Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا سكت فوكو عن تجربة الهلوسة التي عاشها في وادي الموت الأميركي؟

يومان وليلة من الانبهار والهذيان دفعا صاحب "تاريخ الجنس" إلى تبديل في كتابه

فوكو مع واد في وادي الموت (موقع مجلة الفلسفة)

لا في السيرة المبكرة التي وضعها الباحث الفرنسي ديدييه إريبون فور رحيل الفيلسوف ميشال فوكو عام 1984 لهذا الأخير، ولا في أية صفحة من ألوف الصفحات التي يتكون منها جزءا كتاب لاحق لفوكو عنوانه "أقوال وكتابات"، يمكن المنقب مهما كان دقيقاً أن يجد أي ذكر لذينك اليومين اللذين أمضاهما فوكو في "وادي الموت" بالصحراء الكاليفورنية عام 1975 غير بعيد من نقطة زابريسكي التي صور فيها المخرج الإيطالي ميكائيل أنجلو أنطونيوني فيلمه "الأميركي" المعنون تحديداً "زابريسكي بوينت" قبل ذلك بخمس سنوات تقريباً. وإضافة إلى ذلك من المستحيل العثور على أي ذكر للفيلم نفسه مع أنه كان من شأنه أن يثير اهتمام المفكر الفرنسي الكبير. ومع ذلك ها هو مؤرخ أميركي شاب هو سايمون واد، يقول في عام 2017 للصحافية هيذر دانداس، أنه هو الذي رافق فوكو بالفعل خلال تلك الرحلة بل أغراه بالقيام بها. وها هي واحدة من أكثر المجلات الفلسفية صدقية في أوروبا، (philosophy magazine) تنشر الحوار بين المؤرخ والصحافية مرفقاً بصور عديدة ورسالة بعث بها إليه فوكو لاحقاً يخبره فيها أن تلك التجربة كانت واحدة من الأغنى في حياته! علماً بأن واد نشر في عام 2019 كتاباً عنوانه "فوكو في كاليفورنيا" أورد فيه تفاصيل الرحلة لكنه لم يلفت النظر كثيراً.

الشاهد الوحيد

أما بالنسبة إلى فوكو نفسه، فلا شيء. لا كلمة ولا إشارة. بالتالي يبقى واد الشاهد الوحيد على تلك التجربة. والوحيد في العالم الذي يمكنه الآن أن يخبر كيف أن الرحلة نفسها كانت ذات تأثير كبير في المفكر الذي سيخبره لاحقاً بأنه بعد أسابيع ولعمق ما فكر بذينك اليومين اللذين أمضاهما في وادي الموت، رمى في النار صفحات عديدة من الجزأين الثاني والثالث من كتابه العمدة "تاريخ الجنس" الذي كان يشتغل على إنجازه حينها بعدما أصدر الجزء الأول، وراح يشتغل عليهما من جديد بدءاً من الصفر. هل كان هذا صحيحاً؟ لا أحد يعرف. بل حتى واد نفسه يضيف مبتسماً أن فوكو ربما كان مبالغاً في ما يقول. لكن القول نفسه يكشف أن التجربة تلك لم تمر في حياته مرور الكرام. ويؤكد واد على أية حال أن الحكاية حدثت خلال يونيو (حزيران) 1975 حين كان فوكو يزور جامعة بيركلي في كاليفورنيا بدعوة أميركية أولى لإلقاء سلسلة محاضرات هناك. وكان واد من بين الحضور والمنظمين وهكذا إثر انتهاء إلقاء واحدة من المحاضرات اقترح المؤرخ الشاب على فوكو القيام بتلك الرحلة إلى وادي الموت ولم يكونا وحدهما بل كان معهما الموسيقي الشاب مايكل ستينمان. وبسرعة وافق فوكو على رحلة الطريق بالسيارة تلك.

في عالم الهذيان

 يقول واد اليوم إنه إنما كان منذ البداية راغباً في عيش تجربة فكرية خلاقة فحواها: كيف سيتأثر مفكر كان يعد حينها من كبار مفكري العالم برحلة من ذلك النوع. وتحديداً بالنظر إلى أن الاتفاق جرى على أن يتم خلال الرحلة تعاطي نوع من فطر صحراوي كان من المعروف تأثيراته البسيكاديلية واستعمالاته المخدرة بين السكان الأصليين منذ مئات السنين. وبدأت الرحلة بالفعل وسط مناخ بالغ السخونة نهاراً، جاف ورطب ليلاً. ولقد أسهم فوكو في الرحلة بإحضار اسطوانات لمغنية الأوبرا إليزابيت شوارتزكوف، وتسجيلات لشوبان وأعمال لشتوكهاوزن، كان يربطها بمكبرات صوت ضخمة طلب إحضارها وتذاع بأعلى صوت ممكن. "كانت تجربة مذهلة" يسمح اليوم واد لنفسه بأن يقول. ولكن هل تراه لا يملك أي دليل آخر حول الرحلة سوى الصور؟. بالأحرى يقول إن في الإمكان تحري الدليل من داخل كتابات فوكو نفسها "ففوكو بعد تلك التجربة كان بالتأكيد فوكو آخر تماماً". وهو أمر يدفع المؤرخ إلى القول بأنه قد حقق نجاحاً كبيراً في مسعاه هو الذي لم يكن يتوقع منذ البداية أن تلك الرحلة ستكون نوعاً من "الولادة الجديدة" بالنسبة إلى فوكو! ولكن كيف؟ أولاً "يمكننا أن نسائل، يقول واد، عنواني الجزأين الأخيرين من "تاريخ الجنس" اللذين أتاح له الوقت أن ينجزهما قبل رحيله المبكر إذ أصبحا "استخدام الملذات" و"الانشغال بالذات"، وهما عنوانان غير معتادين في عمل فوكو ويبدو واضحاً تأثرهما بتلك التجربة. ثم خلال الفترة التالية ها نحن نرى فوكو يدلي بتصريحات صادمة لعالم الفكر من نوع لم يكن قد اعتاد اللجوء إليه". ويؤكد واد أنه اطلع على تصريحات عديدة كان قد سمعها من فوكو شخصياً خلال الرحلة نفسها وأدهشته. ومنها أن فوكو قال إنه الآن فقط اكتشف من هو كريستوف كولومبوس الحقيقي في عالم الفلسفة "إنه جيريمي بنتام" قال. ولما كان بنتام يتمتع حتى ذلك الحين بسمعة محترمة كفيلسوف على حدة، ها هو فوكو يتحدث عنه الآن بوصفه نصاباً لا يستحق السمعة التي تحيط به "على شاكلة كولومبوس نفسه!".

ماركس مجرد صحافي جيد!

كذلك راح فوكو، ودائماً بحسب واد يردد أنه لا بد من رفض ماركس وإنغلز نهائياً. فـ"ماركس ليس أكثر من صحافي جيد، لكنه صفر من ناحية الفكر النظري". ويعلق واد هنا بأنه لاحظ كيف أن فوكو قد راحت تتعزز لديه بجرأة استثنائية في ذلك الحين أفكار كانت لا تزال جنينية لديه قبل تلك الرحلة. "لكن هذه الأخيرة رسختها وأوجدت لديه شجاعة قولها دون خوف". والحقيقة أن هنا بالتحديد لا بد من أن يطرح المرء على نفسه سؤالاً مناسباً، إذا كانت تلك الرحلة قد أثرت في فوكو وأفكاره إلى هذه الدرجة وجعلته يعبر عن تجديد في فكره جذري ومن دون خوف، كيف ولماذا تراه سكت تماماً عن الرحلة وقد عاش بعد ذلك ما يقرب من عشر سنوات، إلى درجة أن ذكر سيمون واد نفسه قد اختفى تماماً بحيث بالكاد يمكننا أن نعثر عليه في ألوف صفحات "أقوال وكتابات" سوى مرة واحدة وبوصفه محرراً لكتاب صدر في أميركا يضم مجموعة أبحاث حول فوكو؟ ثم لماذا لم يعد فوكو يلتقي واد مع أنه سيزور أميركا ويلقي في جامعات فيها عدداً لا بأس به من المحاضرات لم يذكر في أيها على أية حال ما يقوله واد عن تأثير تلك الرحلة الأولى فيه؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مراسلات استمرت "طويلا"

مهما يكن من أمر لا بد أن نختم هنا هذا الحديث الخاص بـ"رحلة فوكو بالغة الأهمية إلى وادي الموت بكاليفورنيا" بالإشارة إلى أن واد أخبر الصحافية التي أجرت معه الحوار أن ثمة مراسلات بينه وبين فوكو تلت تلك الرحلة وكان آخرها رسالة بعث بها المفكر الفرنسي إلى المؤرخ الأميركي قبل أشهر من رحيله في عام 1984 يخبره فيها أنه يود أن يأتي إلى أميركا لينضم إليه وإلى صديقه الموسيقي في إقامتهما بمنطقة سيلفرليك. مفصحاً عن أنه يريد أن يمضي هناك الأشهر الأخيرة من حياته مسراً بأنه مصاب بمرض عضال سيقضي عليه خلال أشهر. لكننا نعرف أن فوكو لم يحقق رغبته لكن واد لم يفد الصحافية بما إذا كان أجاب فوكو على الرسالة أو لم يفعل!... وكل هذا يسهم بالتأكيد في لف الحكاية كلها بغموض نادر من نوعه، كان من شأنه أن يجعلها غير ذات مصداقية لولا الصور العديدة التي رافقت الحوار مع المؤرخ، ولولا أن الحوار إنما نشر في تلك المجلة المتخصصة التي لم يفتها أن تتبناها من دون أن تقدم أية براهين إضافية على صحتها!.

وبقي أن نذكر أخيراً بأن ميشال فوكو كان أواسط القرن العشرين واحداً من أشهر الفلاسفة الفرنسيين في العالم وترجمت كتبه إلى لغات عديدة وعاش وحاضر ودرّس في عديد من البلدان إضافة إلى مكانته الجامعية في فرنسا. فعرفته جامعات ألمانيا والسويد، لا سيما الحياة الجامعية في تونس خلال أواسط سنوات الستين، حيث رافق التحركات الثورية اليسارية في هذا البلد التي كتب عنها نصوصاً كثيرة نالت شهرة وأهمية فائقتين بخاصة وأن مرحلة إقامته لسنوات في تونس تزامنت مع ربيع 1968 الفرنسي الذي كان هو يعد من كبار المفكرين الذين أثروا في الشبان القائمين به.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة