Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مركز يلتسين" محور تصفية حسابات التسعينيات في روسيا

بوتين يسمح بفتح ملفات الماضي للتحذير من توجهات انفصالية تحت شعار الدفاع عن الرئيس السابق

بوريس يلتسين محيياً الجماهير إبان استلامه الحكم في روسيا (موقع مركز يلتسين)

ثمة ما يشبه الاجماع من جانب روسيا شعباً وحكومة، كما يُقال، تجاه إدانة تسعينيات القرن الماضي بكل ما حفلت به من ممارسات وتجاوزات، بل ومنها ما يرقى إلى حد الخيانة والتفريط في مصالح الوطن، وذلك ما اعترف به كثير من كبار رموز الدولة وفي مقدمهم الرئيس فلاديمير بوتين الذي سبق وأشار خلال أكثر من مناسبة إلى ما شهدته تسعينيات القرن الماضي من "انهيار للمجتمع بكل مجالاته الاجتماعية والاقتصادية، بل والمؤسسات الصناعية العسكرية والقوات المسلحة، فضلاً عن انزلاق البلاد إلى الحروب الأهلية والحركات الانفصالية، فباتت على شفا الانهيار"، ولذا فقد كان غريباً أن تحتفل روسيا وقيادتها بإنشاء ما يسمى اليوم بـ "مركز يلتسين" الذي توليه الدولة والحكومة مكانة خاصة بعد أن قدمت لإنشائه في يكاتيرينبورغ، موطن الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين، كل ما يكفل له التميز ليكون رمزاً متفرداً لذلك التاريخ الذي ينعته كثيرون بنعوت منها "المخجل" و"المقيت" و"كريه الرائحة".

وثائق وذكريات
افتتح المركز في نوفمبر (تشرين الأول) 2015 ويضم متحفاً يحمل اسم بوريس يلتسين بكل ما يحتويه من رموز ووثائق وذكريات إلى جانب قاعات للسينما والمعارض والمؤتمرات، ومركزاً للوثائق ومكتبة عامة ومقار لمختلف المنظمات الاجتماعية، بل وللمتاجر أيضاً، والغريب أن المركز يتبع مباشرة حتى اليوم إدارة الكرملين ويترأس مجلس أمنائه رئيس ديوان الكرملين أنطون فاينو، كما تقدم بمبادرة إنشائه "صندوق" يلتسين الذي تأسس عام 2000 وتترأسه الابنة الصغرى للرئيس الأسبق تاتينا يوماشيفا، وهو ما تقرر في عام 2008 بموجب القانون الاتحادي رقم (68) الصادر في الـ 13 من مايو (أيار) 2008، بوصفه مركزاً "للتراث التاريخي للرؤساء السابقين لروسيا الاتحادية"، وذلك ما يفسر مشاركة الرئيس الحالي فلاديمير بوتين والسابق دميتري ميدفيديف في افتتاح هذا المركز وسط ضجة واحتفالات شعبية تجاوزت المألوف، وقد بلغت مصروفات "مركز يلتسين" خلال عامه الأول ما يقرب من سبعة مليارات روبل (128 مليون دولار)، فيما يحظى بتمويل رسمي من جانب الدولة يقدر بـ 146 مليون روبل (3 ملايين دولار تقريباً)، مما يشير إلى الفارق الشاسع بين الرقمين، وهو ما تؤكده "الاعترافات" بحصول "المركز" على معونات وتمويل خارجي، مما قد يعني مشروعية الدعوة إلى الالتزام بضرورة إخضاعه للقوانين الروسية التي تسري على منظمات المجتمع المدني، ومنها اعتباره "عميلاً" أو "وكيلاً أجنبياً" مثل مؤسسات أخرى كثيرة في روسيا ومنها "صندوق غورباتشوف للدراسات السياسية والاستراتيجية" وعدد من المؤسسات الإعلامية المحلية والأجنبية.
ومن اللافت في صدد إنشاء "مركز يلتسين" أنه ومنذ ظهوره عام 2018 وبدء نشاطه في منطقة الأورال، يكاتيرينبورغ، في موقع يطل فيه على ذلك المكان الذي جرى فيه إعدام القيصر نيكولاي الثاني وأسرته، كان يلتسين من موقعه كأمين أول للحزب الشيوعي في يكاتيرينبورغ نفذ أوامر إزالة "بيت إيباتيف" وهو المبنى الذي شهد جريمة تصفية العائلة الإمبراطورية للتخلص من رموز تلك الجريمة، فصار محط انتقادات وإدانة كثير من أبرز نجوم المجتمع الروسي، في وقت طالما تعرض فيه لتظاهرات ممثلي الأحزاب والحركات السياسية المعارضة التي راحت تحتشد بشكل دوري على مقربة منه، لتندد بنشاطه الذي يتسق في كثير من جوانبه مع توجيهات وتوجهات الدوائر الغربية المعادية لروسيا، وتطالب بإغلاقه.

القيم الغربية
وكان المخرج السينمائي العالمي نيكيتا ميخالكوف أول من أخذ على عاتقه فضح نشاط هذا المركز وكثير من أهدافه الحقيقية التي تمجد كثيراً من القيم والممارسات الغربية التي يرى أنها "دخيلة" على روسيا وشعوبها متعددة الأعراق والقوميات والأديان، كما أعرب ميخالكوف عن إدانته لعدم إدراج "مركز يلتسين" ضمن قوائم المراكز والمؤسسات التي أدرجتها روسيا ضمن المنظمات التي يجب تسجيلها لدى وزارة العدل، بما يتبع ذلك من ضرورة وضعها تحت رقابة الدولة وقوانينها بوصفها "وكالات أجنبية" أو "عملاء أجانب" بموجب القول السائر والتسمية الجارية لهذه المؤسسات، وقال نيكيتا ميخالكوف إن "مركز يلتسين في يكاترينبورغ يسبب ضرراً لا يقل عن إذاعة صدى موسكو المحظورة ورئيس تحريرها السابق أليكسي فينيديكتوف المدرج في سجل العملاء الأجانب"، مؤكداً أنه من غير العدل عدم الاعتراف بمركز يلتسين كوكيل (عميل) أجنبي"، وذلك ما رد عليه المسؤولون عن الجهاز الصحافي التابع للمركز بالاستشهاد بما قاله المتحدث الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف من أنه لم يقرأ تصريحات نيكيتا ميخالكوف وأن وزارة العدل تسترشد بمعايير تحديد الوكالة الأجنبية المنصوص عليها في القانون.

وقال بيسكوف في تصريحات صحافية، "في الواقع تسببت بعض الحلقات المتعلقة بعمل هذا المركز في جدل واسع ومناقشات بين الجمهور، ومن ثم عليك أن تسترشد بالقانون بصرامة، إذ إنه في كل مرة يتم الإعلان عن شخص ما كعميل أجنبي".
ودأب ميخالكوف على مهاجمة هذا المركز ونشاطه منذ إنشائه عام 2015 وحتى الحلقة الأخيرة هذا الأسبوع من برنامجه واسع الانتشار "بيسوغون تي في" الذي يصدر منذ ما يزيد على 12 سنة، وقد استشهد ميخالكوف بكثير من الأنشطة التي يقدمها المركز ضمن برامجه متعددة الأوجه، ومنها ما قال ميخالكوف إنها تبدو على طرفي نقيض من السياسات العامة للدولة، بما في ذلك ما يتعلق بالأطفال دون السن القانونية. وانضم آخرون من المعروفين بعلاقاتهم الوثيقة مع الكرملين إلى حملة انتقادات هذا المركز ومنهم الإعلامي اليهودي الروسي فلاديمير سولوفيوف الذي سارع إلى تلقف ما قاله ميخالكوف بكثير من الحماسة والحدة، مؤكداً أن المركز "محاولة لإعادة تاريخ الأمس القريب بكل ما حفل به من تشوهات وخطايا". وأعاد سولوفيوف إلى الأذهان كثيراً من خطايا نظام يلتسين وما اقترفه عدد من أبرز أركان هذا النظام ومنهم أناتولي تشوبايس المسؤول عن تنفيذ برنامج الخصخصة الذي بيعت بموجبه معظم ثروات روسيا بأبخس الأثمان، وأندريه كوزيريف الذي سلم مفاتيح سياسة بلاده الخارجية إلى الدوائر الغربية من دون اعتراض يلتسين، وذلك ما تناوله الرئيس بوتين في أحد لقاءاته مع "منتدى سوتشي" بكثير من القسوة، منتقداً كل ما ارتكبه النظام من جرائم التفريط في مصالح الوطن، ولمزيد من توثيق هذه الممارسات التي يجب أن يسأل عنها رئيس الدولة آنذاك بوريس يلتسين، نورد ما استشهد به بوتين في إشارته إلى كوزيريف وزير خارجية يلتسين خلال سنوات ولايته الأولى الذي اعترف في حديث مع الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون بـ"عدم وجود مصالح وطنية لروسيا"، وأن أقصى ما تطمح بلاده إليه يقتصر على "المصالح الإنسانية العامة".
ومن هنا كانت سخرية الرئيس بوتين التي أوجزها بقوله، "إن ذلك يعنى أن نيكسون يمتلك رأساً بينما كان السيد كوزيريف وللأسف، يملك جمجمة أشبه بالعلبة بدلاً من الرأس".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

محاكمة تاريخية

وفيما راح الملايين من أبناء روسيا ومتابعي شؤونها في الخارج يستذكرون ما اتخذه يلتسين وأعضاء فريقه من قرارات ترقى في بعض جوانبها إلى حد "الخيانة العظمى"، انتفض كوزيريف من مقر إقامته في الولايات المتحدة التي انتقل إليها بعد سنوات من العمل وكيلاً لعدد من شركاتها للأدوية في روسيا محاولاً الرد ولكن بعد فوات الأوان، وكان الرئيس الأسبق يلتسين وفي محاولة من جانبه لغسل يديه من كوراث كوزيريف وسقطاته سارع إلى تغييره ببطريرك السياسة الروسية يفغيني بريماكوف في إطار استعداداته للترشح لولاية ثانية العام 1996.

والغريب أن أحداً في روسيا لم يتجاسر بعد على مبادرة الدعوة إلى محاكمة تاريخية لفترة يلتسين التي وصفها سولوفيوف "بالجرائم والخيانة"، في معرض انضمامه إلى حملة ميخالكوف ضد "مركز يلتسين"، على الرغم من كل ما يجري الكشف عنه تباعاً من أحداث جرت خلال تسعينيات القرن الماضي إبان سنوات حكم يلتسين.

 وكان سولوفيوف أعاد في برنامجه "على الهواء مباشرة" بتاريخ الـ 12 من يوليو (تموز) الحالي إلى الأذهان بعضاً من مشاهد تورط القائمين على هذا المركز في منطقة الأورال في كثير من جرائم التحالف مع المافيا ومن سماهم "اللصوص والأوغاد" (أورال ماش) أكبر قلاع الصناعة الثقيلة والمؤسسة الصناعية العسكرية في روسيا، والانفصاليين ممن كانوا يرومون الانفصال عن روسيا في تسعينيات القرن الماضي إلى جانب محاولتهم الراهنة لتشكيل "حزب الأورال"، مما يهدد سلامة الوطن ووحدة أراضيه ضمن محاولات "تفجير روسيا من الداخل" على حد تعبيره.

وإذ أكد سولوفيوف على أنه لا عودة للوراء، أنحى باللائمة على مركز يلتسين الذي وصفه بأنه "كريه الرائحة"، ووصف المسؤولين عنه بأنهم حفنة من "شذاذ الآفاق الحقراء"، وهي ترجمة مؤدبة لتعبيرات "خارجة".

وفيما طالب سولوفيوف بالإجابة عما طرحه من أسئلة وتساؤلات "المخرج العالمي العظيم ميخالكوف بطل العمل الاشتراكي"، على حد وصفه، عاد ليقول إنه "لا يطالب بإغلاق مركز يلتسين، لكنه ينادي بمراجعة نشاطه وتصحيح مساره".
وذلك موقف يقترب من الموقف الذي كشف عنه فلاديمير ميدينسكي من موقعه السابق كوزير للثقافة قبل تعيينه مساعداً للرئيس في الإدارة الحالية، وأعرب ميدينسكي عن تأييده لتوجهات وانتقادات ميخالكوف لمركز يلتسين، وأشار في مقالة له بعنوان "معركة يلتسين: كيف يمكننا تعلم دروس التاريخ" على موقع تاريخ روسيا إلى أن "هناك من يقدم في هذا المركز تاريخ روسيا كسلسلة من الهراء واليأس، وكأنما كانت روسيا على مدى 1000 عام، وكذلك أجيال عدة من أسلافنا خارج التاريخ، وكأن يلتسين كان وحده في وفاق مع هذا التاريخ".

وتابع الوزير ميدينسكي، "تجاوزوا كل الطوائف الأخرى. اختزلوا تاريخ روسيا. فصلوه كله عن روسيا بشكل عام، لأنه لا يتوافق مع عقائد شخص ما حول نوع من الحضارة الأوروبية". وتطرق إلى محاولات إيهام قرينة يلتسين بأن ميخالكوف يحاول إغلاق المركز وتشويه صورة يلتسين، فقال إن المخرج الروسي حسناً فعل بوأد هذه المحاولات، بإرساله رسالة مفتوحة إلى قرينة الرئيس الأسبق يقترح فيها إعادة النظر في برامج نشاط "مركز يلتسين" من أجل "تحقيق قدر أكبر من الموضوعية". وذكر أن هناك من يحاول "بث سمومه من أجل تدمير الوعي القومي لمئات الأطفال كل يوم".
أما عن تعليق ناينا يلتسين وردها على هذه الرسالة فلم يخرج عن اتهام ميخالكوف بالكذب، مؤكدة أنه "لم يزر يوماً مركز يلتسين".

فترة حالكة

وفيما انبرى كثيرون للرد على ميخالكوف ممن أشير إليهم بأصابع الاتهام ومنهم نائب المدير التنفيذي لمركز يلتسين نيكيتا سوكولوف الذي هدد برفع دعوى قضائية ضده بسبب تصريحاته عن المركز، بادر ميخالكوف بكتابة رسالة إلى قرينة يلتسين قال فيها، "إنني أعرب عن شديد الأسف لأنني سببت لكم الحزن، لكنني متأكد من أنكم تعرضتم للتضليل من خلال تفسير كلماتي من زاوية معينة، ولم أتحدث عن ذكرى بوريس نيكولايفيتش يلتسين وليس عن نشاطه كرئيس، ولكن عن كيفية إعداد وتنفيذ برامج ذات محتوى تاريخي مشكوك فيه باستنتاجات تاريخية مشكوك فيها"، أما محافظ مقاطعة سفيردلوفسك يفغيني كويفاشيف فانبرى للدفاع عن يلتسين بقوله إنه "حكم البلاد في الأوقات الصعبة، وكان عليه اتخاذ قرارات صعبة، ولكن وشأنه في ذلك شأن كل مواطن أورالي حقيقي، تحمل هذا العبء"، كما أعرب عن فخره بإسهامه في إنشاء مركز يلتسين الذي قال إنه "محل فخر من جانب كل أبناء المقاطعة".
وبهذه المناسبة نشير إلى أن ميخالكوف كان في بداية حملته التي شنها في أعقاب افتتاح "مركز يلتسين" عام 2015 أكثر مهادنة مما هو عليه الآن، وآنذاك اكتفى ميخالكوف بالإشارة في رسالته إلى قرينة الرئيس الأسبق بقوله إن هناك كثيرين لا يريدون تشويه سمعة بوريس يلتسين، ولكنهم في الوقت ذاته لا يتفقون "مع تفسير متحيز وأيديولوجي لتاريخنا"، وأكد "إذا كنتم تقترحون التفكير في كيفية تعديل برامج مركز يلتسين من أجل محاولة تحقيق قدر أكبر من الموضوعية فسيكون هذا هو التصرف الأكثر حكمة للدفاع عن اسم وذاكرة بوريس نيكولايفيتش" (يلتسين).
وهكذا وبعد طول سبات وبالقدر نفسه الذي أفاقت فيه روسيا لنفسها بعد حقبة التسعينيات التي يبدو أن هناك ما يشبه الاجماع حول إدانتها واعتبارها فترة من أحلك فترات التاريخ الروسي المعاصر، تجنح الأوساط الاجتماعية في روسيا اليوم إلى تبني ما أعلنه ميخالكوف من مواقف يكشف فيها عن كثير مما لا تزال موسكو تتردد أمام الكشف عنه من أخطاء، بل وخطايا كثيرين من كبار رموز الدولة الذين لاذوا بالفرار لاستيطان ما تسميها موسكو الرسمية "البلدان غير الصديقة"، وذلك مما يضطر الإعلام الروسي إلى تناوله من آن لآخر كما فعل أخيراً من خلال تبنيه لبرامج وطنية التوجه، على غرار "بيسوغون تي في" الذي تحول من برنامج واسع الانتشار على تطبيق "يوتيوب" ليجمع بينها وبين كل شاشات القنوات الإخبارية الرسمية الروسية ومنها "روسيا-24" و"روسيا-2"، تأكيداً لاتفاقها في المحتوى والمضمون مع السياسات الجديدة للدولة الروسية.

المزيد من تقارير