الغابة بعيدة، في الريف، في بلد آخر، في قارة أخرى، إنها أقرب إلينا مما نظن، لكننا أبعدناها.
المؤلف جوناثان دروري، هو كاتب بريطاني، حاز على العديد من الشهادات الجامعية والألقاب الفخرية، ومنها لقب مدير الحدائق الملكية، وهو مُهتم بعالم النباتات ويرافق العديد من الرحلات الاستكشافية النباتية، وقد ترجم كتابه هذا إلى 16 لغة.