Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تتحقق "العدالة الانتقالية" في السودان؟

تشتد الحاجة إلى تطبيقها لضمان إبراء الجروح وتعويض الضحايا لما ارتكب بحقهم من تجاوزات

شكلت السلطة الانتقالية في السودان عدداً من لجان التحقيق في الانتهاكات التي وقعت منذ قيام الثورة ولم تعلن عن نتائجها بعد (اندبندنت عربية - حسن حامد)

خرج مصطلح "العدالة الانتقالية" من الإضبارات القانونية إلى المجال السياسي السوداني بعد اندلاع ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وامتد المعنى من السياق العام للعدالة، بما فيه إرساء دعائم الأمن والسلم في العالم، إلى الدور المنوط بها في تحقيق العدل المجتمعي بالمحاسبة وفق ترتيبات قانونية واجتماعية ومعنوية ومادية، وذلك لإزالة رواسب الغبن وامتصاص الغضب جراء تأخر تحقيقها. وفي ظل ارتباط مطالبات الضحايا أو ذويهم في بدايات الفترات الانتقالية، بالقصاص أو التعويض كمرحلة أولى يقوم عليها تقويم الجنايات المرتكبة من النظام السابق أو من جهات لم يتم التوصل إليها بسبب ملابسات سقوط نظام وقيام آخر على أنقاضه، فإن الهدف في هذه الحالة يكون ترسيخ قاعدة عامة للاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي على الحقوق.
ومع التغيير السياسي الذي شمل تغييراً في القوانين والتشريعات، وتأخر إنجاز العدالة لقضايا أغلبها كانت في خضم هذا التغيير، فضلاً عن القضايا السابقة المتعلقة بالحروب والنزاعات مثل حرب دارفور، أثير تساؤل عن مدى جدوى القوانين الموجودة في تحقيق "العدالة الانتقالية"، علماً بأن السلطة الانتقالية شكلت عدداً من لجان التحقيق في الانتهاكات التي وقعت منذ قيام الثورة أبرزها "لجنة فض اعتصام القيادة العامة"، للتحقيق في تلك الأحداث التي وقعت في 3 يونيو (حزيران) 2019، ولم تعلن نتائجها بعد.

الإصلاح العدلي

وقال عمر سيد أحمد، عضو اللجنة القانونية لـ"قوى إعلان الحرية والتغيير"، إن "العدالة الانتقالية وتحولها من أدبيات ثورة ديسمبر 2018 (حرية، سلام وعدالة) إلى واحدة من الآليات التي ترسخ لمبدأ عدم الإفلات من العقاب، تقوم على هذا المبدأ العالمي وفقاً لتجارب عدد من الدول في مجال الانتهاكات ضد المواطنين، والقتل الذي يتعرضون له والتعذيب والاغتصاب والإبادة الجماعية. ونتيجةً لتجارب هذه الشعوب تمخضت عنها فكرة العدالة الانتقالية للقصاص للضحايا من التجارب المريرة، وفي الوقت ذاته لاستكمال مسيرة التقدم نحو بناء الدولة المدنية".
وأوضح سيد أحمد أن "مفهوم العدالة الانتقالية في السودان برز منذ فترة طويلة مع نشاط المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان في ما يتعلق بزوال النظم الاستبدادية والتقدم نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية. وبناءً عليه بدأ يترسخ هذا المفهوم، وعندما جاءت ثورة ديسمبر كان أحد شعاراتها للقصاص لضحايا الانتهاكات والتظاهرات وكذلك الانتهاكات في مناطق النزاع في السودان، ثم برز هذا المفهوم، وكان جزءاً أساسياً من الوثيقة الدستورية ومن مهام الثورة الأساسية".
ونوه عضو اللجنة القانونية لـ"قوى إعلان الحرية والتغيير" إلى أنه "نظراً إلى ظروف كثيرة معلومة مر بها السودان وحالة عدم الاستقرار في الفترة الانتقالية، لم تكتمل مهام ثورة ديسمبر، ومن ضمنها مسألة العدالة الانتقالية، فقد أسهم الوضع السياسي في عدم تحققها، وبناءً عليه، طُرح مشروع قانون مفوضية العدالة الانتقالية وهي إحدى الآليات لتحقيق العدالة الانتقالية وأجيز مشروع القانون من وزارة العدل، ولكن نسبة للظروف السياسية لم تكن المفوضية وفقاً للمهام المطروحة في الوثيقة الدستورية".
واعتبر سيد أحمد أن "إجراءات الفريق عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، كانت لقطع الطريق أمام مسار التحول الديمقراطي، ومن ضمنها عدم استكمال مهام ثورة ديسمبر التي رفعت مطالب محددة نصت عليها الوثيقة الدستورية من ضمنها تكوين عدد من المفوضيات. وإضافة إلى مفوضية العدالة الانتقالية هناك مفوضية المنظومة الحقوقية والعدلية، لإصلاح الأجهزة الحقوقية والعدلية، وهما أهم مفوضيتين لارتباطهما بالإصلاح العدلي والقانوني في السودان".


وضع ضبابي

وأكد سيد أحمد أن "العدالة الانتقالية في السودان مرتبطة بالوضع السياسي واستقراره واستكمال مهام ثورة ديسمبر خلال الفترة الانتقالية". أما بالنسبة لآلياتها فذكر سيد أحمد أنه "وفق ما نصت عليه الوثيقة الدستورية، تشمل الآليات تكوين مفوضية للعدالة الانتقالية، وإيجاد قانون خاص بمبدأ العدالة الانتقالية وإجراءاتها بعيداً من أي تسوية لن تحقق نتائج ملموسة، ما لم تتأسس على مساءلة مرتكبي الجرائم ومعاقبتهم".
وأشار إلى أنه "في بلد مثل السودان، تعرض مواطنوه لعديد من الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وغيرها في مناطق النزاع، تشتد الحاجة إلى تطبيق العدالة الانتقالية لضمان إبراء الجروح وتعويض الضحايا لما ارتكب بحقهم من تجاوزات وانتهاكات جسيمة". وتابع "لن يكون هناك من ضامن لتحقيق ذلك سوى تأسيس حكم مدني وقضاء مستقل، لأن العدالة نظام متكامل لا تقوم إلا في ظل نظام ديمقراطي وقضاء ونيابة مستقلة، وبغير ذلك لا يمكن أن تتحقق العدالة الانتقالية ولن تتم محاسبة كل من أجرم بحق الضحايا، فالوضع السياسي الراهن ضبابي وليس هناك من صورة واضحة لما يمكن أن تؤول إليه الأمور".

قضايا متشعبة

أما المحامي خالد عبدالنبي، فرأى أن "العدالة الانتقالية كمفهوم عام يمكن تحققها بمجموعة تدابير قضائية وغير قضائية تعالج انتهاكات جسيمة حدثت من قبل أنظمة سابقة، مثل ما حدث في جنوب أفريقيا ورواندا، وهي على عكس ما يعتقد البعض بأنها عفو من أهل الضحايا عن الجرائم المرتكبة في حق أفراد عائلاتهم، ولكنها ملاحقات بأن تحقيق العدالة يضمن الانتقال بالبلاد والشعب والعدالة نفسها من مرحلة إلى أخرى، بجبر الضرر ورد المظالم، وهذه تكون عن طريق المحاكم على أساس عدم العودة إلى السابق وطي الصفحة نهائياً".
وأوضح عبدالنبي أن "العدالة الانتقالية أصبحت في رواندا نموذجاً ينادي به كثيرون في أفريقيا ولكن عندما نحاول تطبيقه في السودان نجد أن هناك فرقاً لأن القضية في رواندا كانت بين قبيلتي الهوتو والتوتسي. أما في السودان فهي قضايا متشعبة، ما يصعب تحققها، وذلك لأسباب أبرزها أن القضايا القائمة التي تتطلب العدالة هي بين دولة ومواطنين مثل قضية دارفور، فالجرم وقع من قوات نظامية على المواطنين، وكذلك قضية قتل المدنيين في بورتسودان، وقضية طلاب منطقة العيلفون، وقتلى الثورة منذ ديسمبر حتى أحداث فض الاعتصام، وما بعدها، كما أن هناك حالة أخرى هي النزاعات المسلحة التي يكون طرفاها حركات مسلحة ضد بعضها البعض".

وأشار عبدالنبي إلى أن "القوانين الموجودة حالياً في السودان كافية لتحقيق العدالة بما فيها النهب والاغتصاب وحقوق الأطفال وقوانين حيازة الأسلحة والإرهاب، حتى التعديل الذي طرأ على القانون الجنائي في المادة 186، الخاص بالجرائم ضد الإنسانية التي تنتج عن هجوم واسع النطاق، تم تطبيقه من قبل النظام السابق لأنه رأى فيه مخرجاً من ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية، وهو بصورة ما، ضمن الحماية للرئيس السابق عمر البشير باعتبار المبدأ القانوني الذي يقول إن القانون لا يطبق بأثر رجعي، وبخاصة في ما يتعلق بمشكلات دارفور والتي اتهم فيها البشير ومجموعته، ولكنه طبق على أفراد من جهاز الأمن".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


حاضر غير مبشر

وشرح المحامي خالد عبدالنبي أنه "على الرغم من وجود القوانين في السودان، فإنها تحيط بها تحديات عدة أهمها عدم استقلالية الأجهزة العدلية بعموديها الرئيسين، السلطة القضائية والنيابة، فمجلس السيادة الآن، وهو مجلس غير شرعي، هو من عين رئيس القضاء والنائب العام، وهو من يقبل استقالاتهما، ويمكن أن يقيلهما أيضاً، وهو من كلف النائب العام إنشاء لجان التحقيق في الجرائم المرتكبة". وأضاف أن "عدم استقلالية الجهازين العدليين نتج عنه تأخر المحاكمات، فهناك جرائم لم تقم النيابة بدورها فيها وهي المسؤولة مباشرةً عن حفظ أمن المجتمع، ويفترض أن تحقق في أي جريمة تأخذ علماً بوقوعها حتى لو لم يتم الإبلاغ عنها، مثل ضرب الرصاص والقتل وغيره".
واعتبر عبدالنبي أن "حاضر العدالة الانتقالية لا يبشر بالخير لأنه ليس هناك وصول لسدرة منتهى العدالة، وليس هناك ما يطمئن المواطنين، وأحياناً عندما تتأخر العدالة ينتشر الغبن والكراهية بين الناس ويمكن أن تتحول إلى ثارات قبلية وصراعات مع الدولة نفسها".
وواصل عبدالنبي "هناك قضايا صدرت فيها أحكام منذ قيام الثورة، وتنتظر تشكيل المحكمة الدستورية، وهناك قضايا لم يبت فيها على رأسها قضية انقلاب عام 1989 فمكثت نحو سنتين في مرحلة سماع التحري ولا تزال في مرحلتها الأولى، وذلك يعود إلى ضعف الأجهزة العدلية، ولكن يحمد للهيئة القضائية إصدار بعض الأحكام ضد البشير في التعامل بالنقد الأجنبي والثراء الحرام، وكذلك صدور أحكام ضد قتلة الشهيد أحمد الخير، وشهداء مدينة الأبيض، وشهداء مدينة عطبرة".
وأكد أنه "يقع على عاتق النيابة العامة دور كبير ومسؤولية تاريخية ودينية واجتماعية من المفترض أن تقوم بها، فلو كانت موجودة في أي مسيرة فهي من تعطي الأمر بإطلاق النار إذا استدعى الأمر ذلك، وهي التي تحدد توقيته ودواعيه وكيفيته إذا كان إطلاق نار في الهواء أو تحت الأرجل وغيره، أو في حالة حق الدفاع الشرعي، وإذا  كانت موجودة لكان بإمكانها الكشف عن الطرف الثالث الذي يقال إنه ارتكب هذه الجرائم".


آليات التطبيق

أما رفعت الميرغني، منسق برنامج جنيف لحقوق الإنسان، فاعتبر أن "القوانين السودانية، لا سيما القانون الجنائي لعام 1991 يخلو من كل ما يتعلق بالجرائم الأشد خطراً مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وإن كانت قد أدخلت مع التعديل في عام 2009، والأمر في حقيقته أن القوانين لا يمكن أن تسري بأثر رجعي في مواجهة جرائم يشتبه في ارتكابها في تواريخ سابقة لدخول القانون حيز التنفيذ".
واقترح الميرغني ثلاث آليات لتطبيق العدالة الانتقالية في السودان وهي: "الآلية الأولى، تفعيل نص المادة 21 من الدستور الانتقالي التي نصت على وجوب أن تبتدر الدولة عملية شاملة للمصالحة الوطنية وتضميد الجراح من أجل تحقيق التوافق الوطني والتعايش السلمي. والآلية الثانية هي المجتمع المدني، خصوصاً أنه أصبح أكثر إيماناً بآلية العدالة الانتقالية، وظل يعمل خلال الفترة الماضية على ترسيخ مفهومها والتثقيف بها في السودان. أما الآلية الثالثة فهي القوى السياسية السودانية الرئيسة التي تنادي منذ فترة بإعمال آلية العدالة الانتقالية للخروج من المأزق الماثل في السودان".

ويذكر أن خبير الأمم المتحدة المستقل المعني بحالة حقوق الإنسان في السودان، أريستيد نونوسي، رفع تقريراً عند نهاية فترته في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 إلى مجلس حقوق الإنسان المنعقد في جنيف، ويغطي الفترة الممتدة بين 27 سبتمبر (أيلول) 2019 و16 يوليو (تموز) 2020، جاء فيه أن "الحكومة السودانية اتخذت بعض الخطوات لضمان تحقيق العدالة للضحايا، لكن استمراريتها تتطلب دعماً دولياً مستمراً وانخراطاً في البلاد، كما يجب أن يتضمن الدعم استراتيجيات واضحة لا لبس فيها، ورؤى متكاملة تسهم في توجيه السودان خلال الفترة الانتقالية التي تنطوي على كثير من التحديات". وحض في تقريره الحكومة السودانية على "تقديم الدعم اللازم للجنة التحقيق الوطنية المستقلة لتتمكن من بذل قصارى جهدها لتحقيق العدالة والتعويض على الضحايا، ومحاسبة جميع المسؤولين من دون استثناء، وفقاً لقواعد الإجراءات القانونية الواجبة وبما يتماشى مع معايير القانون الدولي، وإعلان النتائج التي ستتوصل إليها اللجنة".

المزيد من تقارير