Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أرويو الحاضر في معرض "الفن من أجل فلسطين" عام 1978

اتخذ من الرسم سلاحاً للنضال السياسي وحكايات المنفى طغت على معظم لوحاته

طغى المنفى وحكاياته ومواضيعه على معظم لوحات إدواردو أرويو (موقع الفنان)

في هذا الزمن الذي باتت فيه الذاكرة قصيرة جداً، وبات فيه الفن شأناً سياحياً، والنضال السياسي مستهجناً، من المؤكد أن قلة من الناس في بيروت وغير بيروت، لا تزال تتذكر ذلك المعرض الجماعي للفنون العالمية الذي عُقد في بيروت في ربيع عام 1978 تحت عنوان "الفن التشكيلي العالمي من أجل فلسطين"، وكان يفترض به أن يشكل نواة متحف عالمي فريد من نوعه للفن التشكيلي العالمي.

لكن الفكرة نفسها ذهبت أدراج الريح، وبقي من المعرض فتات ذكريات غامضة، لكن ذكرى أسماء عديدة كان من الصعب أن يدرك الجمهور العادي الذي أمَّ المعرض أن أصحابها يشكّلون نخبة الرسامين الكبار في العالم حينها، فتمكّنت فلسطين من جمعهم. بعضهم عبر حضور مباشر مع لوحاتهم، وبعضهم عبر إرسال تلك اللوحات، وآخرون من الراحلين عبر استعارة للوحاتهم. وكانت هناك أعمال ماكس إرنست وماتا وأندريه ماسون وخوان ميرو وفازاريللي وتابييس وفرومانجيه وجاك مونوري، واللائحة تطول، وتبدو اليوم مدهشة.

ومع ذلك، كان بين الحاضرين بشكل أو بآخر فنان إسباني بالكاد يعرف عنه جمهور الفن شيئاً خارج وطنه إسبانيا، ووطنه بالتبني فرنسا، هو الذي كان في ذلك العام بالذات قد تخلّص من منفاه، وعاد إلى وطنه، وقد تخلص هذا من ديكتاتورية فرانكو التي أرغمت الرسام على العيش في المنفى أكثر سنوات حياته. كان اسم الرسام إدواردو أرويو. وهو اسم لن يُنسى بعد ذلك عندنا، إذ إن هذا الرسام بدا في فنه، ولكن في نضاله السياسي وفي منفاه أيضاً وكأنه فنان فلسطيني.

تطلعات إنسانية

في ذلك الحين كان أرويو قد تجاوز الأربعين عاماً من عمره. ولقد كمنت أهميته يومها في تعبيره على قدرة الفنان المناضل على أن يكون حديثاً، بل مغرقاً في حداثته من دون اتباع تعليمات الجمود الحزبي والعقائدي، كما أن معظم أعماله، التي قدمت، أو على الأقل حضر ذكرها في المعرض المذكور، أو التي راحت تكتشف من خلال الكتب العديدة الصادرة عنه، لا سيما في فرنسا، كانت عن المنفى ونضالاته ضد نظام فرانكو.

الحقيقة أن مكتشفيه في ذلك الحين اكتشفوا طغيان المنفى وحكاياته ومواضيعه على معظم لوحاته، بل اكتشفوا ما هو أعمق من ذلك: كم أن العودة من المنفى شكلت من وجهة نظر ما، خيبة أمل لتطلعات أرويو السياسية، ولكن الإنسانية أيضاً. ولقد تجلى ذلك على أية حال في لوحات عديدة للفنان لم تعرض في المناسبة البيروتية، بل إنها لم تكن منجزة يوم كانت تلك المناسبة.

ولنقل أكثر من هذا إن معظم اللوحات التي رسمها أرويو خلال تلك السنوات ظلت مرتبطة بسنوات المنفى، لكن الرسام عرف في الوقت نفسه كيف يشتغل على لوحات تنهل من تاريخ الفن التشكيلي نفسه كأن يرسم نفسه ابناً لبيلاسكويث، أو يشتغل على لوحة ضخمة يستعيد فيها على طريقته لوحة "دورية الليل" لرمبراندت.

في عالم الفلسفة

ولعل في إمكاننا في هذا السياق أن نشير إلى فصل بالغ الأهمية في كتاب الباحثة الإنجليزية سارا ويلسون الصادر عام 2010 بعنوان "العالم البصري للنظرية الفرنسية" تحلل فيه بصورة مبتكرة، العلاقات التي قامت خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين بين عدد من الفلاسفة الفرنسيين (من أمثال فوكو وليوتار ولاكان ودريدا وحتى آلثوسير... إلخ)، ومبدعين في مجال الفن التشكيلي (كمونوري وفرومانجيه وآدامي وإيرو وكووكو، وغيرهم).

واللافت أن الباحثة افتتحت الكتاب بفصل عنونته "الداتشا، الرسم كبيان فكري"، انطلقت فيه من لوحة تعتبر شهيرة في هذا السياق، هي "الداتشا" التي تصور أربعة من الفلاسفة الفرنسيين وهم يقيمون في ذلك الكوخ السوفياتي الذي كان يستضاف فيه، في الريف الروسي، إما مفكرون أجانب تدعوهم السلطات أو ملحقاتها، وإما مثقفون روس مغضوب عليهم تريد السلطات على سبيل معاقبتهم، الاكتفاء بإبعادهم عن أماكن تحركهم المعتادة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وما يهمنا هنا من هذه اللوحة الضخمة التي يبلغ عرضها 8 أمتار، وارتفاعها أربعة، أن أرويو كان هو صاحب فكرتها ومصممها الرئيس فيما نفذها رفاقه آيو وبيراس وفانتي، وغيرهم، واعتبرت بيان احتجاج سياسي ضد "الفلسفة الرسمية"، علماً بأن اسم أرويو وذكر أعماله يعودان مراراً وتكراراً على طول تلك الدراسة الفريدة من نوعها.

بشكل إجمالي، كان إدواردو أرويو خلال الستينيات والسبعينيات، وصولاً إلى ما بعد سنوات المنفى، واحداً من أشهر الفنانين، من دون أن يتخلى عن التجديدات الجمالية والأبعاد التلوينية، ودون أن يبتعد عن الاهتمام بوجوه البشر، سواء كانوا أناساً عاديين، أو من مشاهير التاريخ، وصولاً إلى تشرشل الذي رسمه أرويو في عدة لوحات، لعل أشهرها تلك التي يصوره فيها جالساً بكل هدوء يمارس واحدة من هواياته الأساسية في حياته، الرسم، هذا من دون أن ننسى عشرات الوجوه التي رسمها من دون ملامح كنوع من التعميم وتغييب الهوية، حتى وإن جعل لها في عناوين اللوحات أسماء أناس معروفين. ففي نهاية الأمر ليس ثمة مفر في لوحات أرويو من تحديد عناوين للوحات، لكن لا لغايات شاعرية أو تفسيرية، بل كجزء من موضوع اللوحة. وفي هذا السياق تبرز لوحتا "المنفى" الشهيرتان اللتان رسمهما بعد انتهاء زمن منفاه، "العودة من المنفى" (1977)، و"يا لسعادة من مثل أوليس قد قام بسفر طويل" (1977 أيضاً).

مسار حياة صاخب

بقي أن نذكر أن إدواردو أرويو، المولود عام 1937 في مدريد ليرحل فيها بعد 81 سنة عام 2018، كان رساماً ونقاشاً ومصمماً للطباعة الحجرية ونحاتاً ومصمماً لديكورات المسرح. أما في الفن التشكيلي الذي كان مجال نشاطه الرئيس على أية حال فكان أرويو يعتبر ممثلاً رئيساً للرسم السردي (التصويري)، ومن أقطاب التشكيل الإسباني الجديد، وهو الفن الذي تطور في أوروبا في وقت مبكر في الستينيات، وتتناول لوحاته بشكل خاص وكما أشرنا أعلاه، موضوع المنفى، والاغتيالات السياسية، وضروب التواطؤ التي استفاد منها نظام فرانكو، والصراعات التي أخفت وراءها الواقع الفاشي لإسبانيا والقواعد الأميركية التي دعمت إفلات فرانكو من العقاب.

واللافت أن إدواردو أرويو، الذي سيقول دائماً إنه مارس الرسم من منطلق عاطفي ذاتي منذ عام 1949، درس الصحافة في مدريد (1956 - 1957)، ثم بدأ العمل ككاتب مستقل ورسام كاريكاتير إخباري. وفي عام 1958 ذهب إلى باريس، هرباً من الفاشية المستشرية في بلاده في عهد فرانكو، ما اضطره إلى التخلي عن عمله الصحافي، من دون التخلي عن الكتابة، مهنته الأولى. وهو كي يؤمن عيشه في باريس، راح يمارس عديداً من المهن الغريبة لمجرد البقاء على قيد الحياة، فيرسم صوراً على شُرفات المقاهي أو يعيد إنتاج روائع متحف برادو بالطباشير على الرصيف.

وعي ربيع 1968 السياسي

ولقد ساعدته إقامته سنوات طويلة منفياً في باريس، وبحسب ما سيصرح لاحقاً، على "إدراك الواقع الاجتماعي، ما عنى بتعبيره أنه حينها أصبح مسيساً". وهو خلال تلك المرحلة راح يلتقي الرسامين السورياليين الإسبان الشباب والفنانين الجمهوريين القدامى، ثم التقى أنطونيو ريكالكاتي. وسيقوم الفنانان بإثارة ضجة سياسية داخل "صالون الفن الشاب" مع رفيقهما الرسام الفرني جيل آيو فشكل الثلاثة معاً فريقاً صاخباً متسائلين بصوت واحد عن دور الفنان في المجتمع، وعن الرسم كسلاح للنضال.

وأقيم لأرويو معرضه الشخصي الأول في عام 1961. وبعده شارك عام 1965 في حركة التصوير السردي مع جيل إيو وأنطونيو ريكالكاتي. ولسوف يكون انطلاقاً من تلك المنطلقات، ودائماً إلى جانب هذين الرفيقين وغيرهما، ناشطاً في ربيع "مايو 68"، وبات أكثر من أي وقت مضى متشدداً ضد سياسة فرانكو.ولقد ألقي القبض عليه في عام 1974 على الأراضي الإسبانية، حيث طرد منها. وكانت النتيجة هذه المرة أن حصل على صفة لاجئ سياسي في فرنسا. بعد وفاة فرانكو، عاد إلى إسبانيا التي منحته اعترافاً رسمياً. أما هو فإنه واصل منذ عودته إلى وطنه رفض كل "جماليات الفن" التي كان يعتبرها "بورجوازية"، وراح يدافع عن الطبيعة المثالية للعمل الفني، وقوة حضور الصورة في عمله، كما راح يدافع عن ديمقراطية الرسم حتى وفاته عام 2018.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة