Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مفارقات التصعيد في أوكرانيا

روسيا والغرب يرسمان خطوطهما الحمر بخطى بطيئة لكنها ثابتة

قافلة مدرعة للقوات الروسية في منطقة زابوريجيا بأوكرانيا، 27 يوليو 2022 (ألكسندر إرموشينكو/ رويترز)

ظهرت مفارقة تتعلق بالتصعيد منذ مبادرة روسيا إلى غزو أوكرانيا، فالغرب يتجنب بعناية أنواعاً بعينها من المشاركة [في المعارك]، مثل إرسال مقاتلات "ميغ" إلى كييف، وإقامة منطقة حظر طيران، ونشر جنود على الأرض، خوفاً من أن يقود هذا إلى نشوب حرب أكبر مع موسكو. بيد أن الدول الغربية تمد أوكرانيا بنظم مدفعية، وبمعلومات استخباراتية دقيقة استهدفت ضباطاً روس وسفناً روسية. وأرسلت هذه الدول كوادر استخباراتية وقوات خاصة إلى أوكرانيا شاركت المعلومات ونقلت المعدات العسكرية داخل البلاد، ويبدو التمييز بين أنواع المساعدة هذه اعتباطياً ويتغير مع الزمن. مع ذلك، فإن الفروق بينها ينبغي أن يحملها الغرب وروسيا على محمل الجد، وأسهمت في الحؤول دون اتساع الحرب على نطاق عريض.

وفي أوكرانيا، يبدو حدا الصراع البارزان واضحين، فالغرب لم يهاجم مباشرة القوات الروسية، وكلا الطرفين يبقي عملياته داخل الأراضي الأوكرانية. ومع ذلك، فإن هذين الحدين يكادان يؤديان وحدهما دوراً فعالاً [في الصراع]. وقد امتنع حلف شمال الأطلسي (الناتو) على سبيل المثال عن تورط يقع بين هذين الحدين، مثل توفير طائرات أو تنظيم وحدات من المتطوعين، لأن موسكو قد ترى أن مثل هذه مساعدات تستفزها. ورد روسيا من شأنه أن يبقى على الأغلب ضمن حدود غير مباشرة، وفي إطار المسرح الجغرافي المتعارف. وحذَر حلف الناتو نهج معقول، لأن رداً روسياً قاسياً قد يضر بالمدنيين وبحكومة أوكرانيا، وبالغرب من وجه آخر ومختلف.

وتفيد البنية المعقدة للخطوط المرسومة التي يحترمها "الناتو" وروسيا وأوكرانيا، وتلك التي لا يرغبون في احترامها، بأن قواعد الحرب المحدودة تتسم بالفوضى.

ويعتبر التصعيد في أوكرانيا وفي غيرها من الصراعات أشبه برقصة غامضة ومعقدة تستند إلى التاريخ والجغرافيا والفروق العالمية بين أنواع مختلفة من السلوك التي يشهدها زمن الحرب. ويستبق الجانبان مدى تحمل الجانب الآخر، وقد يتقاربان في [بلورة] فهم مشترك لما يمكن السعي في بلوغه، ولما لا يبلغ.

لذا ومن أجل إبقاء الصراعات مقيدة على الأطراف المتحاربة أن تختبر تدريجاً حدود [تحمل] بعضها بعضاً، على ما فعل الغرب بشكل حكيم. واستطاعت الولايات المتحدة وحلفاؤها بأناة الإسهام في الدفاع عن الأوكرانيين، في وقت كانوا فيه يقيسون قدرة روسيا على الاحتمال. وعلى حلف الناتو زيادة مشاركته تدريجاً، واكتشاف خطوط روسيا الحمراء من خلال مراقبة دقيقة لكيفية استجابتها للإجراءات الغربية. وقد يكون قصف يمكن تمويهه تنفذه طائرة روسية مسيرة في بولندا على سبيل المثال، إشارة إلى أن حلف "الناتو" ذهب بعيداً في ممارسة الضغط على موسكو. وفي هذه الحال على الحلف أن يتراجع، وينبغي عليه أولاً التمسك بالامتثال للخطوط الحمر الجلية، والقتال من طريق القوات الأوكرانية فقط، والحفاظ على بقاء الحرب الفعلية داخل الأراضي الأوكرانية، وإلا فهو يغامر بإضرام صراع أكثر خطورة بكثير.

رسم الحدود

والحق أن الحرب في أوكرانيا بالكاد يصح وصفها بالحرب المحدودة، وقلة من الناس الذين هربوا من وطنهم في أعقاب الغزو الروسي، سينظرون إليها على هذا النحو، غير أن مستوى الصراع ونطاقه نسبيان، وكان حجم المعاناة الإنسانية ليكون أكبر لو أن الحرب تمددت إلى أراض أخرى، أو لو استعمل المتقاتلون أسلحة جديدة. ويقتضي منع هذا الصراع من الاتساع والخروج عن السيطرة، استيعاب الضالعين فيه كيف يرى أعداؤهم التصعيد ويفهمونهم.

ولحسن الحظ، عندما تحاول الحكومات استطلاع الحدود التي يقبل بها خصومها، فإنها لا تتخبط في الظلام. ولاحظ منظِّر "اللعبة" [نظرية تدرس أحوال تضارب المصالح الاستراتيجية] توماس شيلنغ، وهو كتب في أعوام الحرب الباردة المبكرة، أن الحدود في الحرب، بالتالي ما يعتبر تصعيداً، تعرف قياساً على فروق واضحة، فالأنهار والجبال وخطوط العرض والحدود السياسية والأزياء الرسمية والأسلحة، تحدد كلها ملامح التصعيد. ومن الضروري في أثناء الحرب العودة عما يعتبر تصعيداً على وجه السرعة، والحكومات في هذا المعرض لا تبدأ من الصفر.

فالجغرافيا على سبيل المثال تقدم بعض الإرشاد. وخلال الحرب الكورية، كانت تعرجات نهر يالو، وهو الممر المائي الذي يفصل بين كوريا الشمالية والصين، تعتبر حدوداً قوية. وكان القادة الأميركيون والصينيون والسوفيات على حد سواء، يجمعون على أن القصف على الجانب الخطأ من نهر يالو خطوة تصعيدية للغاية. وفي أوكرانيا، يساعد نهر دنيبر، والحدود بين بولندا وروسيا، وموقع العاصمة، والتمييز بين شرق أوكرانيا وغربها، على نحو مماثل، في تعريف العمليات العسكرية التي تقع داخل حدود الحرب المكرسة.

 

من أجل إبقاء الصراعات مقيدة على الأطراف المتحاربة أن تختبر تدريجاً حدود [تحمل] بعضها بعضاً

ويمكن لبعض جوانب السياق الخاصة أن تؤثر في أفكار التصعيد، بما في ذلك الثقافة والصور النمطية العرقية واللغة. وفي الحرب الكورية، اشتبه مسؤولون أميركيون في أن الاتحاد السوفياتي ربما يرسل وحدات من المتطوعين من دول الكتلة الشيوعية. ولفتت برقية أرسلها آلان كيرك سفير الولايات المتحدة لدى موسكو في عام 1951، إلى أنه إذا حصل ذلك فإن القادة السوفيات قد يستخدمون أفراداً من "دولة شرقية تابعة" مثل منغوليا، لكي يكون الأمر قابلاً للإنكار [التنصل من الخطوة وعدم تبنيها]، ويسبب استفزازاً أقل. ويعني هذا ضمناً أن من شأن الجنود الأوروبيين [في تلك الحالة] أن يكونوا أجانب وغرباء في شكل أشد وضوحاً، ويمثلوا بالتالي إجراء أكثر تصعيداً من الجنود الآسيويين. ولم يتخذ السوفيات مثل هذه الخطوة، إلا أن التقرير أظهر مدى قدرة الأفكار التقليدية في الشبه العرقي على إبراز ما يعتبر تصعيداً.

وتُقرأ معالم التصعيد من طريق أفكار عالمية، بعضها يتعلق بفروق بسيطة في قوانين الحرب، فانتقال دولة (محاربة) ما من قصف الأهداف العسكرية وحدها إلى ضرب أهداف مدنية، أو من المصانع إلى المستشفيات، هو عمل تصعيدي. وهناك أسلحة أكثر استفزازاً من أخرى، ففي ثمانينيات القرن الماضي حين أمد القادة الأميركيون المجاهدين في أفغانستان [بالسلاح] بشكل سري لقتال السوفيات، أرسلوا أول الأمر صواريخ سويسرية الصنع ومحمولة على الكتف، فهم اعتقدوا أن موسكو سترد بشكل أشد قسوة لو أنهم أرسلوا نظام "ستينغر" أميركي الصنع. وفي نهاية المطاف وبعد مراقبة رد الفعل السوفياتي، أرسلت واشنطن صواريخ "ستينغر".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولكن حين تتجاوز الدول خطوطاً بارزة، فقد لا ينتقم خصومها على الدوام. ففي الأسابيع الأولى لغزو موسكو، رفضت الحكومات الغربية أن ترسل أنظمة دفاع جوي، واختارت بديلاً منها أنظمة أصغر ومضادة للدبابات. ورفضت بعض الدول إرسال مساعدات  فتاكة على الإطلاق، بيد أن الغرب سرعان ما غير رأيه. وفي غضون شهر واحد، أرسلت الولايات المتحدة  والمملكة المتحدة معدات دفاع جوي محمولة. ولم يطل الوقت حتى أخذت دول حلف "الناتو" ترسل أنظمة مدفعية قوية، بما في ذلك أنظمة صواريخ مدفعية سريعة التنقل (هيمارس) الأميركية الصنع، وفي وسعها إصابة أهداف وراء الخطوط الروسية. ومن السهل وصف هذه التحولات بالتصعيدية، والمساعدة التي تؤدي إلى إسقاط طائرات مختلفة عن دعم يتسبب بصد الدبابات، كما أن مدفعية بعيدة المدى هي من غير شك أكثر عدوانية من المدفعية ذات المدى القريب. ومع ذلك تحملت روسيا كثيراً من الرفع التدريجي للقوة الفتاكة، ولعل أحد أسباب ذلك يعود إلى أن هذه المساعدة لا ترقى بعد إلى انتهاك القيود الحاسمة في الحرب.

ويدل امتناع روسيا عن الرد بالمثل إلى أن درجات التصعيد قد تكون واضحة، لكنها ليست ثابتة على الدوام. وما قد يعتبر استفزازياً قبل الحرب، تتغير دلالته في الحرب. ففي بدايات حرب فيتنام مثلاً قصفت الولايات المتحدة شمال فيتنام قصفاً غير كثيف، لأن القيام بذلك اعتبر تصعيداً، إلا أن مثل هذه العمليات صار شيئاً فشيئاً روتيناً، في حين أدركت واشنطن أن قصفها لن يحرض السوفيات أو الصينيين على الرد، واتسعت أهداف الولايات المتحدة شمالاً. وفي مراحل الحرب الأخيرة بحث الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عن أهداف كان قصفها محظوراً، ومثل هذه الأهداف كان في كمبوديا مثلاً. وقصد من وراء ذلك إلى كسب مزيد من النفوذ في أثناء محادثات السلام، وإلى الظهور أمام الفيتناميين الشماليين بمظهر المستعد للمضي إلى حد لم يكن سلفه ليذهب إليه.

حدود الحرب المحدودة

وعليه، عدل كل طرف من الأطراف الثلاثة، أي روسيا وأوكرانيا والغرب، سلوكه على النحو نفسه، وتعرف على الأهداف، وعلى عتبات الإيلام عند خصمه، ولكن مرونة التصعيد ليست مطلقة، وبعض الحدود أو الدرجات مهم أكثر من غيره ويقتضي الحؤول دون اندلاع حرب أوسع نطاقاً، تجنب كلاً من حلف "الناتو" وروسيا بعناية حصول اشتباكات عسكرية مباشرة ومستمرة بين جنودهما، وهذا ما يجعل الاقتراحات بفرض منطقة حظر جوي مختلفة عن تلك التي تدعو إلى [استعمال] أسلحة أشد فتكاً. وعلى رغم أن الآراء تختلف في شأن مدى فتك الأسلحة التي تمد بها أوكرانيا، يتفق المحللون الغربيون على ضرورة مرور التدخل عبر الأوكرانيين.

وتمثل حدود أوكرانيا معلماً نهائياً وثابتاً، يقر بها العالم كله. وإذا كانت [هذه الحدود] متنازعة وتنازع عليها روسيا، فهي عنصر قوي وطبيعي من شأنه احتواء الحرب. وفي مارس (آذار)، أطلقت روسيا صواريخ بالقرب من الحدود البولندية، لكنها لم تبلغ حد استهداف طرق الإمداد في أراضي إحدى الدول الأعضاء في حلف "الناتو". ولم يخف ضبط النفس هذا على الملاحظة، وتواصل روسيا تجنب ضرب أعضاء حلف "الناتو" على رغم قدرتها عليه.

وهذان الخطان سياسيان، وهما يتضافران على تعريف أشكال التصعيد القابلة للانفجار، وصدام مباشر بين حلف "الناتو" وروسيا في أجواء أوكرانيا من شأنه أن يستدعي ردوداً متبادلة على طريقة العين بالعين، وهذا يحول الحرب بالوكالة حرباً مباشرة، ويدعو القادة في كلا الجانبين إلى شن هجمات مباشرة. وقيام روسيا بهجمات متصلة على بولندا من شأنه أن يفعل تعهد حلف "الناتو" بالدفاع المشترك، وإذا هاجمت أوكرانيا الأراضي الروسية فستشعر موسكو أنها مجبرة على الرد بطرق مختلفة، وهذه التجاوزات فارقة ومشؤومة.

وهناك استثناء من هذه القيود، هو العمليات القابلة للإنكار [نفي الوقوف ورائها]. فقد نفذ طيارون سوفيات سراً خلال الحرب الكورية طلعات جوية لمصلحة سلاح الجو الصيني، وعلم القادة الأميركيون بذلك لكنهم التزموا الصمت. وفي حرب فيتنام قام سلاح الجو الأميركي سراً بقصف لاوس، واكتفى السوفيات بالشكوى في الخفاء، وغالباً ما تعمد الدول خلال الحرب إلى إخفاء نشاطها الذي ينتهك القيود الأساسية. وقد يوافق المتقاتلون ضمناً على التزام الصمت حيال هذه التجاوزات، تفادياً لنشوب حرب أوسع، ولربما أقدمت موسكو على ما أشيع عن تخريب الأوكرانيين مستودعات وقود في الأراضي الروسية.

 

ما ينجو حلف "الناتو" اليوم من المحاسبة عليه مختلف عما كان يمكنه أن ينجو منه في فبراير (شباط) 2022

 

لكن التكتم جائز على بعض أنواع العمليات دون غيرها، والقيام بعدد كبير جداً من هذه الهجمات أمر خطير، وخصوصاً في أوكرانيا. ومن شأن حرب على نطاق أوسع في أوروبا أن تدمر الاقتصادات، وتطلق العنان لارتكاب المجازر في المدنيين والجنود، ويمكنها أن تقلب الاستقرار المحلي رأساً على عقب، ولا يستثني ذلك أحداً. ووفق أكثر السيناريوهات فظاعة، يمكن للأسلحة النووية أن تستخدم للمرة الأولى منذ عام 1945. وثمة سبب لرغبة كلا الطرفين، روسيا والغرب، في الحد من الصراع.

وقد يعتقد بعضهم أن الحكومات الغربية ارتكبت خطأ حين امتنعت عن إرسال مساعدات فتاكة إلى أوكرانيا في بداية الغزو، ولكن نظراً إلى أن القيود تتغير خلال الحرب، فإن توخي الحذر كان هو الخطوة الصحيحة والمناسبة. تتطور مفاهيم التصعيد من خلال التجربة والخطأ، وما ينجو حلف "الناتو" اليوم من المحاسبة عليه مختلف عما كان يمكنه أن ينجو منه في فبراير 2022. والنهج المتدرج الذي اتبعه الغرب حيال أوكرانيا، مع توسعه التدريجي في حجم المساعدات وآثارها الفتاكة، سمح له بتشخيص أشكال التصعيد التي تعتد بها روسيا [ولا تستخف بها].

ويمكن لأعضاء حلف "الناتو" أن يستمروا في زيادة مساعداتهم، وتعظيم قدرتها على الفتك. وعليهم، من جهة ثانية، أن يفعلوا هذا بشكل تدريجي. ويسمح نهج يتسم بالصبر للغرب بقياس رد فعل موسكو، ورصد علامات [تدل على] وشك انتقام روسي مختلف، فالمسألة المتعلقة بما إذا كان ينبغي إرسال طائرات "ميغ" إلى أوكرانيا تستوقف وتدعو إلى التأمل والوقوف عليها. وعلى رغم أن مساعدة من هذا النوع لن تمثل انتهاكاً صريحاً لأكثر قيود الحرب أهمية، إلا أنه يمكن لموسكو، نظراً إلى احتمال استعمال هذه المقاتلات في مهاجمة أراضٍ روسية، أن تعتبرها عملاً من أعمال التصعيد، والرد على سبيل المثل بشن هجمات صاروخية على مناطق أقرب إلى أراضي حلف "الناتو"، أو بقطع مزيد من إمدادات الغاز عن أوروبا.

وكثير من صور التصعيد غامضة وتلفها الضبابية، لكن التحرك ببطء يتيح للغرب أن يبدد الغموض من دون أن يبدأ حرباً عالمية ثالثة.

*أوستن كارسون هو أستاذ مشارك في العلوم السياسية في جامعة شيكاغو ومؤلف كتاب "الحروب السرية: الصراع الخفي في السياسة الدولية".

مترجم من فورين أفيرز، 29 يوليو (تموز) 2022

المزيد من آراء