Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

دورا مار رفيقة بيكاسو... فنانة أحدثت ثورة في عالم التصوير

معرض استعادي في مركز بومببيدو بالتعاون مع متحف تايت البريطاني

دورا مار الفنانة الفرنسية التي احدثت ثورة في التصوير (يوتيوب)

معظمنا لا يعرف الفرنسية دورا مار (1907 ــ 1997) إلا بوصفها موحية بيكاسو وواحدة من رفيقات دربه، ويجهل بالتالي أنها كانت قبل أي شيء امرأة مستقلّة طبعت القرن العشرين بحضورها الملغز، وفنانة ثوّرت فنّ التصوير الفوتوغرافي وتقنياته، قبل أن تمارس بعبقرية أبرز أساليب فن الرسم التي كانت شائعة في زمنها. ولتبديد هذا الجهل الجائر بحقّها، ينظّم "مركز بومبيدو" في باريس، بالتعاون مع متحف "تايت" البريطاني، معرضاً استعادياً ضخماً لها يتوقّف عند كافة مراحل مسيرتها الفنية، بدءاً بالصور الأولى التي أنجزتها مطلع الثلاثينيات، مروراً بمشاركتها المهمة في نشاطات ومعارض الحركة السورّيالية، وانتهاءً بإعادة اكتشافها فن الرسم، حلم صباها الذي كرّست له كل وقتها خلال السنوات الأخيرة من حياتها.

وفعلاً، شكّل الرسم هاجس دورا الفني الأول فدرسته في أعرق المعاهد الفنية الباريسية، ثم في محترف "أندريه لوت" الشهير، قبل أن تنحرف في اتجاه التصوير الفوتوغرافي وتنجز بين 1930 و1938 أعمالاً فتنت فوراً المحيطين الفني والإعلامي بسطوة جمالياتها وإيحاءاتها. أعمالٌ تراوحت في البداية بين صور لعارضات أزياء وأخرى دعائية، وجاءت نتيجة طلبيات من مجلات نسائية ودور نشر ودور أزياء، قبل أن تتركّز على موضوعَي البورتريه والعري. بعد ذلك، حقّقت الفنانة صوراً بأسلوب وثائقي أو بتقنية الـ "فوتومونتاج"، والتقطت كليشيهات مشهدية غريبة الطابع أصبحت بسرعة أيقونات داخل فن التصوير السورّيالي.

ومثل مان راي الذي بلغ شهرته عبر نجاحه في تقريب الصورة الفوتوغرافية التجارية من الصورة السورّيالية، تمكّنت دورا من أنجاز صور يتقاطع داخلها العري الإروسي الأثيري بفنّ تصوير عارضات الأزياء، والصور الدعائية بالرؤى الحُلُمية. وفي هذا السياق، شكّلت المجلات النسائية التي كانت تغرقها بالطلبات مكاناً مثالياً لاختباراتها سمح لها بالتلاعب بصورها كما تشاء وباستكشاف ذلك التناقض الخصب بين واقع وخارق، كما سمح لها بالانقلاب على قواعد وقوانين التصوير التقليدية، من جهة، وعلى مفهوم "المرأة الحديثة" كما كان متداولاً في زمنها، من جهةٍ أخرى. وفي هذا السياق، غاصت بجرأة في أسرار النفس البشرية التي شرّحها مفكّرون عباقرة قبلها، مثل جورج باتاي وجاك لاكان، عبر تحويلها صور العري التي كانت تلتقطها إلى فضاء استكشاف للاوعي غالباً ما يحضر الجسد داخله ثنائياً، مزدوجاً، أو قلقاً من ظلّه أو من قِطَع تتلبّس به أو تجاوره (قناع، فروة تحوّل شعره إلى تميمة، شمعدان يقطع صورته الجانبية بساديّة، حلقة بهلوان تعلّقه فوق حقلٍ ضبابي ملغَّز...). وفي ذلك، تندرج الفنانة ضمن ممارسات حداثية كانت شديدة التنوّع والثراء آنذاك.

الطبيعة الخارقة

وتجدر الإشارة هنا إلى أن التصوير الفوتوغرافي كان في الثلاثينيات وسيلة تعبير فنية مثالية لامتحان وتفحُّص طبيعة الواقع الخارقة. لكن دورا، أكثر من أيّ مصوِّر معاصر لها، عرفت كيف تستثمر طاقة هذا الوسيط المبلبِلة للحواس. ففي الصور التي التقطتها في شوارع باريس وبرشلونة ولندن مثلاً، تمكّنت بحساسيتها المفرطة من التقاط سحر هذه المدن. وبخلاف أوجين أتغي ومان راي وإيلي ليوتار وبراساي وجاك أندريه بوافار الذين تحتل صورهم المؤطَّرة بإفراط وذات المفاعيل المدروسة موقعاً مهماً في الخيال السورّيالي، ركّزت الفنانة عدستها على شخصيات من الشارع مضحكة أو بائسة، والتقطت لها صوراً مجرّدة من أي تصنُّع أو حيلة. صورٌ لا تُقرأ بشكل فوري، بل يتكشّف مضمونها ببطء للمتأمل فيها، ما يجعلها تثير داخله تداعيات أفكار واستحضارات كثيرة.

ولا عجب في افتتان السورّياليين بهذه الصور، فدورا، منذ انطلاقتها، امتلكت حساسية سورّيالية، كما تشهد على ذلك كليشيهات لها من العشرينيات تلاعبت فيها بمفاعيل الظلال وإيحاءاتها. لكن يجب انتظار مطلع الثلاثينيات وتقرّبها من مجموعة أندريه بروتون كي ينمّ عملها عن سعي حقيقي وثابت خلف الغرابة، مستعينةً في ذلك بتقنية المونتاج. وفي هذا السياق، ومثل ملصقات ماكس أرنست، تمنحنا صورها المركّبة انطباع أوّل بمشاهد حقيقية، نظراً إلى احترامها الأبعاد الهندسية وقواعد تشكيل لوحة واقعية، قبل أن تتجلى لنا الموضوعات السورّيالية التي تتحكّم بصوريتها (الإروسية، الحلم، العين، اللاوعي...). أعمال يبقى تدخُّل دورا خفياً فيها، الأمر الذي يقود إلى لعبة تخمينات مثيرة للخيال، وتندرج، بإثارتها وتجسيدها آليات الذهن عن طريق صورية حُلُمية مثبَّتة بوسائل وركائز واقعية تخدع العين، ضمن ذلك السعي الذي هجس به السورّياليون في الفترة نفسها وحدّده بروتون على النحو التالي: "التحدّي الذي يواجه الفنان اليوم يكمن في كيفية إسقاط التمثّلات الذهنية بدقة أكثر فأكثر موضوعية".

أما عمل دورا التشكيلي الذي جاء متأخراً، وأنجزت في سياقه مئات اللوحات والرسوم والمطبوعات والأعمال الهجينة، فيعكس بحثاً فنياً فريداً من نوعه تتجلى قيمته في خلط الفنانة داخل ثماره تقنيات فوتوغرافية وأخرى تشكيلية بطريقة مبتكَرة، وفي تطويرها بطريقة شخصية أساليب فنية حداثية مختلفة، بدءاً بمفردات بيكاسو التشكيلية وأسلوب ما بعد التكعيبية، مروراً بالأسلوب التصويري السورّيالي خلال الحرب العالمية الثانية، وانتهاءً بالأسلوب التجريدي الهندسي الذي مارسته بطريقة راديكالية في الفترة الأخيرة من حياتها.

وحين نتأمل في هذه الأعمال، خصوصاً في اللوحات التجريدية التي تستحضر إلى أذهاننا صوراً سلبية (négatifs)، نستشفّ لدى دورا توقاً إلى مصالحة فنّي التصوير الفوتوغرافي والرسم. وما يعزّز هذه القراءة هو تارةً دقة رسمها وحدة خطوطه وذلك التلاعب الحاذق بالضوء الذي ينير فضاءه، وتارةً ذلك التشكيل الضبابي والأثيري الذي يمدّ بعض لوحاتها بطابع حُلُمي ملغَّز امتلكت الفنانة أسراره منذ البداية.

باختصار، تتكشّف لنا داخل معرض دورا مار الحالي مسيرةً فنية تتميّز في مختلف مراحلها بحيوية وحرّية إبداعية نادرتين، بالتالي بإنجازات لم تأخذ بعد ما يكفي من الاهتمام والدراسة لاستخلاص مدى أهميتها وفرز لصاحبتها الموقع المتقدِّم الذي يتوجّب منحها إياه في تاريخ الفن الحديث، في تاريخ الحركة السورّيالية الذي ما زال مفتوحاً، وفي تاريخ النساء المبدعات الذي لم تُكتَب بعد كامل فصوله.

المزيد من ثقافة