Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لارس فون ترير المصاب بباركنسون يخشى كل شيء سوى السينما

المخرج الدانماركي المضطرب أبدع أفلاماً إشكالية بأسلوبها وأسئلتها وجمالياتها

المخرج الدانماركي لارس فون ترير المثير للجدل (صفحة المخرج - فيسبوك)

أحدث الإعلان عن تشخيص إصابة السينمائي الدانماركي لارس فون ترير بداء الباركنسون حالة من الحزن الجماعي في أوساط المشاهدين الذين أحبوه وأحبوا الأفلام الـ12 التي بدأ ينجزها منذ بداية الثمانينيات، عندما كان في الثامنة والعشرين من العمر. أحدهم كتب: "أنا حزين كما لو كان صديق عزيز أصيب بالمرض اللعين". حتى الآن، لا نعرف كثيراً عن تفاصيل مرض الفنان البالغ من العمر 66 عاماً والذي يستعد لتقديم حلقات جديدة من مسلسله "المملكة"، في الدورة المقبلة من مهرجان البندقية السينمائي. ونجهل أيضاً أي مرحلة بلغ به المرض الذي عانى منه سابقاً مشاهير مثل محمد علي كلاي ورونالد ريغان. فكل ما ذكرته شركته "زينتروبا" في بيان، هو أن فون ترير في حال جيدة، ويعالج من الأعراض التي يشعر بها.

كل من يعرف القليل أو الكثير عن المخرج الدانماركي النابغة يدري أن الرجل عاش حياة صعبة ومعقدة صنعت منه الفنان الذي أصبح عليه في ما بعد، فعلى الرغم من المعاناة، ظل فون ترير تلك الروح المعذبة التي تواجه العالم من دون أن تخضع له. تلك الروح النقية القادرة على الخلق والابتكار في ظل أصعب الظروف النفسية، لا بل تستطيع توظيف المعاناة في سبيل الفن، فهو نشأ في عائلة شيوعية لا دينية، وكان ضحية صدمة نفسية عندما علم أن الرجل الذي كان يعتقد أنه والده ليس والده البيولوجي، كان يومها في الثالثة والثلاثين. الإدمان على الكحول والمهدئات الذي عانى منه طوال حياته، وجد مقابلاً في أفلامه التي عجت دائماً بالشخصيات التي تبحث عن مخرج لأزمتها، وهي شخصيات ضائعة وعنيفة وانطوائية، تاريخ من الاكتئاب ورثه وحاربه وتعايش معه لفترة طويلة، إلى درجة أنه تحول في السنوات الأخيرة إلى رجل يبدو ثمانينياً وهو فقط في ستينياته. في أكثر من مقابلة قال إن حالته النفسية كانت تشعره أحياناً كأنه "ورقة بيضاء فارغة". إدمان الكحول بات الشيء الوحيد الذي يساعده على التغلب على شياطينه، وعلى القلق المزمن الذي لطالما عانى منه، وأفلامه خير دليل على ما يعتمل في نفسه.

المثير للجدل

اشتهر فون ترير بأسلوبه المثير للجدل الذي ينهل من ينبوع التشاؤم والسوداوية، خصوصاً تلك النظرة الملقاة على الطبيعة البشرية، وذلك على غرار عدد من السينمائيين من درايير إلى برغمان الذين شرعوا له الطريق ليقول كلمته عن الإنسان، من دون أن ننسى الروسي أندريه تاركوفسكي المرجع الأكبر، الذي ترك أثراً بالغاً في نفس فون ترير حتى إنه أهداه فيلمه "المسيح الدجال" وهو الأكثر إشكالية بين كل أفلامه.

إلا أن أكثر ما ذاع صيت فون ترير من خلاله، هو حركة "دوغما 95" التي أطلقها ومواطنه توماس فينتربرغ في باريس 20 مارس (آذار) 1995 في مناسبة احتفالية حول مئوية السينما الفرنسية. ودعا من خلالها إلى الاقتصاد في العناصر الفيلمية بغية بلوغ "العفة السينمائية"، وذلك من خلال التقيد بـ10 أعراف تحكم صناعة الفيلم، منها كاميرا محمولة وحبكة لا تقوم على حكايات سطحية وتصوير بالـ35 ملم وعدم ذكر اسم المخرج في الجنريك، وغيرها من القواعد التي استمرت 10 سنوات ونتج منها نحو 50 فيلماً في جميع أنحاء العالم. اللافت أن فون ترير نفسه لم ينجز إلا فيلماً واحداً "الأغبياء"، وفق هذه القواعد الصارمة، ثم عاد وانصرف إلى السينما المشغولة بمعايير "تقليدية"، بغض النظر ما تعني التقليدية في حال مثل حاله. 

وجد فون ترير في الحرية التي تنعم بها بلاده ملعباً لأفكاره، لا الصحافة ولا الرقابة ولا الجمهور سيف مصلت على رقاب الفنانين، كما الحال في العديد من البلدان النامية، هذا كله، مسنوداً بموهبته وخلفيته الثقافية وتجربته المعيشية، جعله يطلق العنان لمخيلته لصناعة سينما مستفزة، مجنونة، لا تعرف حدوداً ولا تعترف بمحظور، وتكمن قوتها في قدرتها على قول الأشياء كما يتخيلها فون ترير والذهاب بعيداً في مسارات غير مطروقة سابقاً. لا دينية الدانماركيين وتكوينهم الثقافي خلف "وقاحتهم" السينمائية التي يتميزون بها عن بقية السينمائيين في أوروبا. هناك جرأة واضحة في طرح مواضيع حارقة على الشاشة، هذه النزعة تجسدت تجسيداً كاملاً عند فون ترير الذي كان كل فيلم جديد له يمسي محط أنظار، فيتدفق تجاهه سيل من الاهتمام، خصوصاً بعد نيله "السعفة الذهب" في كان عن فيلمه "راقصة في الظلام" في مطلع الألفية، كثرة من أفلامه أنجزت في مناخ التسعينيات المجنونة وما بعدها، تجارب من الصعب تكرارها حالياً مع هيمنة جو الطهرانية على السينما والعاملين فيها، هذه الأفلام ما كانت ممكنة من دون هذا الجنون وهذه الحرية المرتبطة ارتباطاً عميقاً بنمط حياة صناعها.

ثلاثية أوروبا

أفلامه الطويلة الثلاثة الأولى، "عنصر الجريمة" و"وباء" و"أوروبا"، التي عرضت كلها في كان بين عامي 1984 و1991 جاءت ضمن ثلاثية أطلق عليها ثلاثية ""أوروبا". على المستوى الشخصي، أول فيلم شاهدت لفون ترير كان "تحطيم الأمواج" (1996) الذي نال عنه "الجائزة الكبرى" في كان. إحساس عارم بالأذى والمهانة يجتاح الواحد منا عندما يشاهد هذا الفيلم للمرة الأولى. لا أزال أتذكر بأي حال خرجت من الصالة، حمل النص السينمائي ذروة أسلوبية فون ترير في إزعاج المشاهد وزجه في وضعية غير مريحة بل جعله يشعر بالذنب، في الحين نفسه، شكل الفيلم قطيعة شاملة مع كل ما سبقه، على جميع المستويات.

"راقصة في الظلام" (2000) أبكى الملايين حول العالم، وأقنع لجنة تحكيم كان برئاسة المخرج الفرنسي لوك بوسون بمنحه "السعفة"، لجأ فون ترير هنا على غير عادته، إلى الميلودراما، مستعيناً بالمغنية الأيسلندية بيورك، لفيلم ميوزيكال لا يوجد شبيه له في السينما، فهو استخدم مئة كاميرا ديجيتال لالتقاط زوايا غريبة، وجاء الفيلم في فترة انتقالية كانت الرقمية بدأت تستولي على السينما، الحكاية عن أم عزباء مهاجرة (بيورك)، تعمل في مصنع في عمق أميركا، تجد الخلاص في شغفها بالموسيقى وبخاصة في أغان بل ورقصات ميوزيكالات هوليوود، إلا أنها تفقد بصرها وابنها مهدد بالمصير عينه ما لم تتمكن من توفير المال لدفع تكاليف العملية، عندما تتهم جارتها سلمى زوراً بسرقة مدخرات حياتها، تتصاعد دراما حياتها إلى نهاية مأساوية. 

في "دوغفيل" (2003) بطولة نيكول كيدمان، أقدم فون ترير على سرد قصة قرية لا وجود لها إلا في المجال المعطى لمخيلة المشاهد، منازل تفصلها الجدران المتخيلة، لا وجود لسطوح يحتمي تحتها السكان، وحدود مرسومة بالطبشور، على أرض مساحتها لا تكاد تبلغ خشبة مسرح تعيش عليها دزينة شخصيات ذوات كاراكتيرات يتعذر تصنيفها بين سائر أنواع الكائنات البشرية. مع "ماندرلاي" (2005)، بلور فون ترير التجربة، لكونه الجزء الثاني من "دوغفيل"، وهذه المرة تدور الأحداث في ربيع 1933، داخل مزرعة شاسعة في ألاباما، تكتشف غرايس بدهشة أن البيض ما زالوا يعاملون السود عبيداً، فيجب على المرأة التي ترغب في وضع حد لهذه الحالة، كسب ثقة الذين تريد الدفاع عنهم أولاً، مع ديكوره المعتدل، عاد "ماندرلاي" إلى التجهيز المسرحي الذي كان في فيلم فون ترير السابق، ولكن هذه المرة، لا تؤدي كيدمان دور البطولة بل برايس دالاس هاورد، ابنة السينمائي رون هاورد، شرح فون ترير الذي استوحى بيرتولت بريخت وكورت فايل لكتابة سيناريو الفيلم: "كانت الفكرة في تصوير أجزاء ثلاثة تتمحور حول شخصية غرايس، ففي خاتمة "دوغفيل" تزداد سلطتها شيئاً فشيئاً، وتقرر أن تستخدمها لجعل العالم مكاناً أفضل، "ماندرلاي" يشبه أفلامي السابقة بسوداويته وسخريته، أميركا موضوع يهمني، لأنها تحتل مكاناً كبيراً جداً في حياتي وفي حياة كل منا، اعتبر أن الولايات المتحدة تحتل 60 في المئة من تفكيري، وأشعر أني معني بكل ما يتعلق بهذا البلد، ولكن لا أستطيع الانتخاب إذا وددت تغيير الأمور. لذا، أنجز أفلاماً عن أميركا".

التأمل في السقف

قبل أن يخرج "المسيح الدجال" (2009)، بطولة ويلم دافو وشارلوت غينسبور، يحكى أن فون ترير أمضى أشهراً طويلة وهو يتأمل سقف الغرفة التي كان ينام فيها محدقاً في الفراغ. فهو لسنوات، ما كان يقوى على كتابة سيناريوات إلا تحت تأثير مزيج من الكحول والأدوية، الشيء الذي كان يزج به في "عالم مواز". أحدث "المسيح الدجال" بلبلة في كان، القصة عن زوجين يخسران طفلهما في حادثة أثناء ممارسة الجنس، تشعر المرأة بالمسؤولية، يحاول زوجها المعالج (النفسي) تولي علاجها، سيأخذهم العلاج إلى حجرة بعيدة في الغابة، حيث اعتادت المرأة وابنها قضاء بعض الوقت، هذه هي الخطوط العريضة، أما في التفاصيل فثمة مشاهد قاسية لا يتحملها أصحاب القلوب الضعيفة. 

مع "ميلانكوليا" (2011)، قدم فون ترير أحد أهم أفلامه، مستلهماً من نوبة اكتئاب عاناها، إضافة إلى أنه وجد الوحي في فكرة أن الأشخاص الحزينين يميلون إلى الهدوء خلال الكوارث الطبيعية، احتفالاً بزفافهما يقيم جوستين ومايكل (كرستن دانست وألكسندر سكارسغارد) استقبالاً فخماً في منزل أخت جوستين وصهرها، في هذه الأثناء يتجه كوكب ميلانكوليا نحو الأرض، لا يمكن قول كثير عن الفيلم الذي هو في النهاية تجربة بصرية باهرة. إلا أن ما حدث خلال المؤتمر الصحافي الخاص به في كان، عطل بهجة اكتشاف عمل استثنائي: قال فون ترير في سياق الحديث إنه "يتفهم هتلر"، فقامت الدنيا ولم تقعد. اعتبره المهرجان فوراً "شخصاً غير مرحب به"، والصحافة استشرست عليه وما عادت تحصى المواقف السلبية تجاهه في ظل اتهامه بمعاداة السامية. أغلب الظن أنه أساء إلى نفسه من خلال إثارة قضية كان بغنى عنها، ثم اعتذر وتراجع عن تلك الزلة التي كانت في نهاية الجولة نابعة عن سوء استخدام لسلطة الكلمة في مكان عام، فون ترير أطلق نكتة، مازح بل مزاحاً ثقيلاً، في قضية لا يزال التطرق إليها يحتاج إلى قفازات من مخمل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بدا "نمفومنياك" (2013) صدمة سينمائية أخرى ينبغي ألا توضع تحت يد أي كان، الفيلم عن سيرة جو (شارلوت غينسبور) المصابة بشهوة جنسية مفرطة مند طفولتها وحتى عمر متقدم. "مسلسل" إيروتيكي يلامس البورنو، مفخخ بالفلسفة ويحمل المشاهد إلى حالات نفسية عدة، متعة وضحكاً ونفوراً ولذة. تجلت موهبة فون ترير في تفكيك معاني الجنس والحب والشهوات والخطيئة والقسوة والفانتازم والإيمان، ووضع هذا كله في إطار سينمائي معقد سردياً ومستفز أخلاقياً وجريء جمالياً. لا أعرف أحداً يجيد إلى هذه الدرجة رفع الصوت الذي يريد غيره قمعه فيه، ولا أعرف أحداً غيره يصور الإحباط كمصدر إبداع ولذة، حتى لو توقف فون ترير بعد هذا الفيلم، كان أعطى إلى السينما بقدر ما أعطى ميزوغوشي في "شارع العار" أو كوبريك في "أيز وايد شات".

"المنزل الذي بناه جاك" (2018) هو آخر فيلم له إلى اليوم، وهو الفيلم الذي أعاده إلى كان، المهرجان الذي انطلق منه، بعد قطيعة دامت سنوات عدة بسبب زلته الشهيرة، كانت خطوة أشبه بمحاولة لفتح صفحة جديدة وطي القديمة، الفيلم أثار ضجة كالعادة. يجب القول إن المجتمع السينمائي كان متوجساً حيال ما يحضره فون ترير له، الفيلم "خطير" كالعادة، يحرر مشاعر مكبوتة عند المتلقي، يقرب المسافة بين النزاعات، يحكي عن الصراع الأبدي بين الحاجة إلى الخلق والرغبة في القتل، اختتم الفيلم بخطاب انقلابي عن الخير والشر، جاعلاً من بطله جاك (مات ديلن)، القاتل المتسلسل، الناطق باسم الفنان الذي يجسده. وليس أي فنان، بل الفنان الملعون الذي لا يفهمه أحد والذي يشعر بالمظلومية، وكأن فون ترير أراد من خلال هذا الفيلم أن يرد على كل المحاولات لترويض الفن وتأطيره وجعله مفيداً وهادفاً وجميلاً. هذه سينما لا يتخيلها سوى شخص ذي روح معذبة، يختار مواجهة العالم بدل التصالح معه، مرة أخرى، بدا فون ترير، الذي يعاني أشكالاً عدة من الفوبيا (أشهرها عدم صعوده في طائرة)، إنه يخشى كل شيء، إلا الوقوف خلف الكاميرا، وعلى الأغلب هذا الوقوف هو علاجه.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما