Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بالارد في "معجزات الحياة" سيرة أخيرة "على سبيل التوضيح"

يؤكد فيها أن فتى "إمبراطورية الشمس" هو أناه الأخرى ويعيد بها الاعتبار لوالدين غابا عن كتاباته بلا مبرر

كأنه يعني أن حياته كلها عبارة عن معجزات متتالية لم يتوقف طوال عمره عن التعبير عنها (غيتي)

لكيلا تختلط الأمور بعضها ببعض، لا بد من التأكيد منذ البداية على أن اسم "إمبراطورية الشمس" يغطي ثلاث تسميات، دولة اليابان وهو لقبها، وواحداً من أجمل الأفلام المبكرة للمخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ، وبالتالي رواية لا تقل قوة وجمالاً للكاتب الإنجليزي جيمس غراهام بالارد تحمل الاسم نفسه. ولنضف هنا فوراً أن التسميات الثلاثة مترابطة، فأحداث الفيلم المقتبس أصلاً من الرواية تتناول احتلال اليابان للصين، لكن من وجهة نظر الفتى الذي كأنه بالارد نفسه، وهو المولود في شانغهاي عام 1930 متروكاً في المدينة من قبل والديه إبان احتلال اليابان لها كتمهيد للحرب العالمية الثانية.

على هذا تكتمل الدائرة، لكن ما يبقى غامضاً هو مدى العلاقة بين رواية بالارد وسيرة حياته، فحتى لو كانت العلاقة واضحة فإن ثمة ثغرات كثرت الإشارة إليها، حتى وإن كان بالارد قد سارع إلى القول بعد ظهور الرواية عام 1984، كما عند عرض الفيلم، وبكل وضوح إن "جيم الذي هو أنا آخر بالنسبة إليّ ينظر إلى الوجود نظرة بطل حدث له أن قرأ كل روايات الخيال العلمي التي نشرتها لاحقاً وكل كتبي الأخرى".

والحقيقة أن بالارد وجد نفسه خلال السنتين الأخيرتين من حياته قبل رحيله عام 2009 يصدر سيرة ذاتية يحاول فيها توضيح هذه الأمور عنوانها "معجزات الحياة"، ومن اللافت أنها أتت إلى حد كبير متطابقة ومتزامنة مع أحداث "إمبراطورية الشمس"، ولكن هذه المرة مع التفاتة إلى والديه ودورهما في طفولته من دون أن يحدث ذلك فارقاً كبيراً، علماً بأن ثمة رواية ثانية لبالارد عنوانها "لطف النساء" تكاد تكون تكملة لـ "إمبراطورية الشمس" تشبهها وتتوافق معها على "إهمال دور الأبوين".

نوع من الاعتذار

إذاً يمكن القول إنه نقص سده بالارد في آخر حياته من خلال كتابة سيرة ذاتية له تتناول غالباً السنوات نفسها التي تتناولها الروايتان المذكورتان، ومهما يكن فلا بد هنا من التوقف عند نص "معجزات الحياة" لنقول كيف أنه يصف أيضاً بداية مسيرة بالارد الأدبية، وصداقته مع فنان البوب ​​إدواردو باولوزي، وصولاً إلى تجربته التي بلغت ذروتها في روايته المدمرة "معرض الفظائع" على الرغم من تخصيص مساحة أقل للستينيات والسبعينيات من تلك السنوات الـ 15 التي قضاها في شنغهاي.

 

 

واللافت أن بالارد يقوم هنا بسرد قصة نجاح "إمبراطورية الشمس" ومسار صناعة الفيلم الذي حققه ستيفن سبيلبرغ استناداً إلى تلك الرواية، وإعادة سرد الأحداث غير الروائية التي تم تناولها بالفعل في روايته الذاتية السابقة "لطف النساء". وينتهي الكتاب بعودة بالارد إلى شنغهاي عام 1991، وبخاتمة قصيرة جداً ومتحركة أعلن فيها أنه مريض بداء عضال.

مقارنة مفيدة

مهما يكن في العدد الأكبر من فصول "معجزات الحياة" يقارن بالارد أحداث حياته كما يتذكرها، والطريقة الأكثر أو أقل إبداعاً التي أخبر بها في روايتي حياته السابقتين "إمبراطورية الشمس" و"لطف النساء"، ويقدم الكتاب تفاصيل مهمة عن سيرة الكاتب الذاتية الحقيقية عن الفترة الحاسمة لطفولته في مدينة شنغهاي الصينية بين عامي 1930 و1946، لكنه لا يغطي بالتفصيل حقباً أخرى مثل السبعينيات والثمانينيات، ومع ذلك فإن عدداً من عناصر "المعجزات" تظهر نية بالارد في تقديمها كسرد حقيقي لحياته. والاختلاف الملحوظ في هذا الكتاب عن كل من "إمبراطورية الشمس" و"لطف النساء" إنما هو وجود والدي بالارد، اللذين تم حذفهما من ذينك العملين السابقين.

من الخيال العلمي إلى الواقعية الخالصة

من ناحية مبدئية، عرف بالارد كواحد من أبرز كتاب أدب الخيال العلمي، كما عرف أدبه في معظم الحالات بأنه أدب ينطلق من الواقع ويصب فيه، على الرغم من خياليته التي لا يشق لها غبار، ومع هذا لا بد من الإشارة إلى أنه حينما دنا الفن السابع من أدب بالارد بعد تردد، لم يدن من أعماله الخيالية العلمية، بل آثر عليها عملين لا علاقة مباشرة لهما بذلك التيار الأدبي الكبير والواسع الانتشار، إذ إنه من ناحية اقتبس رواية "إمبراطورية الشمس"، ومن ناحية ثانية اقتبس واحدة من أقسى وأغرب أعمال الأدب "البوليسي"، وذلك في فيلم حمل عنوان "اصطدام"، بتوقيع المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مهما يكن فإن موضوعنا هنا هو الرواية التي يمكن اعتبارها في حد ذاتها عملاً يحمل قدراً كبيراً من الإبداع حتى وإن كان الموضوع الأساس فيها يبدو للوهلة الأولى معهوداً، الحرب كما يراها صبي صغير عاشها وعايش أهوالها، ثم جلس بعد سنوات طويلة من ذلك الحدث "الذي لا شك في أنه قلب حياته كلها" يتذكر ويكتب هذا الموضوع موجود بكثرة بالطبع لدى الأدباء الذين حاولوه، كما أنهم كثر السينمائيون الذين عالجوه أفلاماً، بحيث إننا نعرف أنه ربما لا يوجد موضوع عن الحرب أكثر تشويقاً وقوة من ذاك الذي يسهب في وصف نظرة الطفل البريئة إليها، إذ هنا وبعيداً من كل منطق أيديولوجي أو بعد منطقي تصبح المجابهة الحقيقية، بين قسوة الحرب وشرورها، وكل حرب قاسية وشريرة طبعاً بصرف النظر عمن يشنها أو ينتصر فيها أو يكون ضحيتها، وبين براءة الطفولة.

الحرب كما عاشها

من الواضح أن بالارد كان مدركاً هذا الأمر حين طفق يكتب حكاية الحرب كما عاشها معطياً بطله الذي بالكاد كان في ذلك الحين تجاوز سن العاشرة، اسم جيم، وجيم هذا كما هو موصوف لنا في الرواية عاش وحيداً الجزء الأكبر من الحرب العالمية الثانية بين كارثة بيرل هاربور، وكارثة إلقاء الأميركيين قنبلتهم النووية الثانية على ناغازاكي بعد هيروشيما.

 

 

كان جيم خلال تلك الفترة منقطعاً عن أهله، أسير الحرب التي فاجأتهم وفاجأته وهو بعيد منهم، وبالتالي أسير الجوع والمرض اللذين كانا يفتتان الجثث المنتشرة من حوله في كل مكان وجد فيه، وهكذا إذاً يتعرف القارئ إلى أهوال تلك الحرب، لا سيما في الشرق الأقصى من آسيا، من خلال نظرات ذلك الصبي – الطفل، وكل شيء يبدأ هنا عشية ضربة بيرل هاربور حيثما يكون والدا جيم قد توجها ليشاركا في حفلة تنكرية وسط بؤس الصين، من نوع تلك الحفلات التي كان الأجانب في المناطق المغلقة لهم في شنغهاي وغيرها يعيشون فيها لاهين غير مدركين الأوضاع من حولهم، أما جيم فإنه إذ تحل الضربة المفاجئة وهو بعيد من أهله في انتظار عودتهما، يجد نفسه متروكاً وسط مطار مجاور، إذ لا تزال بقايا ضربة عسكرية جوية يابانية كانت دمرته عام 1937 رابضة فيه، بيد أن هذا الديكور السوريالي بدلاً من أن يرعب الفتى يفتنه، من دون أن يشعر بأي رعب إزاء منظر الجنود اليابانيين الذين احتلوا المنطقة وتصرفاتهم.

إنه الآن أسيرهم مثل غيره من الأسرى، لكنه يواصل حياته ولهوه وكأن شيئاً لم يكن، إذاً فجيم كما تقدمه لنا الرواية إنما هو صبي يتسم بواقعية مدهشة، غير أن هذه الواقعية لن تمنعه من أن يكون صاحب خيال لا ينضب.

جيم بعد الحرب

المهم أن جيم لاحقاً حين ستنتهي الحرب وحين سيجد نفسه وسط ملعب كبير وقد فك أسره أخيراً، سيشاهد في السماء من حوله لمعاناً كبيراً سيدرك لاحقاً أنه ناجم عن القنبلة النووية التي ألقيت فوق وناغازاكي، إذاً هي حرب تنتهي، وإثر ذلك إذ يرصد جيم هجوم عصابات "تشان كاي تشيك" المدعومة من الأميركيين ضد الشيوعيين يدرك، وقد وصل وعيه إلى ذروته أن تلك ليست سوى بداية حرب جديدة باردة من جهة وأهلية في الصين من جهة ثانية.

ولنشر أخيراً إلى أن هذه التفاصيل كلها وهذا التحليل البديع لشخصية الفتى هو نفسه الأبعاد التي يستعيدها ج. غ. بالارد في سيرته البديعة التي آثر ألا ينهي حياته قبل أن يكتبها، ولو على سبيل توضيح ما التبس في روايتيه السابقتين معنوناً إياها "معجزات الحياة"، وكأنه يعني أن حياته كلها إنما كانت عبارة عن معجزات متتالية لم يتوقف طوال عمره عن التعبير عنها.

المزيد من ثقافة