لحظة استثنائية تشهدها أوكرانيا منذ اندلاع المعارك التي شنتها روسيا ضدها في فبراير (شباط) الماضي، فأجواء الحرب والعنف والدمار دائماً ما يكون لها انعكاس على جميع أشكال الفن والأدب في ما يمكن أن يطلق عليه "إبداع الحرب".
وبالتواكب مع المعارك المستعرة كتب شعراء من أوكرانيا قصائد مستلهمة من اللحظة القاسية التي يمر بها الشعب تحت وقع القصف والانفجارات، معبرين عن مشاعرهم التي تتلامس مع عموم الأوكرانيين المقاومين.
مجموعة من هذه القصائد تمت ترجمتها وجمعها في كتاب بعنوان "قصائد ولوحات أوكرانية من خطوط النار"، ويعد الترجمة العربية الأولى للحركة الشعرية المستوحاة من الحرب الحالية.
قصائد بسرعة الرصاص
يضم الكتاب الصادر عن دار "ميريت" القاهرية 13 قصيدة لمجموعة من الشعراء من أماكن متفرقة من أوكرانيا، وإلى جانب القصائد يقدم لوحات تشكيلية رسمت في الفترة نفسها، مستوحاة من أحداث الحرب المشتعلة في البلاد، ليمثل الكتاب للقارئ العربي نافذة على الفن والشعر الأوكراني خلال المعارك الأخيرة.
جاء في مقدمة الكتاب أن "هذه القصائد كتبت على عجل تترى فيها السطور سريعة ولاهثة، ربما في سرعة الرصاص الذي قد يخترق جمجمة كاتبها أو كاتبتها بين لحظة وأخرى، قصائد لا تعبأ إلا بما تعانيه ولا تعني إلا ما تقوله، فتقوله دفعة واحدة من دون أن تشغل بالها بجماليات في لحظة منزوعة الجماليات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن القصائد المترجمة وتأثير أجواء الحرب على الشعر، يقول الناقد والمترجم سمير مندي لـ "اندبندنت عربية" إن "العلاقة بين الفنون والحرب معقدة لكن غنية، فدائماً ما نلاحظ ظهور آداب مرتبطة بصدمة الحرب وأحداث العنف والقتل والتشريد، وتنتج منها أدبيات خاصة يغلب عليها طابع التشاؤم والعبث مثل ما حدث في الحال الأخيرة الخاصة بالحرب على أوكرانيا، وهذا الكتاب حصيلة قصائد كتبت في الأسبوع الأول على اندلاع المعارك، إذ ما زالت الصدمة مسيطرة على الجميع والقصائد يطغى عليها التعبير عن الفاجعة لشعراء في أماكن متفرقة من أوكرانيا، بالتواكب مع حال الفوضى التي عمت البلاد وهرب كثير من الناس من منازلهم في المناطق التي استهدفها القصف".
ويضيف مندي، "عبر هؤلاء الشعراء عن حال إنسانية متكاملة ولم يكتفوا بذلك بل امتدت أشعارهم إلى التعبير عن الطبيعة وتأثرها بالدمار الحاصل والحيوانات التي تركها أصحابها أثناء الفرار من منازلهم، وكل ما طاوله التأثير القاسي للقتال والقصف الذي شهدته المدن الأوكرانية المختلفة".
باتجاه المشترك الإنساني
"تارة نقوم بغارة جوية
وتارة أخرى نضرب بصاروخ
لقد عرفتني، أليس كذلك؟
أنا قابيل، أخوك الأكبر
أوه.. ليس لديك ملاك حارس ولدينا طائرات
نحن نسحقكم بأرشيفاتنا السرية
بشاشاتنا التلفزيونية".
الكلمات السابقة للشاعر بوريس خيرسونسكي يصور فيها تسلط الإنسان على أخيه الإنسان في إطار الحرب الأخيرة، ليمثل حالاً من الفن الممزوج بالألم تقدمه الثقافة الأوكرانية للعالم الذي ينتظر نهاية الحرب.
وعن الأسباب التي دفعت المترجم لتقديم هذا العمل للقارئ العربي يقول، "أقمت في أوكرانيا لسنوات بحكم عملي في التدريس بإحدى الجامعات هناك، واقتربت من الناس والثقافة واللغة، وأرى أنه بلد جميل ولدينا كثير من المشتركات معه، وهي دولة ليست تابعة للثقافة الغربية بكل مفاهيمها ولا للثقافة الشرقية، ويمكن القول إنها تمثل منطقة وسطاً بين الاثنين، فالشعب الأوكراني محافظ نسبياً لدى مقارنته بالغرب، لكنه يسعى إلى فرض وجوده وثقافته، وفي الوقت ذاته لديه تراث وثقافة شديدة التميز على جميع المستويات، ونحن نقف على الأرض المشتركة نفسها في كثير من الجوانب".
ويضيف، "في الوقت ذاته فإن أوكرانيا ليس لها تاريخ استعماري مع المنطقة العربية، وبالتالي ليست هناك مواقف سابقة معها ناتجة من أحداث سياسية كبرى، والشائع عند عموم الناس في العالم العربي اقتران أوكرانيا بفكرة الاتحاد السوفياتي السابق وليس بكونها دولة مستقلة ذات سيادة، وكذا بأزمة المفاعل النووي عام 1986.
والظرف الحالي المتعلق بالحرب وعلى الرغم من قسوته إلا أنه يعد فرصة لتعريف القارئ العربي بجوانب من الثقافة الأوكرانية، ويمكن اعتبار أن الأدب في هذه الحال السبيل الأبسط والأفضل في هذا الصدد".
الدبابات بدلاً من الزهور
"يا أمي من أين تأتي الحرب؟
هل الحرب كارثة طبيعية؟
أم أننا نستحقها بسبب شيء ما؟"
جزء من قصيدة جاءت على لسان طفل أوكراني لا يستوعب مفهوم الحرب، وهي تعكس حالاً تمس الشعب الذي وجد أنه لا يستطيع الإجابة عن هذه التساؤلات.
وبشكل عام جمعت القصائد بين حالات مختلفة وأكثر من منظور للوجه القبيح للحرب حتى في تأثيرها على الأماكن والمواقع التاريخية المختلفة، وتقول الشاعرة أوكسانا هادجي
"أريد أن أغطي بجسدي كل مبنى. بجسدي أريد أن أغطي كل لوحة من لوحات بريماتشينكو. أغطي كل من اضطر لترك منزله"، في إشارة إلى متحف "بريماتشينكو" الذي دمره القصف الروسي، وهو ما اعتبر استهدافاً للتراث الثقافي للبلاد.
وعن أبرز القصائد التي قدمها الشعراء يقول مندي، "من وجهة نظري هما قصيدتان تقعان على طرفي نقيض، الأولي للشاعر بوريس خيرسونسكي بعنوان ’الدبابات بدلاً من الزهور‘ وهي قصيدة عنيفة للغاية يصور فيها الشاعر روسيا وكأنها ذكر يعتدي على أوكرانيا باعتبارها أنثي في ميدان الساحة الحمراء، والقصيدة مؤلمة وقاسية، فأوكرانيا كدولة أضعف من روسيا التي اعتدت عليها، والشاعر صور الموقف بشكل مختصر لكنه شديد القسوة، وانتقل منه إلى فكرة عامة هي تسلط الإنسان على الإنسان عبر العصور".
ويضيف، "القصيدة الثانية للشاعرة كاترينا ميخاليتسينا بعنوان ’حصة التعبير‘ وتمثل حواراً بين طفل وأمه، إذ يطرح الطفل أسئلة حول ماذا يحدث؟ ولماذا قامت الحرب؟ ويستخدم كلمات ومفردات غير مناسبة لسنة وطبيعته، وتصور القصيدة حال الحرب من منظور طفل لا يستطيع استيعاب الموقف، وفي نهايتها يراقب الطفل من النافذة زهوراً تنمو في الخارج، إشارة إلى قدوم الربيع، فالحياة قطعاً لا بد من أن تستمر، والإنسان منوط به في الأصل تعمير الأرض وليس خرابها".
الموت في لوحات
وإضافة إلى الشعر تم تزويد الكتاب بمجموعة من اللوحات التشكيلية التي رسمت في التوقيت ذاته لنطالع تجربة فنية متكاملة أدبياً وبصرياً عن واقع الفن الذي تم إبداعه بالتواكب مع بداية الحرب، ويشير مندي إلى أن "اللوحات للفنانة الأوكرانية الشابة كسينيا داتسيوك، وبدأت رسمها مع اندلاع المعارك الأولى، وهي مستوحاة من أجواء شديدة التوتر والقلق، وإضافتها جعلت الكتاب يمثل رؤية فنية متكاملة لجانب من المشهد الثقافي إبان الحرب، وقد أضفت الرسومات رؤية بصرية إلى جانب الصور الشعرية، ليعكس الكتاب تجربة فنية متكاملة للواقع التاريخي في هذه اللحظة الاستثنائية من منظور الفنانين في أوكرانيا".