Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ملحمة السراب" لسعدالله ونوس في اقتباس مصري حر

حافظ المخرج سماح الحضري على الرؤية الاستشرافية للنص الأصلي ونقض العولمة

من أجواء المسرحية المصرية المقتبسة من نص سعدالله ونوس (الخدمة الإعلامية)

ثمة أحداث وعلاقات عدة في نص "ملحمة السراب" للكاتب السوري الراحل سعد الله ونوس (1941-1997) تدخل فيها حذفاً وإضافة معد مسرحية "الغاوي" محمد عبدالقوي المأخوذة عن نص ونوس من إخراج سامح الحضري وقدمتها "فرقة قصر ثقافة الأنفوشي" في الإسكندرية، وهي تتبع هيئة قصور الثقافة المؤسسة الرسمية. لكننا في النهاية لم نكن أمام نص جديد يختلف في رؤيته الكلية عما أراده ونوس في نصه المكتوب عام 1996.

الأحداث في مسرحية "الغاوي" كما في "ملحمة السراب" تدور في قرية مجهولة الهوية، واللغة المستخدمة هي العامية المصرية وليست الفصحى التي كتب بها ونوس نصّه، ومريم الزرقاء أصبحت أخت الراعي أو عمدة القرية وأحبها الغاوي الذي كان يعمل خادماً عند أخيها، ورفض هذا الأخ طلب الغاوي الزواج من أخته، بل وصفعه على وجهه لجرأته على طلب كهذا.

غادر الأخير القرية مصمماً على العودة للانتقام، وبعد أن تزوج اثنتين من بنات القرية وطلقهما، كان زواجه الثالث من ابنة الراعي وليس من ابنة المغني، كما في النص الأصلي. والخادم الشيطاني في "ملحمة السراب" لم يكن في الغاوي سوى شيطان "فاوست" نفسه، وإن لم تختلف دوافع "فاوست" في النصين الأصلي والمقتبس، وتركزت في فكرة الانتقام، بينما كان هدف "فاوست" غوته ومارلو هو المعرفة الكاملة لا الانتقام.

شيطان فاوست

أصر المعد على تذكير المشاهد بأننا أمام شيطان "فاوست" في مشهد التوقيع بينه وبين الغاوي على الاتفاق بينهما، بالدم، وهو نوع من الإسراف لم يضف شيئاً إلى دراما العرض ولا إلى المشاهد المتمرس الذي قرأ النص، أما من لم يقرأ النص فلا تعنيه هذه التفصيلة.

استغنى المعد أيضاً عن إرشادات ونوس التي ضمنها نصه، ومنها عنونة الفصول الأربعة التي أشار في هوامشها إلى أنها جزء من نسيج العمل، وافترض إبرازها في العرض عبر أداء الممثل أو عبر لافتة مكتوبة تقدم الفصل، أو تكون جزءاً من ديكور مشاهده المتوالية، وجاء العرض في فصل واحد من دون فواصل أو إشارات تذكرنا بأننا في صدد الانتقال من فصل أو من مشهد إلى آخر، وهو ما يحسب للمعد والمخرج، فالنص الأصلي عموماً، على قيمته وأهميته وعمقه، صعب تنفيذه بحذافيره والاستجابة لكل إرشادات كاتبه، وصعب كذلك في ما يخص اللغة الأدبية المكتوب بها، مع اعتبار جماليات هذه اللغة وشعريتها بالتأكيد، وإن كانت تحتاج إلى قدر من التدخل والتكثيف يتطلبه المسرح.

قراءة واعية

أياً يكن الأمر فإن الرؤية الاستشرافية التي قدمها سعدالله ونوس في "ملحمة السراب" وقراءته الشديدة الوعي للعولمة في بعدها المجتمعي، وسعيها إلى سيطرة الرأسمالية على دول العالم كافة، بخاصة في منطقتنا العربية، وتسييد ثقافة الاستهلاك، وهو ما أثبتت الأيام صحته ودقته، هي نفسها الرؤية التي انتهى إليها عرض الغاوي.

نعم هو لجأ إلى مسارات مختلفة نسبياً وسعى إلى حبك قصة صراع باكر بين الغاوي والراعي، لكنها في النهاية حافظت على وأفضت إلى ما أراد الكاتب الراحل طرحه، متسقاً مع توجهه الأيديولوجي الذي كان معروفاً به.

لم يكن المخرج بعيداً من ذلك كله، وكان واضحاً أن الإعداد تم بتوجيه أو طلب منه، كما فعل من قبل مع عدة نصوص اشتغل عليها، كما كان واضحاً كذلك أن صياغة الفضاء المسرحي والديكور صممته دنيا عزيز، تم بناء على الرؤية التي يسعى إلى تقديمها في إطار النص المعد، فنحن أمام أماكن عدة لكن الأحداث كلها تدور في منظر واحد ثابت جاء في مستويين، ففي المستوى "صفر" بيت الراعي وبيت مريم الزرقاء الذي انتقلت إليه بعد زواجها وساحة القرية وبعض المحال التي تشكل جزءاً من الصرح التجاري الذي أقامه الغاوي بعد عودته الثالثة للقرية، ومكتب الطبيب وغيرها من الأماكن التي دارت فيها الأحداث داخل القرية.

وفي مستوى مرتفع حوالى ثلاثة أمتار، تدور الأحداث خارج القرية، ويستخدم هذا المستوى أيضاً كجزء من الملهى الليلي الذي يتضمنه صرح الغاوي، وقد جاء الديكور تعبيرياً ومقتصداً ومتقشفاً بعض الشيء، لكنه أدى وظيفته الجمالية من ناحية، ومن ناحية أخرى لعب دوراً مهماً في ضبط إيقاع العرض وسريان الأحداث بشكل سلس، واحتاج ذلك إلى مصمم الإضاءة إبراهيم الفرن، الذي لديه من الخبرة والوعي ما يجعله قادراً على مجاراة الانتقالات من هنا إلى هناك من دون التشويش على المشاهد، وكذلك قدرته في الإضاءة على وجوه الممثلين وبيان أدق انفعالاتهم وتشكيلاتهم اللونية ومصادر إسقاطاته، وجميعها أسهمت بشكل فاعل في شحن دراما العرض وتعميق صورته البصرية.

توظيف الممثلين

أحمد عطية في دور الراعي المسيطر على كل شيء والذي لا يلبث أن ينهار أمام الحلقة المحكمة التي أقامها الغاوي حوله، وما بين السيطرة المتناهية والانهيار التام، أحكم استخدام صوته وجسده بشكل يعكس خبرته وموهبته.

وكذلك أحمد عبدالوهاب في دور رجل الدين المتواطئ و أحمد السيد في دور الشاعر المشغول بقضايا أهل قريته والذي يستسلم في النهاية، وهبة عادل فضة المرأة التي تخون زوجها ثم تعود للتوبة والندم، وأكرم نجيب ورنا السيد ورنيم قطب وأحمد المليجي وجيلان فرج وحبيبة عصام وأحمد رشدي وياسر أحمد وأحمد نبيل وعمرو بركات وأسامة سعيد، وهؤلاء جميعاً شكلوا فريق عرض متناغم وواع لطبيعة النص الذي يعملون عليه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإذا كان جميع أهل القرية قد وقعوا في حبائل الغاوي وأغرتهم ثقافة الاستهلاك وأصابهم ما أصاب المدينة من تحولات بفعل العولمة التي حذر سعدالله ونوس باكراً من سطوتها، مؤكداً أنها مجرد سراب تتوهمه شعوبنا وغيرها من الشعوب المغلوبة على أمرها، فإن العرض لا يغلق على هذه الفاجعة وحسب، فخادم الراعي يوقع اتفاقاً هو الآخر مع الشيطان وبالدم كذلك، وكأنه يقول لنا إن الدائرة لم تغلق بعد وإن مصائرنا إذا لم ننتبه ونتغير، ستظل معلقة بيد الآخر الذي يستنزفنا وسيظل.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة