Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حياة "لورانس العرب"... ألغاز متتالية لم ينهها مصرعه الغامض

أرسلته الاستخبارات البريطانية إلى أفغانستان لإشعال ثورة ضد إصلاحات تقدمية

لورانس على دراجته التي شهدت مصرعه في حادث بالريف الإنجليزي (موقع غيتي)

الزمان: 13 مايو (أيار) 1935. والمكان طريق منحدرة في الريف الإنجليزي غير بعيد عن كلاودزهيل حيث يقطن "تي. إي. لورانس" تحت اسم مستعار، وطبعاً ليس تحت لقبه المحبب "لورانس العرب". وكان لورانس الذي يعيش كسيد بريطاني محترم ويتنقل في المناطق الداخلية على دراجة نارية، يقود تلك الدراجة بهدوء حين بوغت بوجود دراجتين هوائيتين يقودهما شابان في مقتبل العمر ويعبران الطريق على غير توقع، لذلك لم يكن أمامه إلا أن يخاطر بتفاديهما وإما أن يصدمهما، ففضل ما كان خيراً بالنسبة إليهما ولكن قاتلاً بالنسبة إليه: تفاداهما ففقد السيطرة على مقود دراجته وانزلق في اندفاعة عنيفة فاصطدم رأسه بالأرض الصلبة وأصيب بجراح ثخينة، ستكون قاضية حتى وإن كان قد نقل إلى المستشفى فاقد الوعي لا أكثر، وطوال 6 أيام بدا فيها الأمل بإنقاذه كبيراً، لكنه ما لبث أن فارق الحياة.

وعلى ذلك النحو انتهت يومها تلك الحياة العجيبة الغريبة التي عاشها لورانس كواحد من أساطير القرن الـ20 وكبار مغامريه. وهي "طبعاً" الحياة التي وصفها لنا في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" يصور فيه نفسه، وكان حين دبج الكتاب بالكاد بلغ الـ40، على صورة مقاتل شرس، ومدافع عن حقوق الشعوب المظلومة ومطلق الثورة العربية والمساجل الشرس ضد الاستعمار البريطاني، لكن هل كان كل هذا صحيحاً؟ فيلم "لورانس العرب" الشهير سيوافق على ذلك كله، ولكن كثراً من المؤرخين لن يكتفوا بالحديث عن مبالغات لورانس بل سيدحضوا أسطورته ويلقون ظلال شك على كل ما روى هو وروي عن حياته. ولنستعد هنا بعض تلك النقاط الأساسية لمناسبة العودة إلى لورانس وحديثه مع ظهور فيلم جديد يزعم كشف "كل الأسرار المتعلقة بما رواه" كما بما لم يروه هو.

هكذا تكلم تشرشل

"حكاية أعمدة الحكمة السبعة هي قصة الحرب والمغامرة، والمختصر المتكامل لما يمكن أن يعنيه العرب. لقد احتل هذا الكتاب مركزه، بين الكتب الكلاسيكية الإنجليزية. أما غنى الموضوع وقوته وميزة الأسلوب الرفيعة وتلك الشخصية الصوفية التي لا حدود لها، فإن كل ذلك رفع هذا العمل الجبار إلى ما فوق مستوى جميع المؤلفات المعاصرة". إذا كان السياسي البريطاني ونستون تشرشل قال هذا الكلام عن كتاب لورانس الأشهر، فإن هذا الأخير نفسه كان ينظر إلى عمله على الشكل التالي: "أنا لم يكن لدي طوال وجودي سوى رغبة وحيدة، وهي أن أتمكن من التعبير عن نفسي، بأي ضرب من ضروب الأشكال التخييلية، غير أن عقلي المشتت أكثر من اللازم لم يعرف أبداً كيف يحصل على التقنية اللازمة لذلك، ثم أتت الصدفة، إضافة إلى مزاج منحرف بعض الشيء، لترمي بي في خضم العمل والفعل نفسيهما، وأعطتني مكاناً في الثورة العربية، موفرة لي فرصة لكي أخوض في مضمار الأدب الذي بدا بالنسبة إلي فناً من دون تقنية".

وهذا الخوض، كما نعرف هو الذي أفضى بلورانس إلى وضع هذا الكتاب الذي منذ صدوره في طبعته الأولى المحدودة النسخ للمرة الأولى في عام 1926، يقرأ ويترجم باستمرار، ولا يكف عن إثارة المخيلات وشحذ المشاعر، وكذلك عن توجيه أصابع الاتهام إلى السلطات البريطانية لكونها، وكما يؤكد لورانس دائماً، غدرت بالعرب، إذ تخلت عنهم وعن مساندتهم في أحلامهم بعد أن جرتهم إلى حربها ضد الدولة العثمانية وانتصرت فيها نصراً "من المؤسف والمحزن، بالنسبة إلى لورانس، أنها لم تشركهم فيه ولم تمكنهم من جني ثماره".

متهم بالنسبة إلى العرب

ولعل التناقض بين موقف الإدانة الذي يقفه لورانس في "أعمدة الحكمة السبعة" من الإدارة البريطانية، وبين مساره السياسي الذي لم يتأثر أبداً بذلك الموقف، هو الذي دفع عدداً من المفكرين العرب، بدورهم، إلى توجيه أصابع الاتهام والإدانة إلى لورانس كونه "لعب دائماً لعبة مزدوجة لم يكن هناك أسوأ من النتائج التي تمخضت عنها". كما دفع محللين ومؤرخين أجانب محايدين إلى القول إن "نموذج لورانس هذا، يمكن النظر إليه على أنه نموذجي لدى ذلك النمط من أصحاب النفوس المتعالية التي تكون عادة فريسة العدمية الميتافيزيقية، ويكونون في أعماقهم منزهين عن تفاصيل الشؤون الحياتية، لكنهم في الوقت نفسه يجعلون من السياسة ميداناً يؤكدون عبره ذواتهم، بشكل أفسح من ذاك الذي يسمح به الأدب أو ما شابهه".

دور في ثورة أفغانية رجعية

على أية حال، إذا كانت كتب ودراسات لا تحصى كتبت عن "لورانس" وعن دوره في الثورة العربية الكبرى، وشق العرب عن الدولة العثمانية، فإن الدور الذي لعبه لورانس نفسه، في منطقة أخرى من العالم الإسلامي، هي منطقة أفغانستان، لم يعرف بعد على نطاق واسع، ولا تزال أجزاء كثيرة منه محاطة بالغوامض والأسرار. ومع هذا قد يصح القول إن لورانس لعب هناك دوراً كبيراً، وتحديداً منذ قررت له أجهزة الاستخبارات البريطانية التي ينتمي إليها، أن يتوجه إلى أفغانستان، من طريق الحدود الباكستانية، ليرى ما الذي يمكن أن يفعله في أوضاع شديدة الاضطراب. ومن هنا لم يكن غريباً أن تندلع بدءاً من خريف 1928 سلسلة أحداث علقت عليها الصحف الهندية قائلة إن على السلطات البريطانية أن تسحب لورانس من المنطقة. وكذلك كان رأي موسكو. أما الأحداث الأفغانية نفسها فوصلت إلى ذروتها يوم 18 ديسمبر (كانون الأول) من ذلك العام، حين اضطر الملك أمان الله إلى الهرب من كابول مع زوجته، إثر معارك عنيفة اندلعت في العاصمة. وفي اليوم نفسه تمكنت قوات الثوار من الوصول إلى المدينة، فيما اندلعت معارك أخرى في جلال آباد.

ثورة ضد إصلاحات تقدمية

هذه المرة كان من الواضح أن المعارك القائمة ليست مجرد معارك قبلية، بل هي نتيجة لثورة عارمة شهدتها أفغانستان، لكن ضد الإصلاحات التقدمية التي كان الملك أمان الله وزوجته يحاولان فرضها على البلاد، وكانت ذروة تلك الإصلاحات القرارات التي تضمنت سفور المرأة الأفغانية وعدم إجبارها على ارتداء الحجاب، وهو قرار اتخذ تحت ضغط الملكة ثريا التي كانت لا تكف عن المطالبة بتحرير المرأة الأفغانية. ولا بد من أن نذكر هنا أن الملك أمان الله كان يستشير روسيا السوفياتية وتركيا الكمالية اللتين كانتا تعيران اهتماماً كبيراً لوجود أمان الله وزوجته في الحكم في بلد كان لا بد لهما أن تخلصاه من الحكم الإنجليزي الذي كان يستند إلى القوى المحافظة، القوى التي كانت ترى في خطوات أمان الله "إجراءات كافرة" تنبع من تدخل بلاشفة روسيا وعلمانيي تركيا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهكذا توجه لورانس إلى هناك لمساعدة القبائل والقوى المحافظة ضد الملك الخاضع لتأثير زوجته وتأثير المستشارين الأجانب. وبعد ذلك تواصل تطور الأحداث، واضطر لورانس لمبارحة المنطقة والعودة إلى بريطانيا، لكنه آثر الصمت حول دوره في الأحداث، بدل الحديث عنه كما فعل بالنسبة إلى الثورة العربية، ربما لأنه ما كان ليهمه أن يقال إنه ساعد في أفغانستان ثورة تعادي التحديث، هو الذي كان من مصادر فخره بالنسبة إلى تدخله في الثورة العربية ضد الأتراك، أن الثورة العربية كانت حديثة بشتى المقاييس.

صمت السنوات الأخيرة

مهما يكن الأمر يبدو أن تلك المشاركة في التمرد الرجعي في أفغانستان كانت آخر مساهمات لورانس في تدخلات بريطانيا بالمناطق الإسلامية، إذ نجده يستكين للعيش في تلك المنطقة الريفية الإنجليزية التي ستشهد نهايته بعد سنوات قليلة، وقد انطوى على ألغازه وربما على ما كان يقول إنه "خيباته" أيضاً. وبما أننا نتحدث هنا عن موت لورانس، قد يكون مفيداً أن نسجل بعض الملاحظات التي أوردها كاتب سيرته وصديقه روبرت غريفز، التي يبدو أنها تتقاطع مع ما يقال إن الاستخبارات الفرنسية قد "كشفت" عنه حديثاً واستند إليه فيلم يدعي أنه "يقول كل أسرار حياة هذا المغامر". وغريفز يقول إن الشهادات التي تم الإدلاء بها عند إجراء التحقيقات في الحادث كشفت عن "تناقضات غريبة" منها أن الكابورال كاتشبول الذي كان موجوداً في المكان على بعد 100 متر من طريق كلاودزهيل رأى لورانس على دراجة نارية يسير بسرعة ورآه يتجاوز سيارة سوداء كانت قد تجاوزت الدراجتين الهوائيتين وبعد ذلك، كما يقول الكابورال "سمعت ضجة وتبين لي أن دراجة لورانس قد ألقته بعيدا". ومقابل هذا أنكر سائقا الدراجتين أنهما شاهدا أية سيارة سوداء تتجاوزهما، ناهيك بأنهما أظهرا كثيراً من الارتباك في أقوالهما "ومع ذلك اكتفت السلطات بما قالاه وأقفلت الملف".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة